أعلام بلاد الأفغان (5) : أبو عُبَيْدٍ القَاسم بنُ سَلَّامٍ الهروي .. من أئمة الاجتهاد
قال الذهبي س: هو الإمام، الحافظ، المجتهد، ذو الفنون، أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله. وكان أبوه يحبُّ العلم، فيحكي أنَّه خرج يوماً، وأبو عبيدٍ مع ابنِ مولاه في الكُتَّاب، فقال للمعلِّم: علِّمي القاسم فإنَّها كَيِّسه.
في هرات:
قال علي بن عبد العزيز: وُلِدَ بهرات، سنة سبع وخمسين ومائة.
من شيوخه الذين سمع منهم:
إسماعيل بن جعفر، وشريك بن عبد الله، وإسماعيل بن عياش، وسفيان بن عيينة، وأبو بكر بن عياش، وعبد الله بن المبارك، وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي، وعبيد الله الأشجعي، وغندر، ووكيع، ويحيى القطان، وإسحاق الأزرق، وابن مهدي، ويزيد بن هارون، وخلق كثير.
وقرأ القرآن على: أبي الحسن الكسائي، وإسماعيل بن جعفر، وشجاع بن أبي نصر البلخي.
وسمع الحروف من طائفة.
وأخذ اللغة عن: أبي عبيدة، وأبي زيد، وجماعة.
تلامذته ومن حدث عنه:
نصر بن داود، وأبو بكر الصاغاني، والحسن بن مكرم، وأبو بكر بن أبي الدنيا، والحارث بن أبي أسامة، وعلي بن عبد العزيز البغوي، ومحمد بن يحيى المروزي، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وعباس الدوري، وأحمد بن يحيى البلاذري، وآخرون.
وصفه ومقامه:
الذهبي س: وهو من أئمة الاجتهاد. وكان ذا فضل، ودين، وستر، ومذهب حسن. وكان أبو عبيد ثقة، ديّنا، ورعا، كبير الشأن.
قال ابن سعد: كان أبو عبيد مؤدبا، صاحب نحو وعربية، وطلب للحديث والفقه، ولي قضاء طرسوس أيام الأمير ثابت بن نصر الخزاعي، ولم يزل معه ومع ولده، وقدم بغداد، ففسر بها غريب الحديث، وصنف كتبا، وحدث، وحج، فتوفي بمكة، سنة أربع وعشرين.
قال عبد الله بن جعفر بن دُرُسْتَويه النحوي: ومن علماء بغداد المحدثين النحويين على مذهب الكوفيين، ورواة اللغة والغريب عن البصريين والعلماء بالقراءات، ومن جمع صنوفا من العلم، وصنف الكتب في كل فن – أبو عبيد.
في مصر:
وقال أبو سعيد بن يونس في (تاريخه): قدم أبو عبيد مصر مع يحيى بن معين، سنة ثلاث عشرة ومائتين، وكتب بها.
مع طاهر بن الحسين:
نقل الخطيب في (تاريخه)، وغيره: أن طاهر بن الحسين (الأمير) حين سار إلى خراسان، نزل بمرو، فطلب رجلا يحدثه ليلة، فقيل: ما هاهنا إلا رجل مؤدب.
فأدخلوا عليه أبا عبيد، فوجده أعلم الناس بأيام الناس والنحو واللغة والفقه، فقال له: من المظالم تركك أنت بهذه البلدة. فأعطاه ألف دينار، وقال له: أنا متوجه إلى حرب، وليس أحب استصحابك شفقا عليك، فأنفق هذه إلى أن أعود إليك.
فألف أبو عبيد (غريب المصنف)، وعاد طاهر بن الحسين من ثغر خراسان، فحمل معه أبا عبيد إلى (بغداد).
قال ابن درستويه: ولأبي عبيد كتب لم يروها، قد رأيتها في ميراث بعض الطاهرية تباع كثيرة في أصناف الفقه كله.
عن الفسطاطي قال: كان أبو عبيد مع ابن طاهر، فوجه إليه أبو دلف (الأمير) بثلاثين ألف درهم، فلم يقبلها، وقال: أنا في جنبة رجل ما يحوجني إلى صلة غيره، ولا آخذ ما علي فيه نقص.
فلما عاد ابن طاهر، وصله بثلاثين ألف دينار، فقال له: أيها الأمير! قد قبلتها، ولكن قد أغنيتني بمعروفك، وبرك عنها، وقد رأيت أن أشتري بها سلاحا وخيلا، وأوجه بها إلى الثغر ليكون الثواب متوفرا على الأمير، ففعل.
قال عبيد الله بن عبد الرحمن السكري: قال أحمد بن يوسف – إما سمعته منه، أو حدثت به عنه – قال: لما عَمِل أبو عبيد كتابَ “غريب الحديث” عُرِض على عبد الله بن طاهر، فاستحسنه، وقال: إن عقلا بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب، لحقيق أن لا يحوج إلى طلب المعاش. فأجرى له عشرة آلاف درهم في الشهر. كذا في هذه الرواية: عشرة آلاف درهم. وفي رواية أنه ابن طاهر: كتب إلى إسحاق بن إبراهيم ( الخازن) بأن يجري عليه في كل شهر خمس مائة درهم. فلما مات ابن طاهر، أجرى عليه إسحاق من ماله ذلك، فلما مات أبو عبيد بمكة، أجراها على ولده.
مصنفاته:
الذهبي س: وصنف التصانيف المونقة التي سارت بها الركبان. وله 1 – مصنف في القراءات لم أره.2 – كتاب الأموال في مجلد كبير، سمعناه بالاتصال،3 – کتاب الغريب. 4 – كتاب فضائل القرآن وقع لنا، 5 – كتاب الطهور، 6 – كتاب الناسخ والمنسوخ 7 – كتاب المواعظ 8 – كتاب الغريب المصنف في علم اللسان، وغير ذلك، وله بضعة وعشرون كتابا. وبلغنا: أنه كان إذا ألف كتابا، أهداه إلى ابن طاهر، فيحمل إليه مالا خطيرا…والغريب المصنف من أجل كتبه في اللغة، احتذى فيه كتاب النضر بن شميل، المسمى بكتاب الصفات، بدأ فيه بخلق الإنسان، ثم بخلق الفرس، ثم بالإبل، وهو أكبر من كتاب أبي عبيد، وأجود.
ومنها 9 – كتابه في الأمثال أحسن تأليفه، 10 – كتاب غريب الحديث ذكره بأسانيده، فرغب فيه أهل الحديث، 11 – كذلك كتابه في معاني القرآن، حدث بنصفه، ومات.
12 – له كتب في الفقه، فإنه عمد إلى مذهب مالك، والشافعي، فتقلد أكثر ذلك، وأتى بشواهده، وجمعه من رواياته، وحسنها باللغة والنحو.
13 – له في القراءات كتاب جيد، ليس لأحد من الكوفيين قبله مثله، كتابه في “الأموال” من أحسن ما صنف في الفقه وأجوده.
محمد عمارة: 14 – كتاب غريب القرآن 15 – كتاب عدد آي القرآن 16 – كتاب فضائل الفرس 17 – كتاب الحجر والتفليس كتبه على مذهب الشافعي 18 – كتاب أدب القاضي 19 – كتاب الخطب والمواعظ 20 – كتاب الأيمان والنذور 21 – كتاب الحيض 22 – كتاب آداب الإسلام 23 – كتاب الأجناس من كلام العرب 24 – رسالة فيما اشتبه في اللفظ واختلف في المعنى 25 – كتاب الشعراء 26 – كتاب الأحداث 27 – كتاب النَّعَم والبهائم. وغيرها
من تعبه في التصنيف وفي الطلب:
وعن أبي عبيد، أنه كان يقول: كنت في تصنيف هذا الكتاب (غريب الحديث) أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأضعها في الكتاب، فأبيت ساهرا فرحا مني بتلك الفائدة، وأحدكم يجيئني، فيقيم عندي أربعة أشهر، خمسة أشهر، فيقول: قد أقمت الكثير.
كتب في حداثته عن هشيم، وغيره، فلما صنف، احتاج إلى أن يكتب عن يحيى بن صالح، وهشام بن عمار (وهو صديقه).
قال عبد الله بن أبي مقاتل البلخي، عن أبي عبيد: دخلت البصرة لأسمع من حماد بن زيد، فقدمت، فإذا هو قد مات، فشكوت ذلك إلى عبد الرحمن بن مهدي، فقال: مهما سبقت به، فلا تسبقن بتقوى الله.
الثناء على مصنفات أبي عبيد:
وقيل: إن أول من سمع الغريب من أبي عبيد: يحيى بن معين.
الطبراني: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: عرضت كتاب غريب الحديث لأبي عبيد على أبي، فاستحسنه، وقال: جزاه الله خيرا.
صورتان؛ إباءٌ وتواضع:
قال عبد الله بن محمد بن سيار: سمعت ابن عرعرة يقول: كان طاهر بن عبد الله ببغداد، فطمع في أن يسمع من أبي عبيد، وطمع أن يأتيه في منزله، فلم يفعل أبو عبيد، حتى كان هو يأتيه.
فقدم علي بن المديني، وعباس العنبري، فأرادا أن يسمعا (غريب الحديث)، فكان يحمل كل يوم كتابه، ويأتيهما في منزلهما، فيحدثهما فيه.
العلم يُقصَد:
محمد عمارة: كان أبوعبيد القاسم بن سلام رحمه الله يَسْكُنُ في بغداد في رعاية الأمير عبدالله بن طاهر بن الحسين، وكان يعطيه في كل شهر عشرة آلاف درهم، فجاء يوما طاهر بن عبدالله بن طاهر – ابن الأمير الذي يرعى القاسمَ بنَ سَلَّامٍ- وهو حدَثٌ، وهو في طريقه إلى الحج، فنزل في دار إسحاق بن إبراهيم، فدعى إسحاقُ العلماءَ، ليراهم الأمير ويسامرهم ويقرأ عليهم، فَلَبَّى الدعوةَ كثيرون من الفقهاء والمحدثين والرُّوَاةِ، لكنَّ أباعبيدٍ – وهو الذي يعيش في رعاية والد هذا الأمير، ويتلقى عطاءه من صاحب الدعوة إسحاق بن إبراهيم- يأبى؛ ويعتذر عن عدم تلبية الدعوة قائلا: “العِلمُ يُقصَدُ”… فيغضب، إسحاق، فيقطع عنه عطاء عبدالله بن طاهر، ويكتب إلى عبدالله بن طاهر بالخبر، لكنَّ الأميرَ العارفَ بأقدار العلماءِ عبدَالله بن طاهر، يكتبُ إلى إسحاق بن إبراهيم قائلًا: “صَدَقَ أبوعبيدٍ في قوله، وقد أَضْعَفْتُ له الرزق من أجل فعله، فَأَعْطِهِ فائتَه، وأدر عليه بعد ذلك ما يستحقه”!..
مع جماعة من العلماء:
قال جعفر بن محمد بن علي بن المديني: سمعت أبي يقول: خرج أبي إلى أحمد بن حنبل يعوده وأنا معه، فدخل إليه، وعنده يحيى بن معين وجماعة، فدخل أبو عبيد، فقال له يحيى: اقرأ علينا كتابك الذي عملته للمأمون (غريب الحديث).
فقال: هاتوه. فجاؤوا بالكتاب، فأخذه أبو عبيد، فجعل يبدأ يقرأ الأسانيد، ويدع تفسير الغريب، فقال أبي: دعنا من الإسناد، نحن أحذق بها منك. فقال يحيى بن معين لأبي: دعه يقرأ على الوجه، فإن ابنك معك، ونحن نحتاج أن نسمعه على الوجه.
عبادته وتقسيم أوقاته:
قال أبو بكر بن الأنباري: كان أبو عبيد -رحمه الله- يقسم الليل أثلاثا؛ فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويصنف الكتب ثلثه.
العمل اتباع السنة:
أبو عبيد، قال: سمعني ابن إدريس أتلهف على بعض الشيوخ، فقال لي: يا أبا عبيد! مهما فاتك من العلم، فلا يفوتنك من العمل.
الحاكم: سمعت أبا الحسن الكارزي، سمعت علي بن عبد العزيز، سمعت أبا عبيد يقول: المتبع السنة، كالقابض على الجمر، هو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله.
مثل المعاني الظريفة:
وعن أبي عبيد، قال: مثل الألفاظ الشريفة والمعاني الظريفة، مثل القلائد اللائحة في الترائب الواضحة.
أقوال أهل العلم:
قال الهلال بن العلاء الرقي: مَنَّ الله على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: بالشافعي تفقه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأحمد ثبت في المحنة، لولا ذلك كفر الناس، وبيحيى بن معين نفى الكذب عن الحديث، وبأبي عبيد فسر الغريب من الحديث، ولولا ذلك، لاقتحم الناس في الخطأ.
وقال إبراهيم بن أبي طالب: سألت أبا قدامة عن الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، فقال: أما أفقههم: فالشافعي، لكنه قليل الحديث، وأما أورعهم: فأحمد، وأما أحفظهم: فإسحاق، وأما أعلمهم بلغات العرب فأبو عبيد.
قال الحسن بن سفيان: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول:
أبو عبيد أوسعنا علما، وأكثرنا أدبا، وأجمعنا جمعا، إنا نحتاج إليه، ولا يحتاج إلينا – سمعها الحاكم من أبي الوليد الفقيه: سمعت الحسن -.
وقال أحمد بن سلمة: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: الحق يحبه الله -عز وجل- أبو عبيد القاسم بن سلام أفقه مني، وأعلم مني.
وقال إسحاق: إن الله لا يستحيي من الحق: أبو عبيد أعلم مني، ومن ابن حنبل، والشافعي.
قال أبو العباس ثعلب: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل، لكان عجباً.
وقال أحمد بن كامل القاضي: كان أبو عبيد فاضلا في دينه وفي علمه، ربانيا، مفننا في أصناف علوم الإسلام من القرآن، والفقه والعربية، والأخبار، حسن الرواية، صحيح النقل، لا أعلم أحدا طعن عليه في شيء من أمره ودينه.
قال إبراهيم بن محمد النساج: سمعت إبراهيم الحربي يقول: أدركت ثلاثة تعجز النساء أن يلدن مثلهم: رأيت أبا عبيد ما مثلته إلا بجبل نفخ فيه روح، ورأيت بشر بن الحارث، ما شبهته إلا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلا، ورأيت أحمد بن حنبل، فرأيت كأن الله قد جمع له علم الأولين، فمن كل صنف يقول ما شاء، ويمسك ما شاء.
قال مكرم بن أحمد: قال إبراهيم الحربي: كان أبو عبيد كأنه جبل نفخ فيه الروح.
مع المعترضين على عمله:
وانصرف يوما من الصلاة، فمر بدار إسحاق الموصلي، فقالوا له: يا أبا عبيد! صاحب هذه الدار يقول: إن في كتابك “غريب المصنف” ألف حرف خطأ. فقال: كتاب فيه أكثر من مائة ألف (حرف) يقع فيه ألف (خطأ) ليس بكثير!
ولعل إسحاق عنده رواية، وعندنا رواية، فلم يعلم، فَخَطَّأَنَا، والروايتان صواب، ولعله أخطأ في حروف، وأخطأنا في حروف، فيبقى الخطأ يسيرا.
قال الزبيدي: عددت حروف (غريب المصنف)، فوجدته سبعة عشر ألفا وتسع مائة وسبعين حرفا.
قلت: يريد بالحرف اللفظة اللغوية.
مقامه:
قال حمدان بن سهل: سألت يحيى بن معين عن الكتبة، عن أبي عبيد، فقال – وتبسم -: مثلي يُسألُ عن أبي عبيد؟! أبو عبيد يسأل عن الناس، لقد كنت عند الأصمعي يوما، إذ أقبل أبو عبيد، فشق إليه بصره حتى اقترب منه، فقال: أترون هذا المقبل؟! قالوا: نعم. قال: لن تضيع الدنيا أو الناسُ- ما حَيِيَ هذا!. عن ابن معين قال: أبو عبيد ثقة. وقال أحمد بن حنبل: أبو عبيد ممن يزداد عندنا كل يوم خيرا. وقال أبو داود: أبو عبيد: ثقة، مأمون. وقال أبو قدامة: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أبو عبيد أستاذ. وقال الدارقطني: ثقة، إمام، جبل.
وقال الحاكم: إنما الإمام المقبول عند الكل أبو عبيد. ولم يتفق وقوع رواية لأبي عبيد في الكتب الستة، لكن نقل عنه أبو داود شيئا في تفسير أسنان الإبل في الزكاة، وحكى أيضا عنه البخاري في كتاب أفعال العباد.
صورته:
وقيل: كان أبو عبيد أحمر الرأس واللحية بالخضاب، وكان مهيبا، وقورا.
رأيه في المتشابهات:
قال العباس الدُّوري، سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام – وذكر الباب الذي يروى فيه الرؤية، والكرسي موضع القدمين، وضحك ربنا، وأين كان ربنا – فقال: هذه أحاديث صحاح، حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا نشك فيها، ولكن إذا قيل: كيف يضحك؟ وكيف وضع قدمه؟ قلنا: لا نفسر هذا، ولا سمعنا أحدا يفسره.
وفاته:
قال البخاري، وغيره: مات سنة أربع وعشرين ومائتين، بمكة. قال الخطيب: وبلغني أنه بلغ سبعا وستين سنة -رحمه الله-. (1 – سير أعلام النبلاء: 19 / 485 – 499 ، مؤسسة الرسالة. 2 – مقدمة كتاب الأموال، للدكتور محمد عمارة ، ط دار السلام، 1430هـ).