أثر الإكراه على تصرفات الإنسان – الحلقة 2
إعداد: أبو عبدالرحيم
تحدثنا في الحلقة السابقة عن: تعريف الإكراه وأركانه وشروطه، وفي هذه الحلقة سنكمل الحديث عن أقسام الإكراه بحسب المذاهب الأربعة.
أقسام الإكراه:
اختلف العلماء في أنواع الإكراه، فكان لكل منهم تقسيم مستقل حسب وجهة نظره.
وإليك بيان أنواع الإكراه في كل مذهب، مع الإشارة إلى أوجه الاتفاق والاختلاف بينهم:
أولًا: أنواع الإكراه عند الحنفية:
قسم الحنفية الإكراه باعتبار المكره به إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الإكراه الملجئ، ويسمى بالإكراه الكامل أو التام.
وهو الذي يعدم الرضا ويفسد الاختيار، ويوجب الإلجاء بأن يضطر الفاعل إلى مباشرة المكره عليه، كتهديد المكره بما يخاف على نفسه، أو عضو من أعضائه ولو أنملة؛ لأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس تبعًا لها.
ويعتبر في هذا النوع غلبة الظن، أما إذا لم يغلب على ظنه تفويت أحدهما لا يكون إكراهًا، بل مجرد تهديد وتخويف.
النوع الثاني: الإكراه غير الملجئ، ويسمى بالإكراه الناقص أو القاصر، وهو الذي يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار ولا يوجب الإلجاء، بل يحمل المكره على المكره عليه، كتهديد المكره بالقيد والحبس مدة مديدة، أو بالضرب الذي لا يخاف به على نفسه التلف.
وهذا النوع يعدم الرضا خاصة، ولا يفسد الاختيار لعدم الاضطرار إلى مباشرة ما أكره عليه، لتمكن المكره من الصبر على ما هدد به.
النوع الثالث: الإكراه بالاغتمام أو الهم والحزن، وهو الذي لا يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار، كتهديد المكره بحبس ابنه أو أبيه أو أمه أو زوجته، وكل رحم محرم منه كأخته أو أخيه؛ لأن القرابة المتأبدة بالمحرمية بمنـزلة الأولاد.
وهذا النوع لا يعدم الرضا ولا يفسد به الاختيار ضرورة؛ لأن الرضا مستلزم لصحة الاختيار، فكلاهما باق.
ويسمى هذا النوع في الوقت الحاضر ولدى علماء القانون: «بالإكراه الأدبي»؛ لأنه لا أذى ينال الجسم، ولكنه أذى ينال النفس، وإن كان ماديًّا بالنسبة لهؤلاء الأقارب إلا أنه أدبي بالنسبة للمكره.
وقد اختلف الحنفية وغيرهم في اعتبار هذا القسم إكراهًا من عدمه:
أما الحنفية: فذهب أكثرهم إلى أنه يعتبر إكراهًا شرعيًّا استحسانًا لا قياسًا، فإذا قال رجل لآخر: لنحبسن أباك أو ابنك في السجن، أو لتبيعين عبدك هذا، ففعل، فالقياس أن البيع جائز؛ لأن هذا ليس بإكراه، فإنه لم يهدد بشيء في نفسه، وحبس أبيه لا يلحق به ضررًا، فالتهديد به لا يمنع صحة بيعه وإقراره وهبته، وكذلك في حق كل ذي رحم محرم.
والاستحسان أن ذلك إكراه، ولا ينفذ شيء من هذه التصرفات؛ لأن حبس أبيه يلحق به الحزن والهم ما يلحق به حبس نفسه أو أكثر، فإن الولد إذا كان بارًّا يسعى إلى تخليص أبيه من السجن، وإن كان يعلم أنه يحبس وربما يدخل السجن مختارًا ويحبس مكان أبيه ليخرج أبوه. فكما أن التهديد بالحبس في حقه يعدم تمام الرضا، فكذلك التهديد بحبس أبيه.
وذهب البعض الآخر إلى أن الإكراه بحبس الوالدين أو الأولاد وكل ذي رحم لا يكون إكراهًا، لأنه ليس بملجئ ولا يعدم الرضا. والرأي الأول هوالراجح وهوالمعمول به. (كشف الأسرار للبخاري 4/ 383، المبسوط للسرخسي 24/ 143، 144، حاشية ابن عابدين 5/ 129، حاشية قليوبي وعميرة 3/ 332).
أما المالكية: فقالوا: إن الإكراه يتحقق بالخوف من قتل الولد وإن سفل ولو عاقًّا، وكذا بعقوبته إن كان بارًّا، أما الخوف من قتل أجنبي فإنه لا يعد إكراهًا، فإذا قال له ظالم: إن لم تطلق زوجتك وإلا قتلت فلانًا صاحبك أو أخاك أو عمك، فطلق، فإنه يقع عليه الطلاق؛ لأن التخويف بقتل الأجنبي وهو غير الولد لا يعد إكراهًا شرعًا.
أما التخويف بقتل الأب فقيل: إكراه قياسًا على التخويف بقتل الولد، وهو الظاهر، وقيل: لا يكون إكراها قياسًا على التخويف بقتل الأخ أو العم. (حاشية الدسوقي 2/ 368).
أما الشافعية فقالوا: إن الإكراه على الطلاق يكون بالتخويف بقتل الوالد وإن علا، والولد وإن سفل على الصحيح، لا سائر المحارم. وإن كان الإكراه على القتل، فالتخويف بالحبس، وقتل الوالد ليس بإكراه. (الأشباه والنظائر للسيوطي ص209)
أما الحنابلة فقالوا: إن توعد بتعذيب ولده فقد قيل: ليس بإكراه؛ لأن الضرر لاحق بغيره.
والأولى: أن يكون إكراهًا؛ لأن ذلك عنده أعظم من أخذ ماله والوعيد بذلك إكراه، فكذلك هذا.(المغني لابن قدامة 7/ 120).
الشريعة الاسلامية لم تهمل الإكراه الأدبي، فالتهديد بحبس الأب، أو حبس الأم، أو حبس الأخ والأخت ليس أذى ينال جسمه، ولكنه أذى ينال نفسه وإحساسه، فهو إن كان ماديًّا بالنسبة لهؤلاء الأقارب، فهو أذى أدبي بالنسبة للمكره، وعلى ذلك نقول: إن القياس كان يوجب ألا يكون إلا الإكراه المادي، ولكن الاستحسان الذي وضحه السرخسي وغيره بوجوب أن يكون الإكراه الأدبي له أثره، وفي الجملة فإن بعض الفقهاء يعتبر كل أذى يصيب النفس ويحمل الشخص على تولي ما لا يريد، يكون من قبيل الإكراه، إذا كان ثمة تهديد به، ولقد لاحظ الحنابلة هذا، فقد جاء في المغني ما نصه: “فأما الضرب اليسير فإن كان في حق من لا يبالي به فليس بإكراه، وإن كان من ذوي المروءات على وجه يكون إحراجًا لصاحبه وغضًّا وتشهيرًا في حقه فهو كالضرب الكبير في حق غيره ” (كشف الأسرار على أصول البزدوي 4/ 383، المبسوط للسرخسي 2/ 43، 44، المغني لابن قدامة 7/ 120، 121).
ثانيًا: أنواع الإكراه عند المالكية:
قسم المالكية الإكراه إلى نوعين:
النوع الأول: الإكراه الشرعي.
وهو الإكراه على الفعل الذي تعلق به حق لمخلوق طوع، كما لو حلف بالطلاق لا ينفق على زوجته، أو لا يطيع أبويه، أو لا يقضي لفلان دينه الذي عليه، فأكرهه القاضي على الإنفاق عليها، أو على طاعة أبويه، أو على قضاء الدين.
وحكم هذا النوع: أنه طوع يقع به الطلاق جزمًا.(حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/ 367)
النوع الثاني: الإكراه غير الشرعي.
وهو الإكراه على فعل لا يتعلق به حق لمخلوق، كما إذا أكره على إيقاع الطلاق، بأن حلف لا يدخل دارًا، فأكره على دخولها، أو حمل وأدخلها مكرهًا.
وحكم هذا النوع: أنه لا يلزمه الطلاق على المعتمد في المذهب إذا تحققت الشروط الخمسة الآتية:
1 – أن تكون الصيغة صيغة بر، كما في المثال السابق، أما إذا كانت صيغة حنث؛ نحو: إن لم أدخل الدار فهي طالق، فأكره على عدم الدخول فإنه يحنث؛ لأن صيغة الحنث لا ينفع فيها الإكراه، لانعقادها على الحنث.
2 – أن لا يأمر الحالف غيره أن يكرهه.
3 – أن لا يعلم الحالف حين الحلف أن سيكره بعده.
4 – أن لا يقول في يمينه: لا أدخلها طوعًا أو كرهًا.
5 – أن لا يفعل المحلوف عليه بعد زوال الإكراه حيث كانت يمينه غير مقيدة بأجل، أما لو كانت مقيدة وفرغ الأجل، وفعل المحلوف عليه بعده طائعًا، فلا حنث.
وخالف ابن حبيب وقال بلزوم الطلاق. (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/ 367)
ثالثًا: أنواع الإكراه عند الشافعية:
يقسم الشافعية الإكراه باعتبار المكره به إلى نوعين:
النوع الأول: الإكراه الملجئ.
وهو الذي ينتهي إلى حد الإلجاء، بأن لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار، فيكون الفعل الصادر من المكره اضطراريًّا لا مندوحة له عنه بحال، وذلك نحو إلقاء شخص من شاهق على شخص آخر ليقتله، فالشخص الملقى لا قدرة له على الوقوع لا فعلًا ولا تركًا، حيث إن حركة هبوطه بعد إلقائه اضطرارية.
وحكم هذا النوع: أنه يزيل الرضا والقدرة والاختيار، فيمنع من التكليف بالفعل الملجأ إليه، وبنقيضه، لعدم قدرته على ذلك؛ لأن الملجأ إليه واجب الوقوع ونقضيه ممتنع الوقوع، ولا قدرة له على واحد من الواجب والممتنع، فيمتنع تكليفه بالهبوط القاتل للغير، وبالكف عنه في المثال السابق.
فالمكره هنا مسلوب القدرة والاختيار، فهو آلة محضة كالسكين في يد القاطع، فلا ينسب إليه فعل، وحركته كحركة المرتعش.
وهذا هو ما ذهب إليه جمهور الشافعية وهوالصواب.
وذهب البعض الآخر إلى جواز التكليف للمكره الملجأ بالفعل الملجأ إليه وبنقيضه، بناء على جواز التكليف بما لا يطاق.
ولضعف هذا الرأي قال ابن التلمساني: وهذا القسم لا خلاف فيه.(نهاية السول للإسنوي 1/ 185، 186، المحصول للرازي 1 ق 2/ 449 حاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 101)
النوع الثاني: الإكراه غير الملجئ.
وهو الذي لا ينتهي إلى حد الإلجاء، وذلك بإسقاط الرضا دون القدرة والاختيار، بأن يكون للمكره مندوحة عن الفعل بالصبر على ما أكره به، كالتهديد بالقتل أو الضرب، حيث إن المكره في هذه الحالة غير مسلوب القدرة والاختيار، إذ يمكنه أن لا يفعل المكره عليه بالصبر على المكره به، وحركة القتل الصادرة عنه -لو نفذ مراد المكره- حركة اختيارية مقدورة له إن شاء الله فعلها، وإن شاء تركها.
وحكم هذا النوع: أنه يزيل الرضا فقط دون القدرة والاختيار، وعليه فإنه لا يمنع التكليف عند أهل السنة مطلقًا، أي: لا بالفعل المكره عليه ولا بنقيضه، وسواء أكان المكره عليه طاعة أم معصية.
فيجوز تكليف من أكره على الزكاة والإسلام بالزكاة والإسلام، ويثاب عليهما ثواب الواجب إذا فعلهما امتثالًا للتكليف لا للإكراه.
ويجوز تكليف من أكره على قتل شخص عدوانًا، بالكف عن القتل وبالصبر على الإيذاء. يثاب حينئذ على كل من: الصبر على الإيذاء، والكف عن المحرم، وذلك لأن الفاعل يفهم، وفعله في حيز الإمكان إذ يقدر على تحقيقه وتركه.
وهذا هو رأي أهل السنة، ومفهوم كلام البيضاوي، وهو المختار، وإليه ذهب القاضي وإمام الحرمين وأبو إسحاق الشيرازي والغزالي وغيرهم. (راجع الإبهاج في شرح المنهاج 1/ 162)
وذهبت المعتزلة إلى أنه يمتنع التكليف بالفعل المكره عليه، ويجوز بنقيضه، حيث إنهم يشترطون في المأمور به أن يكون بحال يثاب على فعله.
أما إذا أكره على عين المأمور به، فالإثبات به لداعي الإكراه لا لداعي الشرع، فلا يثاب عليه، فلا يصح التكليف بخلاف ما إذا أتى بنقيض المكره عليه، فإنه أبلغ في إجابة داعي الشرع.
وأيد الإسنوي ذلك بقوله وقال الغزالي: “إن الآتي بالفعل مع الإكراه، كمن أكره على أداء الزكاة مثلًا إذا أتى لداعي الشرع فهو صحيح ،أو لداعي الإكراه فلا” (المرجع السابق)
وقد نسب صاحب جمع الجوامع وشارحه إلى المعتزلة القول بمنع التكليف بالمكره عليه وبنقيضه حيث يقول: ” ويمتنع التكليف بالمكره عليه أو بنقيضه على الصحيح لعدم قدرته على امتثال ذلك، فإن الفعل للإكراه لا يحصل به الامتثال، ولا يمكن الإتيان معه بنقيضه” (حاشية العطار على جمع الجوامع 1/ 102، 103)
ثم يقسم الشافعية الإكراه غير الملجئ باعتبار المكره عليه إلى قسمين:
القسم الأول: الإكراه بحق.
وهو الإكراه على أمر واجب شرعًا؛ كإكراه القاضي المدين على بيع ماله وفاء لدينه، وإكراه المولى على طلاق زوجته بعد مضي مدة الإيلاء، فباع وطلق، صح البيع والطلاق؛ لأنه قول حمل عليه بحق فصح قياسًا على الحربي والمرتد إذا أكرها على الإسلام.
وحكم هذا النوع: أنه لا يؤثر في الأقوال والأفعال، فلا يؤثر في الاختيار بحكم الشرع؛ لأنه كان يجب على المكره شرعًا أن يختار بيع المال وطلاق زوجته؛ لأنه واجب عليه، فالإكراه على أداء الواجبات لا يفسد الاختيار، فلا تبطل التصرفات التي أكره عليها، فهنا يحكم الشرع بعدم فساد الاختيار؛ لأن ما أكره عليه المدين والمولى كان واجبًا عليه، فكان الطلاق والبيع باختياره؛ لأنه يجب عليه أن يختار أداء الواجب، فإذا لم يختر أجبره الشارع عليه، وجعل هذا الإجبار غير مفسد للاختيار.
وهكذا كل حق واجب امتنع عنه من عليه الحق، فإنه يجبر على أدائه، وقد جرى الفقهاء على استعمال لفظ «الإجبار» بدل «الإكراه» في كل ما كان على أمر واجب شرعًا.
القسم الثاني: الإكراه بغير حق.
وهو الإكراه على أمر منهي عنه شرعًا، كالإكراه على القتل والزنا وشرب الخمر والكفر وغيره.
وهو نوعان:
أولهما: إكراه على فعل أباح الشرع الإقدام عليه عند الإكراه، كالإكراه على النطق بكلمة الكفر، أو أكل الميتة، أو شرب الخمر.
والإكراه هنا عذر شرعي مبيح للفعل والقول المنهي عنه، فهو جار مجرى الرخص، وله حكم الضرورات.
والإباحة هنا بمعنى رفع المؤاخذة والإثم فقط، لا بمعناها الأصلي، وهو استواء الفعل والترك، فيكون المكره غير مكلف، فلا تترتب على أفعاله وأقواله أية آثار أو أحكام.
ثانيهما: إكراه على فعل لم يبح الشارع الإقدام عليه عند الإكراه، كالإكراه على القتل والزنا، فإنه لا يباح للمكره القتل أو الزنا بالإكراه، فيكون المكره هنا مكلفًا بالكف عن الفعل مع الإكراه، لما في الكف عنه من مصالح ترجح في نظر الشارع على مصلحة دفع الأذى عن نفسه. (المجموع شرح المهذب 18/ 207، مغني المحتاج 13/4)
وتقسيم الشافعية للإكراه باعتبار المكره عليه إلى إكراه بحق، وإكراه بغير حق، هو الذي سار عليه الحنابلة أيضًا.(المغني لابن قدامة 7/ 118)
الوعيد هل يعتبر إكراهًا أم لا؟ والوسائل التي يحصل بها الإكراه:
ويشتمل هذا البحث على امرين:
الأول: الوعيد هل يعتبر إكراهاً أم لا؟
اتفق العلماء على أن الوعيد إن اقترن بنوع من العذاب؛ كالضرب والخنق والحبس والغط في الماء كان إكراهًا.
واستدلوا على ذلك بما روي أن المشركين أخذوا عمار بن ياسر -رضي الله عنه- وأكرهوه على الكفر، فنطق به مع اطمئنان قلبه بالإيمان، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل يمسح الدموع عن عينه ويقول: “أخذك المشركون، فغطوك في الماء حتى قلت لهم كذا، فإن عادوا فعد” (فتح الباري 12/ 327 كتاب الإكراه72)
وبما جاء في الأثر عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: “ليس الرجل أمينًا على نفسه إذا أوجعته، أو ضربته، أو أوثقته” (سنن البيهقي 7/ 359، المصنف لعبد الرازق 60/ 411 الحديث رقم 11424)
ولكنهم اختلفوا في الوعيد المجرد:
1 – فذهب الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد إلى أن الوعيد المجرد يعد إكراهًا.(حاشية ابن عابدين 5/ 129، حاشية الدسوقي 2/ 368، نهاية المحتاج 6/ 446، المغني لابن قدامة 7/ 383)
2 – وذهب أبو إسحاق الشيرازي والإمام أحمد بن حنبل في الرواية الثانية إلى وجوب اقتراب الوعيد بنوع من العذاب حتى يعد إكراهًا.(المجموع شرح المهذب 18/ 207، المغني لابن قدامة 7/ 383)
استدل الإمام أحمد وأبو إسحاق الشيرازي على ما ذهبا إليه بقولهما: إن الشرع إنما أجاز للمكره استعمال الرخصة إذا اقترن توعده بنوع من العذاب، وثبوت الرخصة له في هذه الحالة دليل على اعتبار الإكراه إذا جاء بهذه الصفة.
وأيدا قولهما هذا بما ثبت في حديث عمار بن ياسر المتقدم، وبما جاء في الأثر عن عمر رضي الله عنه أيضًا.
بينما استدل الحنفية والمالكية والشافعية والإمام أحمد في الرواية الأولى له بقولهم: إن الشرع أباح للمكره فعل ما أكره عليه ليدفع عن نفسه العقوبة أو العذاب، أو ما توعده به المكره، وهذا لا يتأتى إلا إذا أبيح له أن يفعل ما أكره عليه قبل أن يصاب بأي نوع من أنواع العذاب.
وأيضًا: فإنه متى توعده بالقتل وعلم أنه سيقتله إذا لم يبح له فعل المكره عليه بمجرد الوعيد، أفضى ذلك إلى قتله وإلقائه بنفسه إلى التهلكة، كما لو أكرهه على الطلاق، وعلم المكره أن المكره قاتله إن لم يمتثل أمره، فإذا لم يبح له التلفظ بالطلاق بمجرد الوعيد أفضى ذلك إلى قتله، وتنتفي بذلك فائدة ثبوت الرخصة للمكره ليدفع عن نفسه الضرر.
وثبوت الرخصة في حق المكره الذي نيل بشيء من العذاب لا ينافي ثبوتها في حق غيره ممن توعده المكره ولم يمسه بعذاب؛ لما ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قضى برد امرأة طلقها زوجها وهو مكره بالوعيد فقط، فقد تدلى رجل ليشتار عسلًا فوقفت امرأته على الحبل، وقالت: طلقني ثلاثًا وإلا قطعته، فذكرها الله والإسلام، فقالت: لتفعلن أو لأفعلن، فطلقها ثلاثًا، فرده إليها، ولم يعتبره عمر رضي الله عنه طلاقًا. (سنن البيهقي 7/ 357).
فدل ذلك على ثبوت الرخصة في حق المكره بالوعيد فقط كما ثبت في حق غيره الذي نيل بشيء من العذاب.
فإن قيل: إن المكره لا يقطع بتحقيق الوعيد إلا إذا باشر المكره بتنفيذ نوع من العذاب يضطره به إلى عمل ما أكرهه عليه، وهذا أبلغ في تحقيق الاضطرار من مجرد الوعيد.
فالجواب: أنه يكفي لثبوت الرخصة أن يغلب على ظن المكره أن ما توعده به المكره واقع ونازل به إن لم يجبه إلى طلبه، وهو شرط من الشروط التي يجب تحققها في المكره لتحقق الإكراه كما تقدم. (حاشية ابن عابدين 5/ 128، حاشية الدسوقي 2/ 368، المجموع شرح المهذب 18/ 207، 208، المغني لابن قدامة 7/ 119).
ولهذا نرى أن ما ذهب إليه الجمهور -وهو تحقق الإكراه بمجرد الوعيد فقط- هو الراجح. والله أعلم.
الثاني: الوسائل التي يحصل بها الإكراه:
إذا نظرنا إلى الوسائل والأساليب التي يحصل بها الإكراه، نجد أنها كثيرة ومتنوعة، وبالتالي فلا يمكن حصرها، لكونها قابلة للابتكار والتجديد، وقد يظهر في عصر ما من العصور منها ما لم يكن موجودًا من قبل.
وإليك بيان أهم هذه الوسائل في المذهب الحنفي:
يتحقق الإكراه عند الحنفية بأمور ثلاثة:
الأمر الأول: بما يحصل به بالضرورة والخوف والإلجاء إلى الفعل؛ كالتهديد بالقتل أو إتلاف عضو ولو أنملة؛ لأن حرمته كحرمة النفس، وكذلك الضرب المبرح الذي يؤدي إلى تلف النفس، أو عضو من الأعضاء.
وهذا ما يسمى عندهم بالإكراه التام أو الملجئ، وهو الذي يعدم الرضا ويفسد الاختيار.
الأمر الثاني: ما لا يحصل به، الاضطرار ولكن يحصل به الاغتمام البين؛ كالحبس المديد، والقيد الطويل والضرب الذي لا يخشى منه التلف.
وهذا ما يسمى عندهم بالإكراه الناقص، أو غير الملجئ، وهو الذي يعدم الرضا، ولا يفسد الاختيار.
أما الضرب الهين وحبس يوم أو قيد يوم، فلا يعتبر إكراه إلا في حق صاحب الجاه والمروءة دون أراذل الناس، وذلك لمكانة صاحب الجاه، فيلحقه الاغتمام لأدنى حرج يصيبه مما يمس جاهه ومروءته.
الأمر الثالث: ما لا يحصل به الاضطرار ولا الاغتمام البين، ولكن يحصل به الهم والحزن؛ كالتهديد بحبس الوالدين، أو الابن أو الزوجة، أو كل ذي رحم محرم.
وهذا لا يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار.
والقياس: أنه ليس بإكراه؛ لأنه لا يلحق المكره ضرر بذلك، بل الضرر لاحق بغيره.
والاستحسان: أنه إكراه حيث يلحقه بحبسهم من الحزن والهم ما يلحق بحبس نفسه أو أكثر. (حاشية ابن عابدين 5/ 129، 130، كشف الأسرار للبخاري 3/ 503 بدائع الصنائع 7/ 176).