
أعلام بلاد الافغان: مكحول الشامي
منصورالرحمن الغزنوي
ما أعقل امرأة عرفت قدر مملوكها فأعتقته ليكون في أوانه عَلما يضرب به المثل في العلم والورع والتقى ويشار إليه بالبنان في عصر كانت البلاد الإسلامية مليئة بأهل العلم والفضل، إنه إمامنا مكحول الشامي.
يرجع أصل الإمام إلى أسرة عريقة من بلاد كابل عاصمة الأفغانستان الحالية، وكان جده شاذل من أهل هراة فتزوج ابنة لملك من ملوك كابل، ثم هلك عنها وهي حامل فانصرفت إلى اهلها فولدت شهراب، فلم يزل في اخواله حتى ولد له مكحول.
نسبه:
أبو عبد الله مكحول بن أبى مسلم شهراب بن شاذل الهذلي بالولاء، كما قال أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز كان مكحولا إذا رمى قال أنا الغلام الهذلي.
ولد بكابل وترعرع بها إلى أن شبّ فسبي كما يقول الإمام عن نفسه: كنت عبدا لسعيد بن العاص فوهبني لامرأة من هذيل بمصر، فاعتقته هناك. وكان في لسانه عجمة: يجعل القاف كافا، والحاء هاء.
طلبه للعلم:
بدأ يطلب العلم بمصر حيث عتق كما قال: فما خرجت من مصر حتى ظننت أن ليس بها علم إلا وقد سمعته ثم أتيت العراق ثم المدينة فلم أدع بهما علما إلا حويت عليه فيما أرى ثم أتيت الشام فغربلتها، انتهى. وطاف كثيرا من البلدان، وأخيرا استقر في دمشق.
شيوخه:
سمع الكثيرين من الصحابة والتابعين ويذكر منهم: أبي أمامة الباهلي وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك وأم الدرداء ووأبا مرة الداري ومحمود بن الربيع وعبد الرحمن بن غنم وأبي إدريس الخولاني وأبي سلام ممطور وخلق.
قال محمد بن إسحاق سمعت مكحولا يقول طبقت الأرض كلها في طلب العلم.
تلاميذه:
روى عنه أيضا الكثيرون ويذكر منهم: الزهرى، وحميد الطويل، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن إسحاق، وعبد الله ابن العلاء بن زيد، وسالم بن عبد الله المحاربى، وموسى بن يسار، والأوزاعى، وسعيد ابن عبد العزيز، والعلاء بن الحارث، وثور بن يزيد، وأيوب بن موسى، ومحمد بن راشد المكحولى، ومحمد بن الوليد الزبيدى، وبرد بن سنان، وعبد الله بن عوف، ويحيى بن سعيد الأنصارى، وأسامة بن زيد الليثى، وبجير بن سعد، وصفوان بن عمرو، وثابت بن ثوبان، وخلائق لا يحصون.
أقوال العلماء فيه: قال الذهبي: مكحول عالم أهل الشام أبو عبد الله بن أبي مسلم الهذلي الفقيه الحافظ.
وقال أبو نعيم الأصفهاني: الإمام الفقيه الصائم المهزول، إمام أهل الشام أبو عبد الله مكحول.
وقال أبو حاتم: ما أعلم بالشام أفقه من مكحول. وقال ابن يونس: كان فقيهًا، عالمًا. واتفقوا على توثيقه.
قال الزهري: العلماء أربعة سعيد بن المسيب بالمدينةوالشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، مكحول بالشام.
قال سعيد بن عبد العزيز:لم يكن عندنا أحد أحسن سمتا في العبادة من مكحول وربيعة بن يزيد.
قال الزهري: لم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا.
قال ابن حبان: كان من فقهاء أهل الشام، وربما دلس، روى عنه أهل الشام.
قال عطاء بن السائب الكوفي: دخلت على هشام بن عبد الملك بالرصافة، فقال: يا عطاء، هل لك علم بعلماء الأمصار؟ قلت: بلى، يا أمير المؤمنين!
قال: فمن فقيه أهل الشام؟ قلت: مكحول.
قال: مولى أم عربي.
قلت: مولى.
قال الزركلي في الأعلام: فقيه الشام في عصره، من حفاظ الحديث.
و كان كثير الحيطة في الإقتاء كما نقل أنه إذا سئل لا يجيب حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله , هذا رأي والرأي يخطئ ويصيب. وكثيرا ما يقول في جواب السائل: ندانم أي لا أدري.
و كان يتورع عن تولي القضاء فنقل عنه مقالته الشهيرة: لئن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن ألي القضاء. وقال أيضا: لو خيرت بين القضاء وبين ضرب رقبتي لاخترت ضرب رقبتي.
أخباره:
قال مكحول: اجتمعت أنا والزهري فتذاكرنا التيمم، فقال الزهري: المسح إلى الآباط، فقلت: عن من أخذت هذا؟ قال: عن كتاب الله، إن الله تعالى يقول: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم. فهي يد كلها. قلت فإن الله تعالى يقول: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما. فمن أين تقطع اليد؟ قال: فخصمته.
قال الوليد بن مسلم عن ابن جابر قال: بينما نحن عند مكحول إذ أقبل يزيد بن عبد الملك فهممنا أن نوسع له، فقال مكحول: دعوه يجلس حيث انتهى به المجلس، يتعلم التواضع.
و قيل: أتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله قوله عز وجل: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. قال: يا ابن أخي لم يأت تأويل هذه بعد، إذا هاب الواعظ وأنكر الموعوظ، فعليك حينئذ نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، يا أخي الآن نعظ ونسمع منا.
من أقواله:
قال مكحول: الجنين في بطن أمّه لا يطلُب ولا يحزَن ولا يغتم، فيأتيه الله برزقه من قِبَل سُرّته، وغذاؤه في بطن أمه من دم حيضها، فمن ثَم لا تَحيض الحامل، فإذا سقط استهَل استهلالة إنكاراً لمكانه، وقُطِعت سُرّته وحوؤل الله رزقه إلى ثدي أمه ثم حوله إلى الشيء يُصْنع له ويَتناوله بكفّه، حتى إذا اشتدّ وعقل قال: أين لي بالرزق! يا ويحك! أنت في بطن أمك وفي حِجْرها تُرْزَق حتى إذا عَقَلتَ وشَبَبت قلتَ: هو الموت أو القتل وأين لي بالرزق! ثم قرأ “يَعْلَمُ ما تَحْمِل كُلُّ أنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَام وَمَا تَزْدَادُ”.
وقال أيضا: أفضل العبادة بعد الفرائض الجوع والظمأ.
وقال: إن كان الفضل في الجماعة فإن السلامة في العزلة.
وقال: المؤمنون هينون لينون مثل الجمل الأنف، إذا قدته انقاد، وإن أنخته على صخرة استناخ.
وقال: عينان لا يمسهما العذاب، عين بكت من خشية الله، وعين باتت من وراء المسلمين.
وقال: أرق الناس قلوبا أقلهم ذنوبا.
وقال: مَن نظف ثوبه قلَّ همُّه، ومن طابت ريحه زاد عقله، ومن جمع بينهما زادت مروءته.
وقال: تفقه الرعاع فساد الدين، وتفقه السفلة فساد الدنيا.
وقال: لا تعاهدوا السفيهَ ولا المنافقَ فما نقضوا من عهدِ اللهِ أكبرُ من عهدكم.
قال بركة الأزدي: وضأت مكحولا فأتيته بالمنديل، فأبى أن يمسح به وجهه ومسح وجهه بطرف ثوبه، فقال: الوضوء بركة وأنا أحب أن لا تعدو ثوبي.
وفاته:
قال عبد ربه ابن صالح: دخلت علي مكحول في مرضه الذي مات فيه، فقيل له أحسن الله عافيتك أبا عبد الله ؟ فقال: الإلحاق بمن يرجى عفوه خير من البقاء مع لا يؤمن شره. خدم العلم والسنة إلى مدة مديدة، ووعظ الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ودعاهم إلى الدين القويم، وتحمل المشاق في هذه السبيل، حتى وافته المنية وهو في دمشق سنة 112 وقيل: 113 وقيل: 114 من الهجرة النبوية –على صاحبها الصلاة والسلام -. جزاه الله عنا وعن جميع الأمة المسلمة كل الخير، وغفر له وأسكنه فسيح جنانه. آمين.
مصادر الترجمة: التاريخ الصغير والكبير للبخاري، سير أعلام النبلاء وتذكرة الحفاظ للذهبي، حلية الأولياء للأصفهاني والأعلام للزركلي وغيرها من المصادر.