مقالات الأعداد السابقة

أفغانستان وأمريكا.. فشل سياسة العصا

‏د. أحمد موفق زيدان

 

‏حين نُقل عن مدير الاستخبارات السعودية الأمير تركي الفيصل بأنّ أمريكا تصحح خطأها بخطأ آخر، استغرب البعض يومها مثل هذا التصريح من شخصية تعاملت مع الأمريكيين لفترة طويلة، مما يجعل تصريحاته لها وزنها، ولها رصيد من الواقع بحكم التجربة الطويلة والعميقة مع إدارات أمريكية متعاقبة لعقود، لكن الواقع اليوم أكد ذلك غير مرة، فعلى الرغم من التجارب الأفغانية الطويلة في التعامل مع الاحتلال الأجنبي وفشل سياسة العصا في إخضاعها لإملاءاته وشروطه، أو في إرغامها على التعامل معه بطريقة مناصفة وبوسط الطريق، إلاّ أن واشنطن أدركت متأخراً على ما يبدو خطأها، لكن بعد أن كررته غير مرة في أفغانستان، وقد ظهر واقع وجدية هذا التحرك الأمريكي الجديد بالمفاوضات الأخير التي وصفت بالأكثر جدية في الدوحة مع الحكومة الأفغانية الحالية من أجل تدشين مرحلة جديدة في هذه العلاقات.

‏النجاح الأفغاني خلال العامين الماضيين على المستوى الداخلي، وتحديداً الأمني منه كان مفاجئاً للكثيرين، ومفاجئاً كذلك لقوى دولية كبرى وإقليمية في قدرة الحكومة الأفغانية الجديدة على إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة، الذي استغرقت دول سنوات لهزيمته، أو لإضعافه، والأكثر من هذا تحييد الحكومة الأفغانية الجديد لخصومها السياسيين والعسكريين من التحالف الشمالي التي راهنت عليه الدول المجاورة في أن يكون بديلاً عن الحكومة الحالية، فقامت بدعمه ومساندته على أمل أن يحل محل الحكومة الحالية، أو يُرغمها على الأقل لتعديل سلوكياتها، فتوسع بذلك من مشاركتها السياسية والشعبية، ولكن لا هذا تم ولا ذاك، وظلت معه الحكومة الحالية فارضة نفسها على الواقع، ومرغمة الآخرين على التعامل معها.

‏لا شك أن الواقع الدولي فرض نفسه، وربما شكل رافعة جديدة للحكومة الأفغانية حيث الكفيل الروسي لمنطقة وسط آسيا، والذي يمثل الغطاء الدولي للتحركات الإيرانية في مجلس الأمن الدولي، والذي بدا ذلك في سوريا وغيرها، انكشف إلى حد لا بأس به مع انشغال روسيا في الحرب الأوكرانية، وغوصها أكثر فأكثر في الوحل الأوكراني، وبالتالي فإن حلفاء روسيا قد انكشفوا أمام الحلف الغربي.

‏تحرك الصين الأخير بتوقيع استثمارات في مادة الليثيوم الحساسة لصنع البطاريات، دفع واشنطن إلى التحرك عبر سياسة الجزرة هذه المرة، وتناسي سياسة العصا الغليظة، فقد وقعت الصين عقداً مع الحكومة الأفغانية الحالية وصلت قيمته إلى عشرة مليارات دولار، كما وقعت عقداً آخر بقيمة أربعة مليارات دولار للاستثمار في مجال النحاس، كل هذا دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى التخفيف من عقوباتها، إن كان من حيث تسهيل التحويلات المالية عبر البنوك الأفغانية، أو من خلال التعاطي الاقتصادي وربط الاقتصاد الأفغاني ولو بمستويات منخفضة مع الاقتصاد العالمي، وقد شجعت الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة الأخيرة مستثمرين غربيين للاستثمار في الموارد الطبيعية الأفغانية، وهو ما كان له أن يحصل لولا الذكاء الأفغاني في التحرك نحو الشرق الصيني الأمر الذي دق نواقيس الخطر في واشنطن، وهي التي تركز استراتيجيتها اليوم على محاصرة الصين، وبالتالي فهي معنية باستغلال كل ما من شأنه أن يساعدها على محاصرة الصين والتضييق عليها.

‏الواقع الدولي، والديناميات الجديدة التي أفرزتها حالة الحرب الأوكرانية، وانشغال أمريكا بمحاصرة الصين، دفعت أمريكا والدول الغربية للتراجع عن سياسة العصا الغليظة والتي تمثلت منذ انتصار طالبان قبل عامين، والتي كان عنوانها الضغط الاقتصادي، ومحاربة التحويلات المالية، وتجميد الأرصدة الأفغانية، بالإضافة إلى التلويح الدائم والمستمر في سحب منظمات الإغاثة الدولية من أفغانستان، حيث غالبية الشعب الأفغاني يعيش على مساعداتها، مما يشكل ضغطاً غير مسبوق على الحكومة الأفغانية.

‏سياسة الجزرة المتبعة، لم تكن مقتصرة على أمريكا فقط خلال تعاملها مع الحكومة الأفغانية، وإنما حتى دول مثل روسيا ووسط آسيا، وباكستان وإيران لجأت إلى هذه الطريقة، لأنها اقتنعت تماماً بأن سياسة الضغط والإكراه لن تُجدي سوى المرارات والحزازات، ومزيداً من التصلب والتشدد الأفغاني في مواقفها… مما أرغمها لاحقاً على تراجعها، وأرغم كل الدول المذكورة على التعامل بواقعية وبعدم فوقية مع حكومة كابل.

‏لقد بدأت أصوات غربية مهمة ونافذة في صناعة القرار الأمريكي إلى دعوة واشنطن للانخراط الحقيقي في نقل هذا الدعم الاقتصادي إلى دعم مستدام عبر دفع البنك الدولي، وبنك التنمية الأسيوي لتقديم قروض ضخمة من أجل تنفيذ مشاريع اقتصادية ضخمة، مثل مشروع مدّ أنابيب الغاز من تركمانستان إلى الهند عبر أفغانستان وباكستان، وتقدر قيمة المشروع عشرة بلايين دولار، مما سيشكل فرص عمل ضخمة وهائلة للعاطلين عن العمل، فضلاً عن تنمية اقتصادية كبيرة لأفغانستان.

‏حين نرى تحرك الولايات المتحدة الأمريكية اليوم نحو خصمها التاريخي فيتنام والتي شكلت لها عقدة لا تزال توصف بعقدة فيتنام، من أجل مواجهة الصين، ندرك معها تماماً الديناميات الجديدة التي دخلت على عالمنا، وبالتالي تدفعنا إلى أن نتعامل بطريقة مختلفة مع الولايات المتحدة، التي غدت بحاجة إلينا أكثر من السابق، ولعل ذلك يشكل نافذة، وفرصة مهمة للتخفيف عن شعوبنا التي عانت ولا تزال تعاني الكثير من الظلم والتهميش.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى