مقالات الأعداد السابقة

أعلام بلاد الأفغان: إبراهيم بن أدهم البلخي رحمه الله – الحلقة الثانية

الحلقة الثانية:

نكمل في هذه الحلقة ما بدأناه في الحلقة السابقة من الحديث عن علم من أعلام بلاد الأفغان؛ إبراهيم بن أدهم البلخي (رحمه الله)، وفيها شيء من أخباره ومواعظه ووفاته.

 

من أخباره:

ذات يوم كان مع إبراهيم بن أدهم بعض أصحابه فمكثوا شهرين لم يحصل لهم شئ يأكلونه، فقال له إبراهيم: ادخل إلى هذه الغيضة – وكان ذلك في يومٍ شاتٍ – قال: فدخلت فوجدت شجرة عليها خوخ كثير، فملأت منه جرابي ثم خرجت، فقال: ما معك؟ قلت: خوخ.

فقال: يا ضعيف اليقين! لو صبرت لوجدت رطباً جنياً، كما رزقت مريم بنت عمران.

وشكا إليه بعض أصحابه الجوع، فصلى ركعتين، فإذا حوله دنانير كثيرة، فقال لصاحبه: خذ منها ديناراً، فأخذه واشترى لهم به طعاماً.

 

وذكروا أنه مرّ مع رفقة، فإذا الأسد على الطريق، فتقدم إليه إبراهيم بن أدهم فقال له: يا قسورة إن كنت أمرت فينا بشيء فامضِ لما أمرت به، وإلا فعودك على بدئك.

قالوا: فولى السبع ذاهباً يضرب بذنبه. ثم أقبل علينا إبراهيم فقال: قولوا: اللهم راعنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت رجاؤنا يا الله، يا الله، يا الله.

قال خلف بن تميم: فما زلت أقولها منذ سمعتها فما عرض لي لص ولا غيره.

وقد روي لهذا شواهد من وجوه أخر.

 

وخرج ابن أدهم من بيت المقدس فمر بطريق فأخذته المسلحة في الطريق فقالوا: أنت عبد؟ قال: نعم.

قالوا: آبق؟ قال: نعم.

فسجنوه.

فبلغ أهل بيت المقدس خبره، فجاؤوا برمتهم إلى نائب طبرية فقالوا: علام سجنت إبراهيم بن أدهم؟ قال: ما سجنته.

قالوا: بلى، هو في سجنك.

فاستحضره فقال: علام سُجنت.

فقال: سل المسلحة، قالوا: أنت عبد؟ قلت: نعم وأنا عبد الله.

قالوا: آبق؟ قلت: نعم وأنا عبد آبق من ذنوبي.

فخلى سبيله.

 

ورُوي أنه كان يصلي ذات ليلة فجاءه أسد ثلاثة، فتقدم إليه أحدهم، فشم ثيابه ثم ذهب فربض قريباً منه، وجاء الثاني ففعل مثل ذلك، وجاء الثالث ففعل مثل ذلك، واستمر إبراهيم في صلاته، فلما كان وقت السحر قال لهم: إن كنتم أمرتم بشيء فهلمّوا، وإلا فانصرفوا، فانصرفوا.

 

وصعد مرة جبلاً بمكة ومعه جماعة فقال لهم: لو أن ولياً من أولياء الله قال لجبل زل لزال.

فتحرك الجبل تحته فوكزه برجله وقال: اسكن فإنما ضربتُ مثلاً لأصحابي.

وكان الجبل أبا قبيس.

 

وركب مرة سفينة فأخذهم الموج من كل مكان، فلفّ إبراهيم رأسه بكسائه واضطجع، وعجّ أصحاب السفينة بالضجيج والدعاء، وأيقظوه وقالوا: ألا ترى ما نحن فيه من الشدة؟ فقال: ليس هذه شدة، وإنما الشدة الحاجة إلى الناس.

ثم قال: اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك.

فصار البحر كأنه قدح زيت.

وكان قد طالبه صاحب السفينة بأجرة حمله دينارين وألحّ عليه، فقال له: اذهب معي حتى أعطيك ديناريك، فأتى به إلى جزيرة في البحر فتوضأ إبراهيم وصلى ركعتين ودعا، وإذا ما حوله قد ملئ دنانير، فقال له: خذ حقك ولا تزد ولا تذكر هذا لأحد.

 

وقال حذيفة المرعشي: أويتُ أنا وإبراهيم إلى مسجد خراب بالكوفة، وكان قد مضى علينا أيام لم نأكل فيها شيئاً، فقال لي: كأنك جائع.

قلت: نعم.

فأخذ رقعة فكتب فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم.أنت المقصود إليه بكل حال، المشار إليه بكل معنى.

أنا حامد أنا ذاكر أنا شاكر أنا جائع أنا حاسر أنا عاري

هي ستة وأنا الضمين لنصفها فكن الضمين لنصفها يا باري

مدحي لغيرك وهج نار خضتها فأجز عبيدك من دخول النار

 

ثم قال لي: اخرج بهذه الرقعة ولا تعلق قلبك بغير الله سبحانه وتعالى، وادفع هذه الرقعة لأول رجل تلقاه.

فخرجتُ، فإذا رجل على بغلة، فدفعتُها إليه، فلما قرأها بكى ودفع إلي ستمائة دينار وانصرف، فسألت رجلاً: من هذا الذي على البغلة؟ فقالوا: هو رجل نصراني.

فجئت إبراهيم فأخبرته فقال: الآن يجيءُ فيسلم.

فما كان غير قريب حتى جاء فأكبّ على رأس إبراهيم وأسلم.

 

وقال: مررت في بعض الجبال، فإذا حجر مكتوب عليه بالعربية:

كل حي وإن بقي فمن العيش يستقي

فاعمل اليوم واجتهد واحذر الموت يا شقي

 

قال: فبينا أنا واقف أقرأ وأبكي، إذا برجل أشعر أغبر عليه مدرعة من شعر فسلم وقال: ممّ تبكي؟ فقلت: من هذا.

فأخذ بيدي ومضى غير بعيد، فإذا بصخرة عظيمة مثل المحراب، فقال: اقرأ وابكِ ولا تقصر.

وقام هو يصلي فإذا في أعلاه نقش بين عربي:

لا تبغين جاها وجاهك ساقط      عند المليك وكن لجاهك مصلحا

 

وفي الجانب الآخر نقش بين عربي:

من لم يثق بالقضاء والقدر       لاقى هموما كثيرة الضرر

 

وفي الجانب الأيسر منه نقش بين عربي:

ما أزين التقى وما أقبح الخنا

وكل مأخوذ بما جنا وعند الله الجزا

 

وفي أسفل المحراب فوق الأرض بذراع أو أكثر: إنما الفوز والغنى في تقى الله والعمل.

قال: فلما فرغت من القراءة، التفتُّ، فإذا ليس الرجل هناك، فما أدري انصرف أم حجب عني.

 

مواعظ:

قال الحافظ أبو بكر الخطيب: أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسن بن محمد بن زامين الاسترابادي قال: أنبأ عبد الله بن محمد الحميدي الشيرازي، أنبأ القاضي أحمد بن خرزاد الاهوازي، حدثني علي بن محمد القصوي، حدثني أحمد بن محمد الحلبي، سمعت سريا السقطي يقول: سمعت بشر بن الحارث الحافي يقول: قال إبراهيم بن أدهم: وقفت على راهب فأشرف علي فقلت له: عظني. فأنشأ يقول:

خُذْ عن الناسِ جانبًا كن بعدوك راهبا

إنَّ دهرًا أَظَلَّنِيْ قد أَرَانِيْ العجائبا

قَلِّبِ الناسَ كيفَ شِئْتَ تَجِدْهُمْ عَقَارِبًا

 

قال بشر: فقلت لإبراهيم: هذه موعظة الراهب لك، فعظني أنت. فأنشأ يقول:

تَوَحَّشْ مِنَ الإخوانِ لا تبغِ مُوْنِسًا ولا تَتَّخِذْ خِلًّا ولا تَبْغِ صاحبا

وكُنْ سامري الفعل من نسل آدم وكن أوحديا ما قدرتَ مُجَانِبًا

فقد فَسَدَ الإخوانُ والحب والإخا فلستَ ترى إلا مذوقا وكاذبا

فقلتُ: ولولا أن يُقال: مدهده وتنكر حالاتي لقد صرتُ راهبًا

 

قال سري: فقلت لبشر: هذه موعظة إبراهيم لك فعظني أنت، فقال: عليك بالخمول ولزوم بيتك.

فقلت بلغني عن الحسن أنه قال: لولا الليل وملاقاة الإخوان ما باليت متى مِتُّ.

فأنشأ بشر يقول:

يا من يَسُرُّ بِرُؤيةِ الإخوان مهلا أَمِنْتَ مكايدَ الشيطان

خلت القلوب من المعاد وذكره وتشاغلوا بالحرص والخسران

صارت مجالس من ترى وحديثهم في هتك مستور وموت جِنان

 

قال الحلبي فقلت لسري: هذه موعظة بشر فعظني أنت.

فقال: عليك بالاخمال. فقلت: أحب ذاك. فأنشأ يقول:

يا من يروم بزعمه إخمالا إن كان حقا فاستعد خصالا

ترك المجالس والتذاكر يا أخي واجعل خروجك للصلاة خيال

بل كن بها حيا كأنك ميت لا يرتجى منه القريب وصالا

 

قال علي بن محمد القصري: قلت للحلبي: هذه موعظة سري لك، فعظني أنت.

فقال: يا أخي أحب الأعمال إلى الله ما صعد إليه من قلب زاهد في الدنيا، فازهد في الدنيا يحبك الله.

ثم أنشأ يقول:

أنت في دار شتات فتأهب لشتاتك

واجعل الدنيا كيوم صمتَه عن شهواتك

واجعل الفطر إذا ما صمتَه يوم وفاتك

 

قال ابن خرزاد فقلت لعلي: هذه موعظة الحلبي لك، فعطني أنت.

فقال لي: احفظ وقتك، واسخُ بنفسك لله عز وجل، وانزع قيمة الأشياء من قلبك، يصفو لك بذلك سرك ويذكو به ذكرك. ثم أنشدني:

حياتك أنفاس تعد فكلما مضى نفس منها انتقصتَ به جزءا

فتصبح في نقص وتمسي بمثله وما لك معقول تحس به رزءا

يميتك ما يحييك في كل ساعة ويحدوك حاد ما يزيد بك الهزءا

 

قال أبو محمد قلتُ لأحمد: هذه موعظة علي لك، فعظني.

فقال: يا أخي عليك بلزوم الطاعة وإياك أن تفارق باب القناعة، وأصلح مثواك، ولا تؤثر هواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، واشتغل بما يعنيك بترك ما لا يعنيك. ثم أنشدني:

ندمت على ما كان مني ندامة ومن يتبع ما تشتهي النفس يندم

فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم ستلقون ربا عادلا ليس يظلم

فليس لمغرور بدنياه زاجر سيندم إن زلت به النعل فاعلموا

 

قال ابن زامين: فقلت لأبي محمد: هذه موعظة أحمد لك، فعظني أنت.

فقال: اعلم رحمك الله أن الله عز وجل ينزل العبيد حيث نزلت قلوبهم بهمومها، فانظر أن ينزل قلبك، واعلم أن الله سبحانه يقرب من القلوب على حسب ما تقرب منه. وتقرب منه على حسب ما قرب إليها. فانظر من القريب من قلبك. وأنشدني:

قلوب رجال في الحجاب نزول وأرواحهم فيما هناك حلول

تروح نعيم الأنس في عز قربه بأفراد توحيد الجليل تحول

لهم بفناء القرب من محض بره عوائد بذل خطبهن جليل

 

قال الخطيب: فقلت لابن زامين: هذه موعظة الحميدي لك، فعظني أنت.

فقال: اتق الله وثق به ولا تتهمه فإن اختياره لك خير من اختيارك لنفسك. وأنشدني:

اتخذ الله صاحبا ودَعِ الناسَ جانبا

جرب الناس كيف شِئْـ تَ تجدهم عقاربا

 

قال أبو الفرج غيث الصوري: فقلت للخطيب: هذه موعظة ابن زامين لك، فعظني أنت.

فقال: احذر نفسك التي هي أعدى أعدائك أن تتابعها على هواها، فذاك أعضل دائك، واستشرف الخوف من الله تعالى بخلافها، وكرر على قلبك ذكر نعوتها وأوصافها، فإنها الأمارة بالسوء والفحشاء والْمُوْرِدَةُ من أطاعها موارد العطب والبلاء، واعمد في جميع أمورك إلى تحري الصدق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، وقد ضمن الله لمن خالف هواه أن يجعل جنة الخلد قراره ومأواه، ثم أنشد لنفسه:

إن كنت تبغي الرشاد محضا في أمر دنياك والمعاد

فخالف النفس في هواها إن الهوى جامع الفساد

 

وفاته وموضعه الأخير:

قال ابن عساكر: المحفوظ أن إبراهيم بن أدهم توفي سنة ثنتين وستين ومائة.

وقال غيره: إحدى وستين وقيل سنة ثلاث. والصحيح ما قاله ابن عساكر والله أعلم.

وذكروا أنه توفي في مدينة جبلة (25 جنوب محافظ اللاذقية، بين أنطاكية وبيروت، على ساحل بحر الروم) وهو مرابط، وأنه ذهب إلى الخلاء ليلة مات نحواً من عشرين مرة، وفي كل مرة يجدد الوضوء بعد هذا، وكان به البطن، فلما كانت غشية الموت قال: أوتروا لي قوسي، فأوتروه فقبض عليه، فمات وهو قابض عليه يريد الرمي به إلى العدو. رحمه الله وأكرم مثواه.

وقد قال أبو سعيد بن الأعرابي: حدثنا محمد بن علي بن يزيد الصائغ قال: سمعت الشافعي يقول: كان سفيان معجبا به:

أجاعتهم الدنيا فخافوا ولم يزل كذلك ذو التقوى عن العيش ملجما

أولئك أصحابي وأهل مودتي فصلى عليهم ذو الجلال وسلما

فما ضر ذا التقوى نصال أَسِنَّةٍ وما زال ذو التقوى أعز وأكرما

وما زالت التقوى تريك على الفتى إذا محض التقوى من العز ميسما

 

وروى البخاري في كتاب الأدب عن إبراهيم بن أدهم، وأخرج الترمذي في جامعه حديثاً معلقاً في المسح على الخفين.

والله سبحانه أعلم.

(البداية والنهاية: 10/ 558 – 569)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى