مقالات الأعداد السابقة

مُفْتَرَق: وفاء وغدْر!

الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد: في هذا الطريق الذي وصلت إليه أفغانستان، سوف تتخذ كل من الطائفتين قراراتٍ تناسب حالها:
فالأفغان -الفاتحون المنافحون عن الدين والبلاد- سوف يعملون على إبقاء الصف موحداً، وعلى إخراج آخر فرنجي محارب دخل أرض الأفغان، وعلى وضع خطة عامة، عادلة، شاملة، لمستقبل أفغانستان الإسلامي المشرق إن شاء الله.
والفرنجة الأمريكان: سيمكرون حتى آخر رمق للبقاء، أو لإبقاء رجال أفغان في النسب، فرنجة في العقيدة، وفي اللباس.
أما في ماوراء الستور فللفرنجة الأمريكان مكرٌ خطير وعمل مدروس ألا وهو: شراء الضمائر والإيمان بالعهود الكاذبة والماديات الفانية. إنهم يحاولون دائماً -وخاصة بعد أن أيقنوا بالهزيمة في الحرب المباشرة- شراء أفراد يستعملونهم في مؤامراتهم الاستعمارية، وليرموا بهم المجاهدين الأفغان في المعركة الكاشفة، وليفرّقوا بهم الصف في المعركة الحاسمة الخطيرة.
وقد باع أناسٌ {اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله} أنفسهم للأعداء؛ شرذمة منهم سمّوهم بأقبح اسم في تاريخ الأفغان “أربَكي”، وطائفةٌ أخرى سموا أنفسهم بمختلف الأسماء، وكل منهما حارب المجاهدين، وحارب التاريخ، وحارب الوحدة، وحارب القوة. لكن قَدَّر الله لهم الفشل والهزيمة كما قدّر لأسيادهم الفرنجة، وسُجل لهم في صفحات التاريخ عار، وقولة خالدة: {إنهم ساء ماكانوا يعملون}.

لماذا هذا الإنفاق والمحاولات:
لكن قد يسأل الإنسانُ لماذا الإنفاق على هذا المكر؟ ولماذا هذه المحاولات؟ ولماذا كان للأفغان قيمة غالية في سوق الاستعمار؟
وكما يعلم الناس أن الأفغان ليست لديهم تلك الإمكانيات التي توفرت لأقوام العالم، فليس هناك تعليم على المستوى العالمي، ولا تدريب، ولا ثقافة؛ ومع ذلك تراهم يباعون في سوق الاستعمار بهذه القيمة الغالية!
وإن كنت -أيها القارئ- تريد الإجابة فاستمع ولاتَمُلَّ، وكن معي حتى آخر البيان.

لقد كانت الخلافة العثمانية آخر منارة، وآخر رمز لمجد المسلمين خاصة والإنسانية عامة، وبعدها، سيطرت القوات الغاصبة على ميراث الخلافة العثمانية، ونالت القوات مرامها في كثير من تركة الخلافة، لكن أياً من القوى عبر التاريخ لم تنل مرادها في الاستيلاء على أرض الأفغان الصغيرة في الحجم. لقد حاول كل الغزاة، وآخرهم الفرنجة الأمريكان، فما استطاعوا وفشلوا في معركتهم على أرض الأفغان، وتزلزلت قلوبهم. ولازال فيهم رمق، يحاربون به، ولهم بعض الرايات في الميدان، وشبابنا عازمون على اقتلاعها، ومحوها عن أرض الأفغان، وهم فاعلون إن شاء الله.

الحل البديل للاحتلال:
لما فشلت أمريكا، وولى جنودها هاربين من الميدان، مكرت مكرها الخطير، واحتالت بشراء بعض الأفغان، ليجادلوا إخوانهم المسلمين، محاولين شراء بعض القادة، ليدمّروا البيت من الداخل، فالصفقة رابحة بالنسبة لهم مهما ارتفعت قيمتها؛ لأنهم مضطرون لجلب جنودهم من بلادهم لاستمرار الحرب، فإذا وجدوا جنوداً لهم من بني جلدتنا هنا، فسيكون جنودهم في منأى عن أوار الحرب. وبهذا لن تكون لهم خسائر في الأرواح، وإن خسروا المال.
هذا في الجنود، وأما في شراء القادة، ومن لهم مقام وكلمة مسموعة داخل المجاهدين فهو غرض أشر وأخطر؛ لأنهم سيستفيدون منهم لتشتيت القوات والجيوش التي عجزت أمريكا عن منازلتهم عبر السنوات الأربعة العشرة الماضية، وهو هدف بالنسبة للأمريكان.
فليعلم الأفغان سر ارتفاع قيمتهم، وأن ما يُقَدَّمُ لهم من الماديات؛ فانٍ وإن كثُر، وأن عار الخيانة سيبقى عبر القرون في الحياة الدنيا، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 26 ). فليكونوا أوفياء لهذا الدين، وأفياء للتاريخ، وأوفياء للتضحيات، وليثبتوا مع الأبطال الذين لازالوا على العهد وما بدّلوا تبديلاً.

للإرتزاق تاريخ:
شراء الذمم عادة الاستعمار القديمة، وهناك قصة فيها عبرة وحسرة، ذكرها العلامة السيد علوي بن طاهر الحداد في كتابه “المدخل إلى تاريخ الإسلام في الشرق الأقصى” ص 177 ، فقال: (جاء في مجلة الرابطة (ص 31- 32 ، ج 1) مايلي: “ذكرنا فيما سبق انجفال المتطوعين من العرب للجهاد في سبيل الله في “بر سعد الدين” ولا سيما في زمن الإمام أحمد بن إبراهيم من “اليمن” و”حضرموت” و”المهرة”. وقد استدار الزمن وتقلبت الأمور، وظهر من بعض الشافعية الجبلية من أهل اليمن وبعض بوادي حضرموت متطوعون في سبيل الشيطان، وذلك أنه بعدما استولت إيطاليا على سواحل بلاد الصومال- من “هبيا” إلى “كيلوَه” واغتصبتها من أيدي العرب آل سعيد بن سلطان العمانيين- رامت إيطاليا أن تتوغل في داخل البلاد، فشَنَّ الصومال عليها الغارات، وألفوا العصابات، وأخذوا يهاجمون المسالح التي تقيمها في البر، وينهبون قوافلها ويفعلون بها الأفاعيل، وعجز أبناء إيطاليا عن متابعتهم في قفارهم وبواديهم حيث يشتد الحر والعطش، وما كان الصومال يستعلمون غير النشاب والرماح، ومع ذلك فقد أقلقوا راحة إيطاليا وضاقت بهم ذَرعاً، حتى فتقت لها الحيلة سنة 1324هـ: أن تحاربهم بالعرب لِتَعَوُّدِهم القَفْر والوعر، واحتمالهم التعب والعطش والحر، ووجدت لها سماسرة باعوا دينهم بحطام من الدنيا، فأخذوا يستأجرون لها جنوداً من الجبالية من جبال اليمن التي تلي “عدنَ” و من بوادي “حضر موت” الجبلية، فجاهدوا لها إخوانَهم المسلمين حتى أخضعوهم لها، ولقد بلغنا أن الصومال منهم كان يقول للعربي وهو يطارده ببندقيته: أَبَّان! أنا مسلم! فلا يُجيبُه إلا برصاصة تخترق جسمه. ومعنى “أبّان”: سيدي. وما زال أولئك الأوغاد يتكاثرون لدى إيطاليا حتى بلغوا أُلوفاً يقاتلون في سبيل الطاعوت؛ حتى بردت جمرة أمة الصومال الإسلامية، فأخضعوهم لإيطاليا الكاثوليكية! فقابِلْ بين سلف العرب وهذا الخلف الخالف….) علوي.
ونفس المكر جارٍ في جبال الأفغان. فهل من دُعاةٍ إلى الصمود، وإلى الإيمان، يدعون الناس بالحكمة والموعظة الحسنة؟

وللمكيدة جذور:
إن الدعوة إلى خيانة الدين والوطن ليس بِدْعا في أعمال الفرنجة والاستعمار، فقد ذكر صاحب كتاب ” حروب c i a السرية”: (أن المجاهدين الأفغان لما خرجوا من معركة الروس فاتحين، عملوا مجلساً للتحاور والوحدة بين الأحزاب السبعة، فحاولت cia محاولة سريعة لإفشال هذا المجلس، حتى لا يتفق الأحزاب فيما بينهم، وأنفقت لذلك مبلغاً كبيراً).
مع أن عار الهزيمة لم يكن عليها، إنما كان على الروس، لكنها كانت تحذر من مستقبل تلك الجيوش المؤمنة المدرّبة، فعملت المكائد العجيبة لتفريق الصفوف. والآن، حيث تواجه أمريكا كلا الخطرين: خطر عار الهزيمة، وخطر المستقبل، فإنها عائدة لفعلتَها الخاسرة، وخسرانها متحقق، لأن المجاهدين مؤمنين بنصر الله القوي الغالب القائل:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}(النمل : 50 ، 51 ).

ومن القرآن نداء:
وهذه مقتطفات من آيات القرآن الكريم، وتفسيرها، لعلها تفيد بعض القلوب، فتمنعها من الركون، وبعض الأقدام فلا تزِل.
قال الله عز وجل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ( النحل: 91 ، 92 ، 93 ).
قال القرطبي: النقض والنكث واحد، والاسم النكث والنقض، والجمع الأنكاث، فَشَبَّهَتْ هذه الآيةُ الذي يحلفُ ويعاهد ويُبْرِمُ عهدَه، ثم ينقضه بالمرأة تَغْزِل غزلها وتفتله مُحْكَمًا ثم تَحُلُّه.
ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت عمرو كانت تفعل ذلك. والدخل: الدغل والخديعة والغش. قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل.
{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ} قال المفسرون: نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت أخرى، ثم جاءت إحداهما (إلى) قبيلة كثيرة قوية فداخلتها- غدرت الأولى ونقضت عهدها ورجعت إلى هذه الكبرى- قاله مجاهد- فقال الله تعالى: لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى، أو أكثر أموالاً، فتنقضون أيمانكم إذا رأيتم الكثرة والسعة في الدنيا لأعدائكم المشركين، والمقصود النهي عن العَود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم. قال الفراء: المعنى: لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم، أو لقلتكم وكثرتهم، وقد عززتموهم بالأيمان.
(أَرْبى ) أي أكثر، من ربى الشيء يربو إذا كثر.
والضمير في” بِهِ” يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به. ويحتمل أن يعود على الرباء، أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك من يجاهد نفسه فيخالفها ممن يتبعها ويعمل بمقتضى هواها.
{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} (النحل:94).
قال القرطبي: قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} كرر ذلك تأكيداً. {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها} مبالغة في النهي عنه لعظم موقعه في الدين وتردده في معاشرات الناس، أي لا تعقدوا الأيمان بالانطواء على الخديعة والفساد، فتزل قدم بعد ثبوتها، أي عن الإيمان بعد المعرفة بالله. وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه، لأن القدم إذا زلت نَقَلَتِ الإنسانَ من حال خير إلى حال شر، والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة: زلت قدمُه، كقول الشاعر:
سيمنع منك السبق إن كنت سابقا *** وتقتل إن زلت بك القدمان
ويقال لمن أخطأ في شيء: زلّ فيه، ثم توعد تعالى بعد، بعذاب في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة.

وأخيرا فيا أيها الأفغان!
إنكم الآن في ذروة سنام الإسلام، وأرفع مكان منه، وأنتم اليوم آخر فرسان الكتبية التي تقاتل لحماية الدين الحنيف والأرض الطاهرة، وأنتم آخر عقبة أمام أعداء الإسلام والإنسانية، وأنتم رجاء المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، فاعرفوا فضلكم، واعرفوا نعمة الله عليكم إذ وفقكم للصمود أمام الطواغيت وكبار الفراعنة والمستعمرين، فلا تنسوا الفضل والمقام الذي وهبكم إياه الوهاب، واكفروا بكل دين سوى دين الإسلام، واطردوا كل هوى سوى حب الوحدة والدين، واصبروا على الفقر الذي حَرَّرَكم من العبودية، فلا تبيعوه بالغنى الذي يسوقكم إلى هوان الذل والعار وسبة التاريخ. هذا هو السبيل فاسلكوه، وادعوا الناس إليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى