مقالات الأعداد السابقة

أسباب الانتصار والانكسار

عبدالقهار قانت

 

إنّ الرسل وأتباعهم -وهم المؤمنون- لهم النصر في الدنيا بإظهارهم على عدوهم وتمكينهم من عدوهم وجعل العاقبة الحميدة لهم ضد عدوهم، وفي الآخرة لهم النصر بدخول الجنة والنجاة من النار والسلامة من هول اليوم العظيم، ويقول عز وجل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:55].

هؤلاء هم أنصار الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهم الذين نصروا دين الله واستقاموا عليه، فالآيات والأحاديث يفسر بعضها بعضا، ويدل بعضها على معنى بعض، فأنصار الله هم المؤمنون، وهم المتقون، وهم الصابرون الصادقون، وهم الأبرار، وهم الذين إذا مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات المذكورون في هذه الآية من سورة النور، وهم الذين قاموا بهذين الأمرين، آمنوا بالله ورسوله، آمنوا بأن الله ربهم وهو معبودهم الحق خصوه بالعبادة وآمنوا بأسمائه وصفاته واستقاموا على دينه قولا وعملا وعقيدة، هؤلاء هم المؤمنون، هم أنصار الله، هم أنصار دينه، وهم المتقون، وهم الذين قال فيهم: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وهم المؤمنون الذين ذكروا في قوله: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ). [الروم:47]. وهم المذكورون في قوله جل وعلا: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) الآية، وفي قوله عز وجل: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). وهم الموعودون بالاستخلاف في الأرض والتمكين لدينهم وإبدالهم بعد الخوف أمنا وبعد الذل عزا.

يقول الشيخ المراغي: وما غُلب المسلمون في العصور الأخيرة وذهب أكثر ملكهم إلا لأنهم تركوا الاهتداء بهدى دينهم وتركوا الاستعداد المادي والحربي الذي طلبه الله بقوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60]. واتكلوا على خوارق العادات وقراءة الأحاديث والدعوات، وذلك ما لم يشرعه الله ولم يعمل به رسوله- إلى أنهم تركوا العدل والفضائل وسنن الله في الاجتماع التي انتصر بها السلف الصالح، وأنفقوا أموال الأمة والدولة فيما حرم الله عليهم من الإسراف فى شهواتهم.

وعلى العكس من ذلك اتبع الإفرنج تعاليم الإسلام فاستعدوا للحرب واتبعوا سنن الله في العمران فرجحت كفّتهم، ولله الأمر.

وما مكّن الله لسلف المسلمين من فتح بلاد كسرى وقيصر وغيرهما من البلاد إلا لما أصاب أهلها من الشرك وفساد العقائد في الآداب ومساوي الأخلاق والعادات والانغماس في الشهوات وإتباع سلطان البدع والخرافات – فجاء الإسلام وأزال كل هذا واستبدل التوحيد والفضائل بها، ومن ثم نصر الله أهله على الأمم كلها.

ولما أضاع جمهرة المسلمين هذه الفضائل واتبعوا سنن من قبلهم في إتباع البدع والرذائل وقد حذرهم الإسلام من ذلك، ثم قصروا في الاستعداد المادي والحربي للنصر في الحرب عاد الغلب عليهم لغيرهم ومكنّ لسواهم في الأرض: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105]. أي الصالحون لاستعمارها والانتفاع بما أودع فيها من كنوز وخيرات.

ويسأل الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله فيقول: كيف أخذوا منّا قبلتنا الأولى ومسرى نبينا؟ ثم هو يجيب بنفسه عن السؤال الذي طرحه فيقول: إنهم (أولا) ما غلبونا بأنفسهم، ولا هم بالذين يستطيعون أن يغلبونا أو أن يعدلونا، ولكن بالذين إنهم – أولاً – ما غلبونا بأنفسهم، ولا هم بالذين يستطيعون أن يغلبونا أو أن يعدلونا، ولكن بالذين أعانوهم علينا، وأمدوهم بالمال والسلاح، وبالناس، السلاح من الغرب من أمريكا، والناس من الشرق من بولونيا وروسيا.

إنهم يختلفون فيما بينهم ولكن إذا جاءت عداوة الإسلام نسوا اختلافهم وصاروا صفاً واحداً، ويداً واحدة علينا. لما قامت هذه الدولة الباغية العاتبة التي سمَّوها دولة إسرائيل تسابقت أمريكان وروسيا إلى الاعتراف بها ومباركة مولدها.

ثم إنهم ما غلبونا (ثانياً) بقوتهم لكن بضعفنا وتفرقنا وانقسامنا. الأب يؤدب أولاده إذا أساؤوا وعصوا، والله (ولله المُثُل العليا، تعالى الله أن يكون كمثله شيء) يأخذ عباده المؤمنين ببعض الألم ليعودوا إليه، ويبلوهم (أي يختبرهم) بشيء من الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، يُنبههم إذا أساؤوا وانحرفوا ليحسنوا ويستقيموا، ونحن أسأنا وانحرفنا، أمرنا الله أن نتمسك بدينه، ونعتصم بحبله، ونكون جسداً واحداً له شعور واحد، وتكون رحمتنا وعاطفتنا لإخواننا، وشدَّتُنا وحِدَّتُنا على عدوّنا. فماذا صنعنا؟ هل أطعنا أمره؟ أم حِدْنا عن سبيله، وتركنا الحق من ديننا للباطل من دين عدوِّنا، وانقسمنا وصرنا شيعاً، وجعلنا شدتنا وقوتنا على إخوتنا، ولَطُفْنا وضَعُفْنا أمام عدونا، ولذلك عاقبنا الله فجعل امرأة عجوزاً تهددنا مرَّة

ويسلبنا قومها وهم أذلُّ الأمم، مسرى نبيّنا، نعم عاقبنا الله بأذلِّ الأمم كما يُعاقبْ الجبابرة بأضعف مخلوقاته، بحيوان لا يُرى، بالجراثيم، فتذلَّ جبروتهم، وجعل امرأة أخرى تضع يدها على تسعين ألفاً من أسرارنا، تسعين ألفاً كآساد الشرى فلا نملك ونحن سبعمئة مليون أن نطلقهم.

إنها يا سادة عقوبة كعقوبة الأب الرحيم، إنها كما قال الشاعر:

 

فقسا ليزدجروا ومن يك راحمأ *** فليقسُ أحياناً على من يرحم

 

ولكن هل تدوم؟ لا، وأُؤكدُّها وأجزمُ بها، لا تأكيد حماسة فارغة مثل الطبل، بل تأكيد الفعل والواقع.

لقد علمونا في المدرسة أن كل أمر مخالف لطبيعة الأشياء التي طبعها ألذ عليها لا يمكن أن يدوم، فهل ترونه أمراً طبيعياً أن تعيش دولة صغيرة قائمة على الباطل، على سرقة الأرض وطرد سكانها، ولو صارت ثكنة ممتلئة بالجند، ولو غَدَتْ قلعة محصنة الجوانب، ولو بلغ سكانها مليونين أو ثلاثة ولن يبلغوها، هل يمكن أن تعيش وسط بحر يمتد على مدى ثلث محيط الأرض فيه ألف مليون كلهم عدو لها، عادوها لظلمها وبغيها لا كرهاً لها وعدواناً عليها، ولو هي عاشت عشراً أو عشرين أو سبعين أو ثمانين عاماً، فهل تعيش الدهر كله؟ وما سبعون أو ثمانون عاماً في أعمار الأمم؟. لقد بقي الاستعمار البرتغالي في أنغولا وموزانبيك مثلا خمسمائة سنة فهل استمر الاستعمار البرتغالي لأنغولا وموازنبيق؟ وقُسِّمَتْ بولونيا (بولندا) مرات وتقاسم جيرانها أجزاءها ثم عادت بولونيا، بل لقد غزا ديار الشام من هم أكثر من اليهود عَدداً وأقوى جنداً وعُدداً وأقاموا فيها دولاً عاشت دهراً، ثم دالت هذه الدول وعادت إلى الأرض أصحابها، أما بقيت القدس قرابة قرن من الزمان بيد الصليبيين، فهل دام في القدس حكم الصليبيّين؟

إن القوة المادية لا بد منها، والله أمرنا باتخاذ أسبابها فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، جاء لفظ القوة منكراً ليشمل كل قوة كانت أو تكون، نُعِدُّ كل ما قدرنا عليه، وما استطعنا الوصول إليه، لكن النصر ليس موقوفاً عليه، ولا مرتبطاً حتماً به، بيَّن لنا ربنا أنها لمجرد الإرهاب: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، أما النصر {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، إنها بشارة وتطمين: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، إنه ربما نصر الله الفئة الأقل عدداً، والأضعف سلاحاً {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}، {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ}.

إن أقوى أسلحة النصر، الإيمان، حتى الإيمان بالجبت والطاغوت إنه يكسب صاحبه النصر العاجل كقصة أهل فيتنام مع أقوى دولة في الأرض الأميركان، فإن كان إيماناً حقاً إيماناً بالله وملائكته وكتبه ورسله، ضمن النصر الكامل، والدليل: روسيا والأفغان، إن في داخل النفوس شيئاً اسمه (القوَّة المدخرة) طالما تكلمت عنها، تظهر في الشدائد، وعند الاضطرار، وساعة اليأس، إن الهرة إن استيأست تهجم على الذئب، بل إن الدجاجة لتحمي أفراخها تجرؤ على الكلب العصور، إن الرجل الذي يروح إلى داره تعبان، جوعان لا يبتغي إلا كرسياً يلقي بجسده عليه إذا رأى الدار قد شبت فيها النار، أو رأى الصغار تَحفُّ بهم الأخطار، نسي تعبه وجوعه وصبَّت القوة في أضاعه صبّاً، فمن أين جاءت تلك القوة، إنها (القوة المدخرة)، إن الذي لا يستطيع أن يَعْدُو مئة متر، إذا لحقه سبع ضار أو مجرم مسلح ولم يجد مخلصا إلا الهرب يركض نصف ساعة، إن الإيمان يثير هذه القوة المدخرة، لذلك كانت العزَّة ة لله ولرسوله وللمؤمنين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى