
آيات الله في الجهاد
صلة بن الأشيم رحمه الله
قال الذهبي: الصلة بن الأشيم، الزاهد العابد القدوة أبو الصهباء العدوي البصري، زوج العالمة معاذة العدوية. روى عن ابن عباس حديثا واحدا، حدث عنه أهله معاذة والحسن وحميد بن هلال وثابت البناني وغيرهم.
وقال ابن كثير: صلة بن الأشيم من كبار التابعين من أهل البصرة، وكان ذا فضل وورع وعبادة وزهد، كان يصلي حتى ما يستطيع أن يأتي الفراش إلا حبوا، وله مناقب كثيرة جدا، منها:
أنه كان يمر عليه شباب يلهون ويلعبون فيقول: أخبروني عن قوم أرادوا سفرا فحادوا في النهار عن الطريق وناموا الليل فمتى يقطعون سفرهم ؟ فقال لهم يوما هذه المقالة، فقال شاب منهم: والله يا قوم إنه ما يعني بهذا غيرنا، نحن بالنهار نلهوا وبالليل ننام، ثم تبع صلة، فلم يزل يتعبد معه حتى مات.
ومر عليه فتى يجر ثوبه فهَمَّ أصحابه ان يأخذوه بألسنتهم فقال: دعوني أكفكم أمره، ثم دعاه فقال: يا ابن أخي ! لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك ؟ قال: أن ترفع إزارك، قال: نعم، ونعمت عين، فرفع إزاره، فقال صلة: هذا أمثل مما اردتم، لو شتمتموه لشتمكم.
ولما أهديت معاذة إلى صلة، ادخله ابن أخيه الحمامَ، ثم ادخله بيتَ العروس بيتا مطيبا، فقام يصلي، فقامت تصلي معه، فلم يزالا يصليان حتى برق الصبح، قال: فأتيته فقلت له: أي عم ! أهديت إليك ابنة عمك الليلة،
فقمت تصلي وتركتها؟ قال: إنك أدخلتني بيتا أول النهار أذكرتني به النار، وأدخلتني بيتا آخر النهار أذكرتني به الجنة، فلم تزل فكرتي فيهما حتى أصبحت.
وقال له رجل: ادع الله لي، فقال: رغبك الله فيما يبقى، وزهدك فيما يفنى، ورزقك اليقين الذي لا يركن إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه، انتهى كلام ابن كثير.
وعن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يكون في أمتي رجل يقال له صلة يدخل الجنة بشفاعته كذا وكذا، قال الذهبي: هذا حديث معضل.
وعن معاذة قالت: كان أبو الصهباء يصلي حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفا .
منديل من عند الله:
قال صلة: جعت مرة في غزاة جوعا شديدا فبينما أنا أسير ادعوربي وأستطعمه إذ سمعت وجبة من خلفي فالتفت، فإذا أنا بمنديل أبيض فإذا فيه دوخلة ملآنة رطبا فأكلت منه حتى شبعت، وأدركني المساء، فملت إلى دير راهب، فحدثته الحديث، فاستطعمني من الرطب، فأطعمته، ثم إني مررت على ذلك الراهب بعد زمان، فإذا نخلات حسان، فقال: إنهن لمن الرطبات التي أطعمتني، وجاء بذلك المنديل إلى امرأته، فكانت تريه للناس.
قال جعفر بن زيد: كنا في غزاة وفي الجيش صلة بن أشيم… و ذهبت بغلته بثقلها فقال: اللهم إني أسألك أن ترد علي بغلتي بثقلها، فجاءت حتى قامت بين يديه، قال جعفر: فلما التقينا العدو، حمل هو وهشام بن عامر فصنعا بهم طعنا وضربا، فقال العدو: رجلان من العرب صنعا بنا هذا فكيف لو قاتلونا كلهم ؟ أعطوا المسلمين حاجتهم – يعني انزلوا على حكمهم.
عن حميدبن هلال عن صلة قال: خرجنا في قرية وأنا على دابتي في زمان فيوض الماء، فأنا أسير على مسناة فسرت يوما لا أجد ما آكل، فلقيني علج يحمل على عاتقه شيئا، فإذا هو خبز، فقلت أطعمني، فقال: إن شئت، ولكن فيه شحم خنزير، فتركته، ثم أتيت آخر، فقلت أطعمني، قال: هوزادي لأيام، فإن نقصته أجعتني، فتركته، فو الله إني لأسير إذ سمعت خلفي وجبة كوجبة الطير، فالتفت فإذا هو شيء ملفوف في سِب أبيض، فنزلت إليه، فإذا دوخلة من رطب في زمان ليس في الأرض رُطبة، فأكلت منه، ثم لففت ما بقي وركبت الفرس، وحملت معي نواهن، قال جرير بن حازم: فحدثني أوفى بن دلهم قال: رئيت ذلك السِّبَّ مع امرأته فيه مصحف ثم فقد بعد. والوجبة: صوت الساقط، والمراد منه هنا مطلق الصوت. و السِّبُّ: الثوب الرقيق.
مع الأسد:
ابن المبارك: حدثنا مسلم بن سعيد أخبرنا حماد بن زيد أن أباه أخبره قال: خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة فنزلوا، فقلت لأرمقن عمله، فصلى ثم اضطجع، فالتمس غفلة الناس ثم وثب فدخل غيضة، فدخلت، فتوضأ وصلى، ثم جاء أسد حتى دنا منه فصعدت شجرة، أفتراه التفت إليه حتى سجد، فقلت الآن يفترسه فلا شيء، فجلس ثم سلم، فقال ياسبع ! أطلب الرزق بمكان آخر، فولى وإن له لزئيرا تصدع منه الجبل، فلما كان عند الصبح جلس فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال: اللهم إني أسئلك أن تجيرني من النار، أومثلي يجترأ أن يسئلك الجنة.
ابن المبارك عن السري بن يحيى حدثنا العلاء بن هلال أن رجلا قال لصلة: يا أبا الصهباء ! رئيت أني أُعطيت شهدة وأُعطيتَ شهدتين، فقال: تستشهد وأنا وابني، فلما كان يوم يزيد بن زياد لقيتهم الترك بسجستان، فانهزموا، فقال صلة: يا بُني ! ارجع إلى أمك، قال: يا أبه ! تريد الخير لنفسك وتأمرني بالرجوع ! قال فتَقدَّمْ، فتقدمَ، فقاتل حتى أصيب، فرمى صلة عن جسده، وكان راميا حتى تفرقوا عنه، واقبل حتى قام عليه، فدعى له ثم قاتل حتى قتل. قلت ( القائل الذهبي ) وكانت هذه الملحمة سنة اثنتين وستين .
وقال ابن كثير: كان صلة في غزاة ومعه ابنه فقال له: أي بني تقدم، فقاتل حتى احتسبك فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم صلة فقاتل حتى قتل، فاجتمع النساء عند امرأته معاذة العدوية فقالت: إن كنتن جئتن لتهنينني فمرحبا بكن، وإن كنتن جئتن لتعزينني فارجعن.
فروة بن مجاهد رحمه الله:
اختلاف في اسم أبيه بين مجاهد ومخالد، قال البخاري: فروة بن مجالد مولى اللخم، وكان يسكن كفرغما بالشام، وكانوا لا يشكون أنه من الأبدال، مستجاب الدعوة. وقال الجزري: فروة بن مجالد، مولى اللخميين، من أهل فلسطين، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم يجعل حديثه مرسلا، روى عنه حسان بن عطية، وكان فروة هذا يعدونه من الأبدال، مستجاب الدعوة. وقال ابن حجر: فروة بن مجاهد اللخمي مولاهم الفلسطيني، روى عن سهل بن معاذ الجهني وعقبة بن عامر وأبي عمران الأنصاري، روى عنه إبراهيم بن أدهم وأسيد وحسان بن عطية والمغيرة بن المغيرة، وقال البخاري: فروة بن مجالد مولى للخم الخ. وقال ابن عبد البر: فروة بن مجالد مولى اللخميين، من أهل فلسطين، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: وأكثرهم يجعل حديثه مرسلا، وكان معدودا من الأبدال، مستجاب الدعوة.
في الإصابة: أخرج ابن شاهين من طريق إسماعيل بن عباس عن اسيد بن عبد الرحمن عن فروة بن مجاهد عن سهل بن معاذ الجهني قال: غزوت مع أبي الصائفة فنزلنا على حصن، فضيق الناس المنازل، وقطعوا الطرق، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم مناديا، فنادى في الناس: إن من ضيق منزلا أوقطع طريقا فلا جهاد له… وأخرج أحمد من طريق إسماعيل هذه بهذا الإسناد فقال فيه: بعد قوله: وقطعوا الطرق، فقام معاذبن أنس في الناس، فقال: أيها الناس، إنا غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا فضيق الناس المنازل… الخ
تكسر القيود بدعاء فروة:
قال بن كثير: كان ( فروة بن مجاهد ) من الأبدال، أسر مرة وهوفي غزوة هو وجماعة معه، فأتوبهم الملك، فأمر بتقييدهم وحبسهم في المكان والاحتراز عليهم إلى أن يصبح، فيرى فيهم رأيه، فقال لهم فروة: هل لكم في المضي إلى بلادنا؟ فقالوا: وما ترى ما نحن فيه من الضيق ؟ فلمس قيودهم بيده فزالت عنهم، ثم أتى باب السجن، فلمسه بيده فانفتح، فخرجوا منه ومضوا، فادركوا جيش المسلمين قبل وصولهم إلى البلد.
شهداء في جنازة عمر بن عبد العزيز:
روى ابن عساكر في ترجمة عبد الصمد بن إسماعيل بسنده عن عمير بن حبيب السلمي قال: أسرت أنا وثمانية في زمن بني أمية، فأمر ملك الروم بضرب رقابنا، فقتل أصحابي وشفع فيَّ بطريق من بطارقة الملك، فأطلقني له، فأخذني إلى منزله، وإذا له ابنة مثل الشمس، فعرضها علَيَّ على أن يقاسمني نعمته وأدخل معه في دينه، فابيت، وخلت بي ابنته، فعرضت علي فامتنعت، فقالت: ما يمنعك من ذلك؟ فقلت: يمنعني ديني، فلا أترك ديني لامرأة ولا لشيء، فقالت: تريد الذهاب إلى بلادك ؟ قلت: نعم، فقالت: سر على هذا النجم بالليل واكمن بالنهار، فإنه يلقيك إلى بلادك، قال: فسرت كذلك، قال: فبينا أنا في اليوم الرابع مكمن إذا بخيل مقبلة، فخشيت أن تكون في طلبي، فإذا أنا بأصحابي الذين قتلوا، ومعهم آخرون على دواب شهب، فقالوا: عمير؟ قلت: عمير، فقلت لهم: أوليس قد قتلتم ؟ قالوا: بلى، ولكن الله عز وجل نشر الشهداء واذن لهم أن يشهدوا جنازة عمر بن عبد العزيز، قال: ثم قال لي بعضهم: ناولني يدك يا عمير! فأردفني، فسرنا يسيرا ثم قذف بي قذفة وقعت قرب منزلي بالجزيرة من غير ان يكون لحقني شر.
والبطريق: القائد من قواد الروم، والحاذق بالحرب، والعالم عند اليهود. ورئيس من رؤساء الأساقفة. ولعل المراد به الأول. والله أعلم.
أجسام الشهداء:
ذكر ابن الجوزي في المنتظم وابن الأثير في الكامل: أن في سنة السادسة والسبعين بعد المأتين للهجرة انفرج تل بنهر الصلة في أرض البصرة يعرف بتل بني شقيق عن سبعة أقبر في مثل الحوض، وفيها سبعة أبدان صحيحة أجسادهم وأكفانهم يفوح منهم ريح المسك، أحدهم شاب وله جمة، وعلى شفته بلل كأنه قد شرب ماء الآن، وكأن عينيه مكحلتان، وبه ضربة في خاصرته، وأراد أحدهم أن يأخذ من شعره شيئا، فإذا هوقوي الشعر كأنه حي، فتركوا على حالهم .
والتل: ما ارتفع من الأرض عما حوله، وهو دون الجبل. والأقبر: جمع قبر.
والجمة: ما يتدلى من شعر الرأس إلى المنكبين.
مِن قيد الإفرنج:
كان الحافظ الكبير بقي بن مخلد الأندلسي رجلا صالحا عابدا زاهدا، مجاب الدعوة، جاءته امرأة فقالت: إن ابني قد أسرته الإفرنج، وإني لا أنام الليل من شوقي إليه، ولي دُويرة أريد أن أبيعها لأستفكه ( أي لأحرره من الأسر ) فإن رأيت أن تشير علی أحد يأخذها لأسعی في فكاكه بثمنها، فليس يقر لي ليل ولا نهار، ولا أجد نوما ولا صبرا ولا قرارا ولا راحة. فقال: نعم انصرفي حتی أنظر في ذلك إن شاء الله تعالی.
وأطرق الشيخ، وحرك شفتيه يدعو الله عزوجل لودها بالخلاص من أيدي الفرنج، فذهبت المرأة فما كان إلا قليلا حتی جاءت الشيخَ وابنها معها، فقالت: اسمع خبره يرحمك الله. فقال: كیف كان أمرك؟ فقال: إني كنت فيمن نخدم الملك ونحن في القيود، فبينما أنا ذات يوم أمشي إذ سقط القيد من رجلي، فأقبل علَيَّ المُوكل بي، فشتمني وقال: لمَ أزلتَ القيد من رجليك ؟ فقلت: لا والله ما شعرت به ولكنه سقط ولم أشرع به، فجاءوا بالحداد، فأعادوه وأجادوه، وشدوا مسماره وأبدوه، ثم قمتُ فسقط أيضا، فأعادوه وأكدوه، فسقط أيضا، فسألوا رهبانهم عن سبب ذلك. فقالوا: له والدة؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنها قد دعت لك وقد استجيب دعاؤها، أطلقوه، فأطلقوني وخفروني حتی وصلت إلی بلاد الإسلام. فسأله بُقي بن مخلد عن الساعة التي سقط فيها القيد من رجليه، فإذا هي الساعة التي دعا فيها الله له ففرج عنه.
هكذا كانت ولا زالت الجيوش الإسلامية مملوءة من الصلحاء، الذين لا يريدون إلا ابتغاء رضوان الله، فقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية: ۹/۲۰۸ أن يزيد بن مهلب لما فتح جرجان صلحا بعد سعيد بن العاص، فأصاب يزيد أموالا كثيرة، كان من جملتها تاج فيه جواهر نفيسة، فقال: أترون أحدا يزهد في هذا ؟ قالوا: لا نعلمه، فقال: والله إني لأعلم رجلا لو عرض عليه هذا وأمثاله لزهد فيه، ثم دعا بمحمد بن واسع، وكان في الجيش مغازيا، فعرض عليه أخذ التاج، فقال: لا حاجة لي فيه، فقال: أقسمت عليك لتأخذنه، فأخذه وخرج به من عنده، فأمر يزيد رجلا أن يتبعه فينظر ماذا يصنع بالتاج ؟ فمر بسائل فطلب منه شيئا فأعطاه ] التاجَ [ بكماله وانصرف، فبعث يزيد إلى ذلك السائل، فأخذ منه التاج وعوضه عنه مالا كثيرا، انتهى.
والخبير بأحوال الجهاد الحاضر يعلم وجود أولياء الله المتقين في مختلف المناطق، ويسمع كثيرا من آيات الله في الجهاد الجاري، هذه الكرامات وجميعها منبعها أتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم في القول والعمل، فإنه العروة الوثقى.
وفي الختام أود أن أصرح بأن جمع هذه القصص من كتب السلف الصالح رحمهم الله كان لتحريض العامة والخاصة على الجهاد، واثبات أن الجهاد الإسلامي معجزة من معجزات المصطفي صلى الله عليه وسلم، لا غير، وليعلم الناس جميعا أن صفوف الجهاد كانت ولا زالت مملوءة من الصلحاء والأولياء، فمن هو أتقى وأولى من المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي شارك بنفسه في المعارك، ومن هو أفضل من بعده من الصحابة الكرام الذين خاضوا المعارك وفتحوا العالم، فالجهاد مأوى الكاملين من المسلمين، ألم تروا إلى بلال بن أبي رباح رضي الله عنه يترك الأذان في المسجد النبوي ويلحق بقافلة الغزاة في الشام، وأن الله لا يدخل حب الجهاد إلى قلب منافق، ولا يحضر إلى المعركة إلا من كان قلبه مملوء من النور الرباني، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه – مات على شعبة من النفاق. فليختر المسلم له السبيل، ولينج نفسه من النفاق كيفما يشاء، ولا يجد سبيلا أمثل من سبيل الجهاد، فهلموا إليه، وارتقوا في درجات الجنة المئة، التي أعدها الله للمجاهدين، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض.
نسئل الله العلي القدير التوفيق لما يحبه ويرضاه، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.