أفغانستان رأي عين
أ. د. محمد الصغير – رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبيﷺ
(ليس راءٍ كمن سمع)
أكرمني الله تعالى مع ثلة من علماء الأمة بزيارة أفغانستان الأرض المباركة، أرض الجهاد والرباط، وهذه شهادة معاين، وحصيلة رأي العين عما وجدت عليه القوم، حيث رأيت خلقا آخر معتزا بعقيدته وهويته، وعاداته وموروثاته على أي حال كانت، بل نحت لنفسه من صفات الخير ومكارم الأخلاق ما يجعله متفردا في ذلك، وبالمثال يتضح المقال؛ فقد اشتهرت شعوب كثيرة بإكرام الضيف، ولكن الأفغان انتقلوا من درجة الإكرام إلى الإجلال، المقترن بنوع من الحياء من جنس حياء الولد البار من الآباء الكبار، أو الطالب النجيب من شيخه المَهيب، والعالم كله يعرف كم كلفهم عدم خذلان الضيف من أثمان، وسأضع بين أيديكم أهم المشاهدات التي علقت بذاكرتي وبقيت في مخيلتي، وكنت إذا اطلعت عليها حفظتها بغية أن أقصها عليكم.
أولا:
كنت أتوقع استقبالا مختلفا في مطار كابول، لكن ما قابلنا به القوم من حفاوة الاستقبال الرسمي، ومقابلتنا بما تقابَل به كبار الوفود لم يخطر لي ببال، لا سيما طواقم الحراسة المختلفة بسياراتهم المصفحة، مما غنموه من الأمريكان، أما السيارات اليابانية فئة (لاند كروزر) وأخواتها فهي “زي الرز”، وهي مما خلفته دولة خليجية كانت تدعم الحلف الأمريكي وتشارك في الغزو.
ثانيا:
المكاتب الحكومية والفنادق تدلك على أن أمريكا كانت تظن أنها ستبقى طويلا في أفغانستان، وأكثر ما تعجبت له أن أبواب غرف الفندق -وهي من الأبواب الحديثة- تغلَق من الداخل بمتراس حديدي ضخم، كالذي في أبواب القلاع القديمة، وتُصدر صوتا يوقظ الجيران، وعلمنا أن الأمريكان وضعوها لأن المجاهدين دخلوا عليهم الغرف مرتين!
ثالثا:
كان وفدنا من أربع دول عربية، مصر والسودان وليبيا وفلسطين: د. محمد عبد الكريم عن رابطة علماء المسلمين، ود. عبد الحي يوسف عن علماء السودان، والشيخ سامي الساعدي عن رابطة علماء المغرب العربي ودار الإفتاء الليبية، ود. نواف تكروري رئيس هيئة علماء فلسطين. واتفق الوفد جميعا أن العاصمة كابل أنظف من كثير من العواصم العربية المستقرة منذ عقود، حيث كان لافتا لنا جميعا نظافة العاصمة التي يقطنها سبعة ملايين نسمة، وأسواقها عامرة مع ما تعانيه من حصار خارجي خانق، وحركة المرور فيها منتظمة، لا سيما وأن الشوارع والميادين الكبرى يوجد بها أفراد من الحركة بهيئتهم وكامل عدتهم إلى جوار رجال المرور.
رابعا:
درجة الحرارة كانت 7 تحت الصفر، وذكروا لنا أنها تصل في ذروة الشتاء إلى 18 تحت الصفر، وجاءت عاصفة ثلجية أثناء وجودنا كست الشوارع بالبياض، واشتعلت الأشجار شيبا، ثم خرجنا في الصباح الباكر فوجدنا العمال قد فتحوا الطرق، وأزالوا الثلوج بما يسمح بحركة السير من خلال ما لديهم من معدات بسيطة تحملها أذرع قوية.
خامسا:
من الملاحظ في شوارع أفغانستان قلة عدد المتسولين على خلاف عادة العواصم الفقيرة، وعلمنا أن الإمارة الإسلامية قامت بحملة جمعت فيها كل المتسولين من الشوارع، ومن وجدته محتاجا وفرت له القليل الذي يغطي الضرورات، ومن كان محترفا أنذرته بالعقوبة إن عاد إلى التسول مرة أخرى.
سادسا:
من لا يرحبون بتجربة حكم الإمارة الإسلامية في أفغانستان، يشككون في قضائها على زراعة المخدرات، ويدحض رأيهم أمران، الأول: أنه في فترة حكم طالبان الأولى التي استمرت خمس سنوات فعلوا الأمر نفسه، وشهدت لهم بذلك تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية، والثاني: أن هؤلاء الخصوم يرون طالبان حركة متشددة دينيا، فلماذا ستتخلى عن تشددها مع هذا المُحرم؟ وقد رأينا عزيمتهم القوية في القضاء على المخدرات، وعلاج أكثر من ثلاثة ملايين مدمن فيهم مليون من الصغار والنساء، حيث كان الاحتلال يرعى زراعة المخدرات ويشجع عليها.
سابعًا:
خرجت أمريكا ومعها أكثر من أربعين دولة، بعد احتلال دام عشرين سنة، وهي مهزومة تبحث عن الخلاص، بعدما هزم المجاهدون 150 ألف جندي من جيش التحالف، و250 ألف جندي من جيش الحكومة الموالية للاحتلال بقيادة أشرف غني، في أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية، وأكبر تكلفة في التاريخ.
ثامنًا:
استولت أمريكا عند خروجها على 9 مليارات دولار من أموال الشعب الأفغاني، ومع ذلك لا توجد ديون خارجية على أفغانستان، وتدور عجلة الدولة من خلال الموارد الداخلية، وكانت أمريكا تراهن على سقوط الحكومة خلال أول ستة أشهر لعدم وجود السيولة المالية، ولكن كل من عمل في الحكومة خلال هذه الفترة من الحركة لم يتقاض راتبا، وبدأت الرواتب بمئة دولار شهريا بعد مرور تسعة أشهر، مع أن الموظفين القدامى يتقاضون رواتبهم دون تأخير.
تاسعًا:
خلّفت حرب العشرين سنة الأخيرة نصف مليون يتيم، وثمانين ألف أرملة، وأكثر من مئة وخمسين ألف معوق، وعشرة ملايين مهاجر، وجعلت الإمارة الإسلامية رعاية اليتامى والأرامل في مقدمة الأولويات، ولا تفرّق في المعاملة بين أيتام المجاهدين، وأيتام من كانوا في صف المحتلين.
عاشرًا:
أفغانستان أرض بكر واستثمار واعد، في ظل حكومة جعلت الأمن في رأس هرمها، وبسطت نفوذها وسيطرتها على كل ولايات أفغانستان، تحت حكومة مركزية واحدة لأول مرة منذ ثلاث وأربعين سنة، وخيرات الله فيها، وموقعها بجوار أهم الدول الكبرى جعلها مطمعًا للغزاة، كما أن السلع باهظة الثمن تجدها رخيصة مبذولة في أفغانستان، فالزعفران مع الشاي بدلا من النعناع، والمكسرات تباع كالتسالي، والأحجار الكريمة لا مثيل لها في جمالها ورخصها، فعلى رجال الأعمال والمستثمرين اغتنام الفرصة، والمساعدة في كسر الحصار عن إخوانهم، وبذل العون من كل أصحاب الخبرات لتمام نجاح التجربة، وظهور نموذج حكم رشيد، في ظل أحكام الكتاب المجيد.
ولا يفوتتي هنا التذكير بأن أثر الهزيمة النفسية على بعض النخب الإسلامية، جعلهم لا يستوعبون خروج أمريكا مهزومة من أفغانستان، وعندها سنعذر فئامًا من العوام لم يتقبلوا ذلك تحت تأثير الثقافة الغالبة، وسيطرة الإعلام الأمريكي وأذرعه “العربية”، وبذلك يتضح ما يتبناه الضلع الثالث من صرعى الغزو الفكري وأسرى الاحتلال الثقافي، الذين يعتقدون أنّ أمريكا قوة لا تُقهر وأمة لا تُهزم.
يفكك أضلاع هذا المثلث وينقض زواياه، أنّ هذه ليست المرة الأولى التي يهزم فيها الأفغان القطب الأول أو الأقوى في العالم، فسبق لهم هزيمة بريطانيا العظمى التي كانت لا تغيب عنها الشمس سنة 1842، ثم هزموا الاتحاد السوفيتي صاحب أكبر جيش مشاة في العالم سنة 1989. وبما أنّ أمريكا ورثت الصدارة وأصبحت هي القطب الأوحد، فكان لزامًا أن يجري عليها قانون هزيمة الإمبراطوريات الكبرى عبر بوابة أفغانستان، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأمريكي جو بايدن بعد الانسحاب بقوله “إن أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات”، ومن يطالع مذكرات وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، يجد حديثًا واضحًا عن الهزيمة، وأنهم تجرعوا مرارتها مرتين: الأولى في ميدان القتال مدة عشرين سنة، والثانية على مائدة التفاوض مدة سبع سنوات، ومن ذلك قوله عن توقيع اتفاق الدوحة:
“في ذلك اليوم مررت بأغرب تجربة وزيرًا للخارجية، عندما دخلت فندق شيراتون قطر في 29 فبراير (شباط) 2020 حيث العشرات من أعضاء طالبان بزيّهم التقليدي، وكأنّ المؤتمر في تورا بورا، وتساءلت: كم قتل هؤلاء الملتحون من الرجال والنساء الأمريكيين؟
وعلى الرغم من اعتراضات الرئيس الأفغاني أشرف غني ومعظم المؤسسات في واشنطن، فقد أيدت التوقيع، وما زلت أعتقد أنه الطريق الصحيح، وأنّ الاتفاق كان حاسمًا لإنقاذ حياة الشباب الأمريكي”.
هل كانت طالبان والأمريكان في حاجة إلى كل هذا الوقت من القتال والتفاوض، حتى يتفقوا على خديعة الانسحاب، حسب من يردد هذه الترهات؟
من أغرب ما سمعته من أحد أعضاء وفد التفاوض الأفغاني، وهو يشغل الآن منصبًا رفيعًا في الإمارة الإسلامية، أن المبعوث الأمريكي زلماي خليل زاد ومن معه، كانوا يرفضون بشدة أن يُطلق على أفغانستان اسم الإمارة، وقال لهم زلماي “تنازلوا عن كلمة إمارة، واطلبوا في مقابل ذلك ما شئتم”، فقالوا له: “إن نظام الملك والإمارة هو النظام المتبع في أفغانستان من قديم، وأنتم من غيَّر وبدّل”، وسأله أحد المفاوضين: “ألم تعرضوا علينا مكانًا للتفاوض بالتناوب مع الدوحة؟”.
فقال زلماي: “بلى عرضنا إمارة دبي”، فقال له: “لماذا لم تطلبوا منهم تغيير اسم الإمارة، فإنهم إمارات متعددة؟!”.
سيقرأ هذا الحوار أضلاع مثلث الهزيمة على أنه تصلب أفغاني، ولن يستوقفهم أن أمريكا مستعدة لبذل الغالي والنفيس لعدم عودة المصطلح الإسلامي، ناهيكم عن الحكم الإسلامي، ولو عكسنا الصورة وعرضناها على أصحاب الأضلاع المكسورة، لقالوا إن عداوة المصطلح من قلة العقل وضيق العطن، وتبديد الطاقات في القشور والتفاهات!
والأمر الثاني الذي أكده الأفغان في مراحل التفاوض، أن ترفع أمريكا يدها عن حماية تنظيم داعش، حيث فرضت حمايتها عليه وأنقذته من حصار المجاهدين الأفغان، أكثر من مرة أثناء الاحتلال، ولا تذكر وسائل الإعلام موقف المجاهدين الصارم من الدواعش قبل التحرير، وتتبّع أوكارهم بعد الفتح المبين، ولا تركز على ما يقوم به التنظيم المخترق من قتل المدنيين في الأسواق والمساجد.
ولو أن المؤسسات والمنظمات العالمية فيها بقية من إنصاف، لحصلت حركة طالبان على أعلى أوسمة السلام، وأرفع درجات التكريم على ما حققته من السلم العام، بقرار العفو الشامل الذي عَمَّ كل الأفغان، حتى من حمل السلاح وأوغل في الدم الحرام. وقد اطلعنا أثناء زيارتنا على قصة أحد المقاتلين الذين قاموا بمذابح عامة، ودفنوا الأحياء في مقابر جماعية، ثم قُتل على أيدي المجاهدين، ويحرس قبره الآن عشرة من جنود الإمارة الإسلامية، لئلا يُنبَش قبره.
وأغرب من ذلك قصة صنوه، الذي قتل 150 نفسًا من طالبان، وما زال على قيد الحياة، وشمله العفو العام أيضًا، وعلمت أنّ سبب حراسة الإمارة لهؤلاء، أن النفوس ليست سواء، وأن بعض أبناء الشهداء تجرعوا كأس العفو، ولكن قد تغلبهم أنفسهم عند رؤية القاتل.
أخبِرني عن نظام أو حزب فعل مثل ذلك، أو ترفّع عن عدوه إلى هذه الدرجة! إن سياسة اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا يطيقها إلا من أراد التأسي بإمام الأنبياء ﷺ، فإن الغالب ينكل بالمغلوب، والمنتصر يستأصل شأفة المهزوم، وإن عيون العالم لا تعرف في أفغانستان إلا تضخيم المثالب، وإغفال المحاسن.
وأُجمل في الختام الملاحظات العامة على الزيارة وأهمهما: أن التواضع مع المؤمنين، هو الوجه الثاني للعزة على الغزاة والمحتلين، وأن العالِم العامل “الرباني” لا يُتقدَّم عليه بقول أو فعل، ولا يسامي مكانته أحد، وأن جيل الشباب الحالي تعلّم في تخصصات مختلفة، ويجيدون لغات عدة، والأمر نفسه مع من كانوا في معتقل غوانتانامو، حيث اعتبروها فترة إعداد فتعلّموا اللغات المختلفة، وانفتحوا على الثقافات المتعددة، ولمسنا فيهم خبرة واعية وتجربة مصقولة، نأمل أن تسهم في نهضة أفغانستان ونجاح تجربتها.
وفي الختام فإن انتصار الأفغان على أكبر جيوش العالم، فيه من الدروس ما يضيق عنه المقال، وفيه من البشريات ما يؤكد بداية قرن الإسلام، وأن المستقبل لهذا الدين تحت مظلة الشريعة، وفيه بشارة بأفول نجم الامبراطورايات الغازية، التي احتلت بلاد المسلمين طيلة القرن المنصرم، وأنّ النجاحات التي حققتها الإمارة الإسلامية خلال عامين، وفي ظل حصار دولي مطبق، تعد من الإنجازات الكبيرة التي تصلح للبناء عليها، للوصول إلى النموذج الأمثل للدولة المتقدمة القوية، وتبقى تجارب الحكم واجتهادات البشر يعتريها الصواب والخطأ، والمجتهد مأجور على كل حال، ومن تحمل مسؤولية الإدارة له حق الطاعة في المعروف والإعانة عليه، وبذل النصح في ذلك واحب لأئمة المسلمين وعامتهم، وقد رأينا في قادة الإمارة الإسلامية حرصًا على التواصل مع علماء المسلمين والسماع منهم، بل إنهم يطلبون النصيحة ويصرّون عليها، وتلك من صفات القائد المنتصر، الواثق بنفسه ومنهجه، فأسأل الله لهم دوام التوفيق، وأن يتم عليهم الفتح في ميدان الحكم، كما فتح لهم في ميدان الجهاد.