مقالات الأعداد السابقة

أثر الإكراه على تصرفات الإنسان – الحلقة 1

إعداد: أبو عبدالرحيم

مقدمة:
إنه لما كان الإنسان مخاطباً بالأحكام الشرعية، ومطالباً بها إما وجوبًا فقط، أو وجوبًا وأداءاً حسب أهليته، فإذا وُجدت لديه أهلية الوجوب والأداء فقد ثبتت له، ووجبت عليه كل الأحكام، ولكن قد تعترض حياة الإنسان بعض الموانع أو العوارض التي تؤثر على أهليته، إما بالإزالة كالجنون، وإما بالنقصان كالصغر والعته، وإما بتغيير بعض الأحكام دون تأثير في أهليته، كالإكراه والسفه والخطأ مثلًا، لذا فقد تكلم علماء الحنفية على هذه العوارض وقسموها إلى قسمين:
1- عوارض سماوية؛ كالصغر والجنون والعته وغيرها.
2- عوارض مكتسبة؛ كالإكراه والسفه والخطأ وغيرها.
ولقد شهد العالم اليوم أنواعا من الإكراه، والضغط، وعاش الإنسان في ظل الإكراه في ميادين الحياة المختلفة، وأُجبر على فعل ما لا يرضاه .
فما موقف الشريعة الإسلامية تجاه هذه التصرفات الإنسانية؟ وماصفة هذه الأفعال التي تصدر تحت ضغط الإكراه؟
لقد أردت أن أتناول بالبحث والدراسة موضوع الإكراه باعتباره عارضاً من العوارض المكتسبة للأهلية، وأثره على التصرفات الإنسانية. وأدعو الله تعالى أن يجعله نافعاً، وأن يحسن القصد به والمثوبة عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وسأتناول في البحث النقاط التالية:
1 – تعريف الإكراه.
2 – أركان الإكراه.
3 – شروط الإكراه.
4 – أقسام الإكراه.
5 – أثر الإكراه.
وسنتحدث في الحلقة الأولى عن: تعريف الإكراه، وأركانه، وشروطه. وسنجعل الحديث عن النقاط المتبقية في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى.

تعريف الإكراه:
قال في لسان العرب: أكرهته، حملته على أمرٍ هو له كاره – وفي مفردات الرّاغب نحوه – ومضى صاحب اللّسان يقول: وذكر اللّه عزّ وجلّ الكره والإكراه في غير موضعٍ من كتابه العزيز، واختلف القرّاء في فتح الكاف وضمّها. قال أحمد بن يحيى: ولا أعلم بين الأحرف الّتي ضمّها هؤلاء وبين الّتي فتحوها فرقاً في العربيّة، ولا في سنّةٍ تتبع. وفي المصباح المنير: “الكَرْه (بالفتح) : المشقّة، وبالضّمّ: القهر، وقيل: (بالفتح) : الإكراه، ” وبالضّمّ ” المشقّة. وأكرهته على الأمر إكراهاً: حملته عليه قهراً. يقال: فعلته كَرْهاً ” بالفتح ” أي إكراهاً – وعليه قوله تعالى: {طوعاً أو كرهاً} فجمع بين الضّدّين. (الموسوعة الفقهية الكويتية (7/ 126، بترقيم الشاملة آليا)

تعريف الإكراه اصطلاحا:
لقد عرف العلماء الإكراه بتعريفات متعددة، وسأكتفي بذكر الراجح منها، وهو ما ذكره عبدالعزيزالبخاري: وهو أن الإكراه: (حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه، ويصير الغير خائفًا به فائت الرضا بالمباشرة). كشف الأسرار على أصول البزدوي( 4/ 438)

الرّضى والاختيار:
الرّضى لغةً: الاختيار. يقال: رضيت الشّيء ورضيت به: اخترته. والاختيار لغةً: أخذ ما يراه خيراً.
وأمّا في الاصطلاح، فإنّ جمهور الفقهاء لم يفرّقوا بين الرّضى والاختيار، لكن ذهب الحنفيّة إلى التّفرقة بينهما.
فالرّضى عندهم هو: امتلاء الاختيار وبلوغه نهايته، بحيث يفضي أثره إلى الظّاهر من ظهور البشاشة في الوجه ونحوها.
أو هو: إيثار الشّيء واستحسانه. والاختيار عند الحنفيّة هو: القصد إلى مقدورٍ متردّدٍ بين الوجود والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر. أو هو: القصد إلى الشّيء وإرادته.

أركان الإكراه:
لكي يتم الإكراه على الوجه الشرعي المعتبر، لا بد له من توفر جميع أركانه وتحققها، ولا بد من توفر بعض الشروط في كل ركن من هذه الأركان، وإليك بيان ذلك:

أركان الإكراه:
للإكراه أربعة أركان هي:
1- المكره – بالكسر – وهو الذي يحمل غيره على فعل أو قول قهرًا.
2- المكره -بالفتح- وهو الذي يحمله المكره على فعل أو قول مهددًا إياه بحيث يضطره إلى أداء ما يطلبه منه من غير رضاه مع فساد اختياره.
3- المكره عليه: هو الأمر الذي يكره الحامل الفاعل على الإتيان به.
4- المكره به: وهو وسيلة الإكراه، وكل ما يتوصل به الحامل إلى حمل الفاعل المكره عليه من تخويف يجعله مدفوعًا إلى تنفيذ أمره.

شروط الإكراه:
يشترط في كل ركن من الأركان الأربعة توفر بعض الشروط لكي يتم الإكراه ويترب عليه اثره، وإليك بيان هذه الشروط بالتفصيل الآتي:
الشرط الأول: قدرة المكره (بالكسر) على إيقاع ما هدد به، لكونه متغلبًا ذا سطوةٍ وبطشٍ – وإن لم يكن سلطانًا ولا أميرًا – ذلك أن تهديد غير القادر لا اعتبار له. (المبسوط 24 / 39، ورد المحتار 5 / 80 ).
الشرط الثاني: خوف المكره (بفتح الراء) من إيقاع ما هدد به، ولا خلاف بين الفقهاء في تحقق الإكراه إذا كان المخوف عاجلاً فإن كان آجلاً، فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة والأذرعي من الشافعية إلى تحقق الإكراه مع التأجيل. وذهب جماهير الشافعية إلى أن الإكراه لا يتحقق مع التأجيل، ولو إلى الغد.
والمقصود بخوف الإيقاع غلبة الظن، ذلك أن غلبة الظن معتبرةٌ عند عدم الأدلة، وتعذر التوصل إلى الحقيقة. (رد المحتار 5 / 80، 88، والمبسوط 24 / 78، 49، 71 ).
الشرط الثالث: أن يكون ما هدد به قتلاً أو إتلاف عضوٍ، ولو بإذهاب قوته مع بقائه كإذهاب البصر، أو القدرة على البطش أو المشي مع بقاء أعضائها أو غيرهما مما يوجب غما يعدم الرضا، ومنه تهديد المرأة بالزنا، والرجل باللواط. (البلقيوبي على المنهاج 3/ 332).
أما التهديد بالإجاعة، فيتراوح بين هذا وذاك، فلا يصير ملجئًا إلا إذا بلغ الجوع بالمكره (بالفتح ) حد خوف الهلاك (البدائع 9 / 4481، وأشباه السيوطي ص 209).
ثمّ الّذي يوجب غمّاً يعدم الرّضا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال: فليس الأشراف كالأراذل، ولا الضّعاف كالأقوياء، ولا تفويت المال اليسير كتفويت المال الكثير، والنّظر في ذلك مفوّض إلى الحاكم، يقدّر لكلّ واقعةٍ قدرها. (الموسوعة الفقهية الكويتية 7/ 130، بترقيم الشاملة آليا).
الشّرط الرّابع: أن يكون المكره ممتنعاً عن الفعل المكره عليه لولا الإكراه، إمّا لحقّ نفسه – كما في إكراهه على بيع ماله – وإمّا لحقّ شخصٍ آخر، وإمّا لحقّ الشّرع – كما في إكراهه ظلماً على إتلاف مال شخصٍ آخر، أو نفس هذا الشّخص، أو الدّلالة عليه لذلك أو على ارتكاب موجب حدٍّ في خالص حقّ اللّه، كالزّنى وشرب الخمر. الموسوعة الفقهية الكويتية (7/ 130، بترقيم الشاملة آليا).
الشرط الخامس: أن يكون محلّ الفعل المكره عليه متعيّناً. وهذا عند الشّافعيّة وبعض الحنابلة على إطلاقه. وفي حكم المتعيّن عند الحنفيّة، ومن وافقهم من الحنابلة ما لو خيّر بين أمورٍ معيّنةٍ.
ومنه يستنبط أنّ موقف المالكيّة في حالة الإبهام أدنى إلى مذهب الحنفيّة، بل أوغل في الاعتداد بالإكراه حينئذٍ، لأنّهم لم يشترطوا أن يكون مجال الإبهام أموراً معيّنةً.
أمّا الإكراه على طلاق إحدى هاتين المرأتين، أو قتل أحد هذين الرّجلين، فمن مسائل الخلاف الّذي صدّرنا به هذه الشّريطة: فعند الحنفيّة والمالكيّة، ومعهم موافقون من الشّافعيّة والحنابلة، يتحقّق الإكراه برغم هذا التّخيير.
وعند جماهير الشّافعيّة، وقلّةٍ من الحنابلة، لا يتحقّق، لأنّ له مندوحةً عن طلاق كلٍّ بطلاق الأخرى – وكذا في القتل – نتيجة عدم تعيين المحلّ.
الشّرط السّادس: ألاّ يكون للمكره مندوحة عن الفعل المكره عليه، فإن كانت له مندوحة عنه، ثمّ فعله لا يكون مكرهاً عليه، وعلى هذا لو خيّر المكره بين أمرين فإنّ الحكم يختلف تبعاً لتساوي هذين الأمرين أو تفاوتهما من حيث الحرمة والحلّ، وتفصيل الكلام في ذلك كما يلي:
إنّ الأمرين المخيّر بينهما إمّا أن يكون كلّ واحدٍ منهما محرّماً لا يرخّص فيه، ولا يباح أصلاً، كما لو وقع التّخيير بين الزّنى والقتل.
أو يكون كلّ واحدٍ منهما محرّماً يرخّص فيه عند الضّرورة، كما لو وقع التّخيير بين الكفر وإتلاف مال الغير. أو يكون كلّ واحدٍ منهما محرّماً يباح عند الضّرورة، كما لو وقع التّخيير بين أكل الميتة وشرب الخمر. أو يكون كلّ واحدٍ منهما مباحاً أصالةً أو للحاجة، كما لو وقع التّخيير بين طلاق امرأته وبيع شيءٍ من ماله، أو بين جمع المسافر الصّلاة في الحجّ وفطره في نهار رمضان. ففي هذه الصّور الأربع الّتي يكون الأمران المخيّر بينهما متساويين في الحرمة أو الحلّ، يترتّب حكم الإكراه على فعل أيّ واحدٍ من الأمرين المخيّر بينهما، وهو الحكم الّذي سيجيء تقريره بخلافاته وكلّ ما يتعلّق به، لأنّ الإكراه في الواقع ليس إلاّ على الأحد الدّائر دون تفاوتٍ، وهذا لا تعدّد فيه، ولا يتحقّق إلاّ في معيّنٍ، وقد خالف في هذا أكثر الشّافعيّة وبعض الحنابلة، فنفوا حصول الإكراه في هذه الصّور.
وإن تفاوت الأمران المخيّر بينهما، فإن كان أحدهما محرّماً لا يرخّص فيه ولا يباح بحالٍ كالزّنى والقتل، فإنّه لا يكون مندوحةً، ويكون الإكراه واقعاً على المقابل له، سواء أكان هذا المقابل محرّماً يرخّص فيه عند الضّرورة، كالكفر وإتلاف مال الغير، أم محرّماً يباح عند الضّرورة، كأكل الميتة وشرب الخمر، أم مباحاً أصالةً أو للحاجة، كبيعٍ كشيءٍ معيّنٍ من مال المكره، والإفطار في نهار رمضان، ويترتّب على هذا الإكراه حكمه الّذي سيجيء تفصيله بخلافاته.
وتكون هذه الأفعال مندوحةً مع المحرّم الّذي لا يرخّص فيه ولا يباح بحالٍ، أمّا هو فإنّه لا يمكن مندوحةً لواحدٍ منها، ففي الصّور الثّلاث المذكور آنفاً، وهي ما لو وقع التّخيير بين الزّنى أو القتل وبين الكفر أو إتلاف مال الغير، أو وقع التّخيير بين الزّنى أو القتل وبين أكل الميتة أو شرب الخمر، أو وقع التّخيير بين الزّنى أو القتل وبين بيع شيءٍ معيّنٍ من المال، فإنّ الزّنى أو القتل لا يكون مكرهاً عليه، فمن فعل واحداً منهما كان فعله صادرا عن طواعيةٍ لا إكراه، فيترتّب عليه أثره إذا كان الإكراه ملجئاً حتّى يتحقّق الإذن في فعل المندوحة، وكان الفاعل عالماً بالإذن له في فعل المندوحة عند الإكراه.
وإن كان أحد الأمرين المخيّر بينهما محرّماً يرخّص فيه عند الضّرورة، والمقابل له محرّماً يباح عند الضّرورة، كما لو وقع التّخيير بين الكفر أو إتلاف مال الغير، وبين أكل الميتة أو شرب الخمر، فإنّهما يكونان في حكم الأمرين المتساويين في الإباحة، فلا يكون أحدهما مندوحةً عن فعل الآخر، ويكون الإكراه واقعاً على فعل كلّ واحدٍ من الأمرين المخيّر بينهما، متى كان بأمرٍ متلفٍ للنّفس أو لأحد الأعضاء.
وإن كان أحد الأمرين محرّماً يرخّص فيه أو يباح عند الضّرورة، والمقابل له مباحاً أصالةً أو للحاجة، كما لو وقع التّخيير بين الكفر أو شرب الخمر، وبين بيع شيءٍ من مال المكره أو الفطر في نهار رمضان، فإنّ المباح في هذه الحالة يكون مندوحةً عن الفعل المحرّم الّذي يرخّص فيه أو يباح عند الضّرورة، وعلى هذا يظلّ على تحريمه، سواء كان الإكراه بمتلفٍ للنّفس أو العضو أو بغير متلفٍ لأحدهما، لأنّ الإكراه بغير المتلف لا يزيل الحظر عند الحنفيّة مطلقاً، والإكراه بمتلفٍ – وإن كان يزيل الحظر – إلاّ أنّ إزالته له بطريق الاضطرار، ولا اضطرار مع وجود المقابل المباح. الموسوعة الفقهية الكويتية (7/ 133-131، بترقيم الشاملة آليا).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى