صورة وصفية للشهيد القارئ فضل الله سليم رحمه الله
ما أحسن ما قال فيلسوف الشرق، والعالم العبقري، والمفكر الإسلامي الكبير السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى: «إن شخصيات الشرق والعلماء المفكرون سيحيون إذا ما ماتوا ورحلوا عن هذه الدنيا». وحقاً ما قال حيث لا تُقدر الشخصيات العظيمة في الشرق وهم أحياء يرزقون، ولايعرفهم أحد، بل يُنتقدون ولا يُبجّلون ولا يكرَمون.
ولكن عندما يرحل داعية أو عالم رباني أو مفكر إسلامي، نرى المراثي تنثال كالمطر الغزير، فليس بإمكان أحد أن يحصي عدد جلسات التأبين التي تقام لذكراه، فكلٌ يبدأ برثائه، والعام والخاص يتلهفون ويقولون: ليتنا استفدنا من هذه الشخصية العلمية والسياسية والجهادية في حياته، يا ليتنا كنا نعرفه من قبل! ليتنا كرمناه وبجّلناه في حياته! ليتنا روينا عطشنا من ينابيع علومه العذبة وياليت… وياليت…
ولكن ما هذه إلا تحسّرات خاوية لا فائدة منها، فإنه قد فات الأوان، ولم يعد بين أيدينا سوى أيام معدودات ليعيش المرء ويُختبر ويخدم الإسلام والمسلمين.
وأنا بعد هذه المقدمة التي طالت نسبياً أجدني أوجز سيرة شهيدنا الذاتية في كلمات مختصرة، لنعرف كيف بدأ هذا العملاق طفلاً فشاباً فكهلاً، وهو في كل مرحلة يُمثّل الطموح اللانهائي، وكأنه يرى في مشارف الأفقِ البعيدة خطاً يجب أن يصل إليه، وكلما ظن أنه اقترب وجد البعد لا يزال، لأنّ مطامحه تتجدد بتجدد أعماله، فما ينتهي من عمل إلا ويفسح المجال إلى عمل غيره، مما يذكرنا بقول الشاعر:
هل رأيت الراكبَ السبّاق يعدُو خلف ظله
جاهداً يرهقه الظل ويغريه بنوْلِه
هو منه خطوة لكنها كالكون كله
هكذا الإنسانُ في الدنيا ضلولاً خلف عقله!
ومازال الساعي يكدحُ ويكدحُ حتى يصل إلى الشاطئ المحتوم، ولكل سائلة قرار.
لاغرو بأن الشهيد القارئ “فضل الله سليم” كان مجاهداً غريباً، قضى معظم حياته في الجهاد، وعاف الركون إلى الحياة وكان مثالاً للتضحية والجهاد والمثابرة.
كان في بداية الأمر طالب علم شرعي، ثمّ صار مجاهداً عادياً، ثم صار قائد جماعة من المجاهدين، ثمّ صار مديراً لمديرية جوشتي، ولكن قلّ من عرفه وعرف سموّ خلقه، وقدره حق قدره.
ولد الشهيد القاري فضل الله في مديرية بتي كوت بولاية ننجرهار يوم الإثنين في شهر صفر عام 1400هـ.ق، وبعد مضي 7 شهور من ولادته فقد أباه، فعانى منذ صغره الصعوبات والمعضلات.
هاجر عام 1406هـ مع عائلته وأخيه الأكبر الشيخ فتح الله فاتح إلى دار الهجرة، وعلى الرغم من صغر سنه دخل المدارس الدينية، وبدأ يحفظ القرآن الكريم، إلى أن حفظ القرآن الكريم كاملاً عام 1414هـ.ق، في مدرسة تعليم القرآن بنوشار، ثم بادر بعد ذلك بتعلم الدروس الدينية في المدارس المختلفة كـ ” دارالعلوم الإسلامية” بزاخيل، و”تعليم القرآن” ببير سباق. ولمّا كان في المرحلة المتوسطة من تعليم العلوم الشرعية، سطع نجم الإمارة الإسلامية بقندهار وسبين بولدك، وحينها أغلق كتبه وقال: ها قد آن موعد العمل بما علمت، والتحق بصفوف الجهاد مع الشهيد القاري محمد إسماعيل قلندر رحمه الله، والشهيد المولوي عبد الأحد رحمه الله والشيخ غلام الرحمن الحيدري، والشيخ عبدالرحمن حبيب زي، والشيخ خليل الرحمن في منطقة تشار آسياب بولاية لوجر.
وبعدما فتح المجاهدون كابول، كان الشهيد يعمل كمجاهد مع جماعة باباجان، ثم صار أمير جماعة في ولاية ننجرهار، وأصيب إصابة بالغة في إحدى المعارك الدائرة في منطقة بغرامي، ولكنه بمجرد أن عافاه الله رجع إلى الخنادق، إلى أن هاجمت أمريكا بلاد الإسلام، وعاثت فيها الفساد، فاعتقل شهيدنا من قبل المليشيا المسلحة، وبعدما قضى فترة في سجونهم، أطلق سراحه. فاضطر للهجرة ثانية، إلا أنه رجع مرة أخرى بعزيمة قوية إلى خنادق القتال، فأضرم الهيجاء، وبعد فترة صار أمير جماعة للمجاهدين في ولاية ننجرهار. ثم صار مديراً لمديرية جوشتي، وقدّم خدمات جليلة، ودوّخ الصليبيين وأذنابهم العملاء، فما كان لهم إلا أن يكمنوا له، وينشروا عيونهم وجواسيسهم، ليقتلوه غدراً بطائرات بدون طيار بعدما عجزوا أن ينازلوا البطل وجهاً لوجه، فحزن المجاهدون لفراقه حزناً بالغاً.
بقي الشهيد فضل الله سليم من أول قيامه للجهاد إلى أن اصطفاه شهيداً – إن شاء الله – مجاهداً في صفوف الإمارة الإسلامية، فأثبت وفاءه لهذه القافلة الطيبة الزكية النقية، والتحق بركب الراحلين الأبرار مع العلماء والشهداء والطلبة الصالحين.
وفي آخر حياته كان كلما زار أحداً يقول له: “سأرزق الشهادة إن شاء الله، فادعو لي بأن يرزقني الله الشهادة، فهذه أمنيتي الغالية”.
وصار كما كان يتمنى فاستشهد في سبيل الله.
ويقول رفاقه بأنه يوم استشهاده ذهب لزيارة أقربائه جميعاً في القرى المختلفة، وودّعهم، قائلاً لهم: “ها أنا سأنضم إلى سلك الشهداء الذهبي إن شاء الله”، وههنا تخطر ببال كل مؤمن أن يردد هذه الآية: {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } [الأحزاب:23].
صاحبتُ العلماء والمجاهدين في مديرية تشاردهي، ووجدت الناس هنالك يبجّلون العلماء والمجاهدين ويكرمونهم إكراماً بالغاً، وهذه المنطقة ربّت في أحضانها الأبطال والفرسان، استشهد كثير منهم في سبيل الله، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشهيد الحافظ الشيخ عزت الله عارف، والشهيد حضرت علي، والشهيد المهندس محمد يونس، والشهيد الملا أمان الله التوكلي، والشهيد فداء محمد والشهداء الأبطال الآخرين، الذين لا نعرفهم وحسبهم أن الله يعرفهم، ولا يضيع عنده أجر عامل، ولا سيماً هؤلاء الأبطال الذين قاموا لإعلاء كلمة الله، وللذود عن حياض الإسلام وحوزته، وبذلوا الغالي والنفيس حتى أبكوا الاحتلال دماً.
وحقاً بأن الشهيد القاري فضل الله سليم كان مؤمناً تقياً ونقياً، سليم القلب واللسان، خادماً ومخلصاً، وفيّاً، يذكره زملاؤه وأحباؤه المجاهدين بالخير والحسن، وله معهم ذكريات حلوة، وسيبقى ذكره عند خلانه ما دام هناك عين تطرف، ولا تباهي به أسرته فحسب؛ بل إن أحبابه وخلانه من المجاهدين يفتخرون به مدى العمر.
وخلف الشهيد من ورائه 6 أبناء، وهم: مصعب، وعاصم، وجابر، وحذيفة، ومحمد، وطلحة، ومن حسن حظه أن ابنه الأكبر حافظ للقرآن الكريم، ويتعلم دروسه في المدرسة الدينية.
يقول أخوه الأكبر الشيخ فتح الله فاتح: “لقد كانت الشهادة من أسمى أماني الشهيد رحمه الله تعالى، ففاز بها، ومن الفخار والاعتزاز أنه قاتل المحتلين الأميركان إلى آخر لحظات عمره، وهكذا نذر عمره كله في سبيل الله”.
ویسرد قائلاً: “لقد وقفنا ونذرنا الشهيد قاري فضل الله لدين الله، ونحسبه وُفّق لنيل رضا الله سبحانه وتعالى، وصار سبب فخرٍ لنا ولأقربائه”.
وأخيراً عندما كان مع أحد رفاقه من المجاهدين، وكانا في طريقهما إلى بيله، بمديرية مومند، قصفتهم طائرة بلا طيار، وذلك في 11 صفر 1437هـ.ق، ففاضت روحهما إلى بارئهما.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وارْحمْهُ، وعافِهِ، واعْفُ عنْهُ، وَأَكرِمْ نزُلَهُ، وَوسِّعْ مُدْخَلَهُ، واغْسِلْهُ بِالماءِ، والثَّلْجِ، والْبرَدِ، ونَقِّه منَ الخَـطَايَا، كما نَقَّيْتَ الثَّوب الأبْيَضَ منَ الدَّنَس، وَأَبْدِلْهُ دارا خيراً مِنْ دَارِه، وَأَهْلاً خَيّراً منْ أهْلِهِ، وزَوْجاً خَيْراً منْ زَوْجِهِ، وأدْخِلْه الجنَّةَ، وَأَعِذْه منْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّار.