أسباب انتحار قادة المحاربين الأمريكان
محمد إلهامي
في خطابه، بتاريخ 31 أغسطس 2021، قال بايدن بأن 18 شخصا من قدماء المحاربين ينتحرون يوميا في أمريكا!!
هذا مع أن قدماء المحاربين هؤلاء يتمتعون بالعديد من المزايا والمخصصات في المجتمع الأمريكي، ويُنظر إليهم بنوع من التقدير والتوقير.
الجوع والشبع!
يبدو واضحا إذن، أن القوة المفرطة لم تجلب السعادة، وأن المحاربين القدماء الذين لطالما تمتعوا بشعور القوة الطاغية، وأعيد تمجيدهم مرارا في الأفلام الأمريكية، لم يحصلوا على ما يجعلهم يتمسكون بالحياة، وفضَّلوا عليها الانتحار!!
تكفي هذه الظاهرة وحدها للتعبير عن إفلاس الحداثة، وعن فقر المادية الغربية في تلبيتها لمطالب الإنسان، بالأحرى: لمطالبه الروحية!!
لقد غذت الحداثة والمادية سائر الغرائز الإنسانية، أبو معنى أصح: الغرائز الحيوانية، وتفننت في إشباع الشهوات: الأكل، والشرب، والجنس، والشهرة، والنفوذ، والقوة، والهيمنة.. ولكنها ظلت تدفع بالناس إلى الانتحار في قوافل تزداد طولا!
سيظل الإنسان باحثا عن المعنى، عن شبع الروح، عن الطمأنينة النفسية، وتلك أمور لا ينالها من سكن القصور الذهبية، واستطاع تدمير القرى بضغطة زر كأنه يلعب على الكمبيوتر!!
وهذا البحث الإنساني الحثيث عن المعنى والطمأنينة هو نفسه المقاومة الإنسانية للعلمانية والمادية، وهو نفسه الرفض الإنساني لانحصار الدين في دار العبادة وحدها..
وكما قال المسيري: لا يمكن أن نصل إلى جيل مكتمل العلمنة لأن طبيعة الإنسان ترفض ذلك ولا تقبله.
والانتحار هو أبلغ تعبير عن الرفض، لأنه رفضٌ تام وشامل، رفض لا يتسامح مع العلمانية الضاغطة الغالبة، حتى مع عجزه التام عن مقاومتها.
نعم، الانتحار هروب، وهروبٌ جبانٌ لا يليق بالإنسان الذي كرَّمه الله ومنحه قوة نفسية كما منحه نعمة التعلق به، ولكن إذا فقد الإنسان تعلقه بالله وانهارت نفسه فسيظل إنسانا كذلك، فيه تلك الروح التي أودعها الله فيه والتي لا تقبل أن يمسحها الجسد ويمحو وجودها، تظل تلك الروح تقاوم، حتى إذا أفلست وعجزت ولم يكن لها من الله مدد، حملت هي هذا الجسد إلى الانتحار ليتخلصا معا من هذه الحياة.
إن الروح الجائعة تحمل الجسد المتخم شبعا إلى الموت لأن جوعها أقوى من شبعه، وفراغها سلطان على امتلائه!!
نعم، إن العالم يحتاج إلى الإسلام.. إلى الروح التي توصله بالله، بسر هذا الكون، بأصل هذه الفطرة، بنور السموات والأرض!!
وتبقى مهمة المسلمين في أن يزيحوا تلك القلاع التي أنشأها الباطل لتحجب الحق عن هؤلاء البشر التعساء!
عودة إلى الجندي!
يبدو أنها مهما تسارعت المخترعات الحديثة وتراكمت، فإن الجندي نفسه لا يزال هو الأساس في كل حرب. كأنما نعود لقول الشاعر
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا *** إذا لم يكن فوق الكرام كرامُ
لقد وفرت التقنيات الحديثة ما يجعل الحرب في بعض وجوهها نوعا من الألعاب الإلكترونية، وقد تسربت مقاطع فيديو لطيارين يقصفون القرى وهم يتصايحون كأنهم في لعبة فعلا، بينما هم يحرقون البشر حرفيا!!
لقد أتاح فارق القوة الضخم للجنود أن يهيمنوا على غيرهم من البشر، حتى استطاعوا أن يتلاعبوا بالرجال والنساء والصبيان والفتيات، استعبادا، واغتصابا، وتعذيبا، وقتلا.. بل تفننا في وسائل القتل!
إن التفنن في وسائل التعذيب والقتل هو نفسه تعبير عن طغيان شهوة السلطة والهيمنة، إنها البذرة الفرعونية التي يحملها الإنسان، فإذا كان فاسدا تضخمت وتكثفت حتى صارت أسوأ من الشيطان، فلم يجرؤ الشيطان أن يقول: أنا ربكم الأعلى، ولكن جرأ عليها فرعون من بني البشر!
وإذن، تحقق الطغيان للجندي، وفعل بعدوه المقهور ما شاء.. ولكن قوته النفسية ظلت هشة وضعيفة ومعرضة للانكسار والتحطم.. لقد وفرت له الآلة قوة جسمية مفرطة، ولكنها لم توفر له أية قوة نفسية!!
ترى كم رجلا في حركة مقاومة سواء في أفغانستان أو العراق أو غيرها انتهى أمره بالانتحار؟!
سيظل الإنسان هو العنصر الذي تتوقف عليه مصائر الحروب، فالآلات العمياء مهما توحشت وأمطرت حممها على الناس، فهي عاجزة أن تروي صاحبها بقطرة من الطمأنينة!
لماذا ينتحرون؟
إذا كان الجندي قد أشبع شهوته من القوة والطغيان والهيمنة.. فلماذا إذن ينتهي شأنه بالانتحار؟!!
ربما يكون هذا عذاب الضمير؟
وربما يكون خوفا متمكنا، نتج عن معارك ضارية نجا منها بأعجوبة؟
ويقول المتدينون: ربما يكون هذا هو الدعاء، دعاء المظلوم الذي أقسم الله ليستجيبن له ولو بعد حين.
فلئن كان هذا هو عذاب الضمير فقد تبيّن أن الظلم والتجبر ليس علاجا، بل هو ينقلب على صاحبه يوما ما، حتى لو كان هذا بعد خروجه على المعاش! فالمظلوم لم تنته قصته بالموت أو الأسر، بل لقد ترك طعنة غائرة في ضمير ظالمه ستقتله ولو بعد حين!
ولئن كان هذا خوفا سكنه وانبعث فيه جراء المعارك الضارية، فقد تبين إذن أن المظلوم الذي يُقاوم الاحتلال قادر على إصابة المحتل الظالم في كل الأحوال، فإما أصابه في جسده، وإما ترك شيئا من الرعب في قلبه، لا يزال يفزعه من نومه، ويؤرقه في نهاره حتى يقضي عليه!
ولئن كان هذا هو إجابة الله للدعاء، فما يزيدنا هذا إلا إيمانا وتسليما!!
في كل الأحوال: المقاومة مثمرة.. منها ما ثمرته عاجلة، ومنها ثمرة آجلة.
فلا يحسبن الظالم ولا المظلوم أن القصة انتهت، فليس ثمة قصة قصيرة، بل هي قصة طويلة.. وما لا ينتهي منها في الدنيا فسينتهي منها يوم القيامة.
الحساب المنقوص
إذا كان المنتحرون 18 يوميا، أي أنهم يصلون إلى 6570 في السنة الواحدة..
ونحن لا ندري على وجه التحديد كم سنة حصل فيها هذا التعداد، فلو أنه حصل في سنتين لكان المنتحرون أكثر من 13 ألفا، ولو أنه كان في عشر سنوات لكان المنتحرون 65 ألفا!!
ثم هؤلاء في أمريكا وحدها، بخلاف بقية الدول التي قاتلتنا في أراضينا.
وهذا بخلاف من لم تصل أمراضهم النفسية إلى الانتحار.. ثم هو بخلاف القتلى والجرحى.
إن هذا الرقم الضخم لا يوضع حقيقة في حساب الخسائر العسكرية، ولكنه إذا وُضِع فسيظهر أن فارق التكنولوجيا الضخم الهائل بين الأفغان وبين الحلف الدولي ذي الثماني والثلاثين دولة لم يؤد إلى فارق مكافئ في الخسائر والمكاسب.
ماذا لو كانت الأمة كلها في حال مقاومة
إننا أمام مشهد يتجسد فيه قول الله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم).
وإذا كان الأفغان قد فعلوا هذا وحدهم، بل فعله شطر منهم، فكيف إذا كانت الأمة كلها في حال مقاومة وثورة وكفاح؟! ترى كم نستطيع أن نبلغ منهم؟!
إن الأمريكان إذن ليسوا بهذه الضخامة ولا بهذا الطغيان الذي نتصوره.. وهزيمتهم ممكنة أقرب مما نتصور!!
إن هذا الرقم يجب أن يوضع في حساب الفقيه عندما يقيس المصالح والمفاسد، قبل أن يكون هو بفتواه سببا في إذلال الأمة. كما قال علي رضي الله عنه: “الناس من خوف الذل في ذل.. والناس من خوف الفقر في فقر”.
وهو القول الذي صاغه الشهيد سيد قطب حين تكلم عن ثمة العبودية، وأن الذين يقبلون بها خوفا من تكاليف الحرية يدفعون فيها أعلى مما يدفعه الأحرار من الثمن!
آيتان في سورة النساء ذكر الله فيهما ضعف الباطل وبأسه.. قال تعالى: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفا). وقال تعالى: (فقاتل في سبيل الله، لا تكلف إلا نفسك، وحرض المؤمنين، عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا، والله أشد بأسا وأشد تنكيلا).
فكأنه جل وعلا يخبرنا أن الكيد ضعيف وإن كانوا ذوي بأس.. وحتى بأسهم هذا فإنه ضئيل أمام بأس الله وتنكيله!
لا بد من تثوير تلك المعاني ونشرها وبثها في أمتنا. أمتنا المحبوسة في حظائرها التي تسمى أوطانا، الحظائر المغلقة بمن يدعون حكاما. أمتنا التي تمزقت حتى صار لا يشعر أحدهم بالآخر وقد كانوا جسدا واحدا إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد!
إن أمتنا الممزقة تثبت لنا أن أشلاءها يمكن أن تقاوم، هذه أفغانستان قاومت حتى انتصرت بعد عشرين سنة وصارت رعبا وعذابا ينتحر لأجله حتى من نجا منها بنفسه!