مقالات الأعداد السابقة

أذان طفل مشاغب

أبو فلاح

 

کنتُ مغمومًا جدًّا البارحة، كنت ضائقًا ذرعًا، لا أدري لماذا، كأني مُرهَق من الداخل، تلك هي طبيعة الحياة البشرية، قد تصيبك ولا تعرف لها سببا، كأن الكسل كان قد ألقى ظلاله السوداء على صدري، وغطّاه تمامًا، وأغلق بواباته حتى لا تدخله بارقة من النور أو السرور…ذهبت للصلاة، كأنها (وأستغفر الله) وزر أثقلَ كاهلي، وأنا أريد أن أصلِّيَها وأرتاح في أسرع ما يمكن، ولكن أثناء الصلاة، بينما نحن في حالة القعود، نردد “التحيات لله والصلوات…” حدثت حادثة هزتني من الداخل هزًّا، حادثة لا تسترعي الانتباه كما العادة، كنا نصلي، بينما الأولاد الصغار المشاغبون يلعبون خلف جدران المسجد، يتضاحكون أحيانًا، ويتضاربون أحيانًا أخرى، يجري البعض خلف البعض، ويحدثون ضجيجًا يزعجنا، وربما يشوش علينا، تنخفض أصواتهم تارة وترتفع تارات، يدخل البعض منهم المسجد فيشتركون معنا في الصلاة، ثم يتركون الصلاة في وسطها، ويعودون إلى ملعبهم.

هؤلاء الأطفال الذين يحدثون الشغب في المساجد، ومن أجل ذلك يمنعهم الناس من دخول المساجد هم بُناة مستقبلنا، وهم لبِنات صرح أمة محمد (صلى الله عليه وسلم)، هم شرف هذه الأمة وفخرها وعزّها وبهاؤها ورجالها الذين نتطلّع إلى مستقبل الإسلام من خلالهم.

فجأة كسر صوت مجهول صمتَ المسجد، صوت صَدَر من حنجرة طفل مشاغب يؤذن لاعبًا في سكة بعيدة، من وراء هذه الضوضاء، من وراء سدول الليل، صوت خرق أستار الظلمات على ضآلته، صوت ضئيل سرعان ما علا وارتفع في السماء، صوت ركب الأمواج ورنّ في أذني، صوت مازالت كلماته تطِنّ في أذني، صوت قاتل الشياطين وطاردهم، صوت أدمع مقلتي من دون أن يشعر بذلك صاحبه أو يقصد ذلك، صوت أعاد إلي نشاطي على الفور، صوت أزال من عيني السبات، وقتل في صدري التعب والكسل، صوت أدخل في القلب شعاعًا من النور وبارقة من السرور “الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر” نعم، لا شك أن الله أكبر من كل شيء.

انهالت علي المعاني الجميلة، وتراكمت في رأسي الصور الرائعة من عهد عزة المسلمين وقوتهم، عندما فتح المسلمون مكة المكرمة، صعد بلال بن رباح على ظهر الكعبة المشرفة، وأنشد هذا النشيد الإيماني الذي لم تسمع أذن الدنيا له مثيلاً، ورنّ صداه في أجواء مكة المكرمة، في أذن كل من حارب هذا النشيد ردحًا من الزمن، رنّ صداه في شعاب مكة ووديانها، رنّ صداه في جوف المغارات، في جوف غار حراء الذي خرج منه نور الإسلام، في جوف غار ثور الذي اختفى فيه رسول الله مع صاحبه ثلاثة أيام ولياليها خوفًا على نور الإسلام حتى لا يطفئه الأعداء بأفواههم، رنّ صداه في طرقات مكة التي عذّب فيها المنشد نفسه، بلال بن رباح، “الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر….”

تمثلت في ذهني صورة رائعة أخرى، رأيت في عالَم خيالي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع أصحابه بينما هم قد حاصروا قرية في جنح الليل، لا يعرفون عن دينهم، أهم مسلمون أم ليسوا مسلمين، ينتظرون الفجر، هل يسمعون الأذان في المدينة، هل يردد أهل المدينة نشيدنا، هل تطن كلمات الأذان في أجواء القرية. طافت كل هذه الصور برأسي في غضون ثواني عديدة.

حقا هو نشيد إيماني فريد يبعث في قلوب المجاهدين العزائم، ويملأ صدورهم حماسة وقوة وشجاعة وحياة، ويزيل من قلوبهم الهم والخوف، إنه نشيد نردده في المعارك الحمر في مواجهة الموت، ونعلنه فوق المآذن لنداء المسلمين إلى ربهم وصلاتهم وفلاحهم، ونتناجى به في صلاتنا، في قيامنا وقعودنا، في ركوعنا وسجودنا.

“الله أكبر” هذا هو الشعار الذي هتف به آباؤنا وأجدادنا في غابر الأيام، وسيهتف به أحفادنا في قادم الأيام، هذا هو الشعار الذي خضنا به كل حرب، وفتحنا به كل أرض، هذا هو الشعار الذي دخلنا به مكة المكرمة بقيادة سيد الرسل محمد بن عبد الله (صلوات الله عليه وسلامه) وفتحنا به اليرموك، وفتحنا به القادسية، وفتحنا به قلاع تستر، وفتحنا به قسطنطينية، قلب بلاد الصلبان. لا نخاف في المعركة إذا رددنا هذا النشيد، كلما هتفنا بـ “الله أكبر” زال الخوف من القلوب، فإن الله أكبرُ من الأعداء، الله أكبر من طائراتهم، الله أكبر من دباباتهم، الله أكبر من صواريخهم، الله أكبر من قذائفهم، الله أكبر من كل شيء.

كلما رُدِّد هذا النشيد الإيماني المييز على مرّ التاريخ، أتى بسيل فوّار، أتى بسيل لم يقدر أحد أن يقف في وجهه، ألم ينكسر طلسم القوة العسكرية الفارسية أمام هذا النشيد الإيماني؟ ألم تتفكك قوة الروم العسكرية أمام هذا النشيد؟ ما أحلى هذا النشيد! ما أجمل هذا النشيد، إنه أجمل نشيد في العالم مطلقا، إنه نشيد يفوق الوصف، نشيد يلعب بأوتار القلب. لئن اعتز أعداؤنا بكثرة جنودهم وكثرة عتادهم، وزهوا بقوتهم وأعوانهم، فنحن نعتز بقوة هذا النشيد.

بهذا النشيد غيّرنا مجرى التاريخ، وقلبنا تيار الحياة، بهذا النشيد فتحنا بلاد الهند، وأخضعناها من السند إلى ملتان لحكم الإسلام، بهذا النشيد ملكنا زمام الكون، وأرغمناه على أن يسلك طريقنا ويتبع منهجنا في الحياة، بهذا النشيد أصبحنا قادة العالَم وسادته وأساتذته، بهذا النشيد فتحنا الأندلس، ووصلنا إلى قلب فرنسا، وبلغنا سمرقند وبخارى، بهذا النشيد خضنا أودية همياليا، بهذا النشيد ركبنا البحر وقهرنا البلاد، وغلبنا العالَم، بهذا النشيد نصرنا الله، وأظهرنا دينه وهزمنا عدوه، وأنقذنا المستضعفين. ما أكثر هذه المشاهد! ما أكثر هذه الفتوحات!

خرجنا من مدينة الرسول مرددين: “الله أكبر…” تدفقنا كسيل جارف، وغلبنا كل من اعترض طريقنا، ونزلنا بساحة كل جبار متكبر، وغزونا كل من وقف في وجه دعوة الإسلام في عقر داره، ومزّقناه كل ممزق، ووطأنا تيجان الملوك، وفتحنا كنوزهم، واقتسمنا تراثهم بيننا، ودوّخنا قادتهم، وحاربنا فرسانهم، ورفعنا راية الإسلام فوق كل أرض، ولم يقف في وجهنا واقف، ولم يعرقل سيرَنا في طريق الفتح معرقل، حتى جاء يوم كان البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية أو على الأصح حوضا عثمانيا، لا سيطرة فيه لغير المسلمين، والإمبراطورية الفارسية التي قاومت الروم زهاء ألف سنة سقطت في بضعة أعوام فقط أمام هذا النشيد السماوي الإيماني.

لا خوف على الإسلام ما دمنا نبدأ نهارنا بهذا النشيد من على المآذن المشمخرة، لا خوف على الأمة ما دمنا نردد هذا النشيد القدسي المجلجل في المعارك وقت التقاء السيوف، نظل كراما وأحرار ما دمنا نردد هذا النشيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى