مقالات الأعداد السابقة

أفغانستان والأحزاب السياسية(٤): تأسيس الإمارة الإسلامية (طالبان)، وإضاعة الأحزاب لفرصة العودة إلى الطريق الصحيح

زين الدين البلوشي

 

كما قلنا في الحلقة السابقة بأن الاتحاد السوفيتي غادر أفغانستان بعد احتلال دام عشر سنوات تقريبًا، منهمزمًا بدون أي إنجاز على الصعد المختلفة، بينما الحكومة الموالية له استمرت ثلاث سنوات بعد مغادرته أفغانستان بدعم مباشر منه ولكن دون جدوى، حيث تصاعدت الهجمات على الحكومة، حتى انهارت وانتصر الشعب الأفغاني بعد تقديم تضحيات جبارة في سبيل تحرير الوطن من براثن الشيوعيين وسيطرة الفكر الشيوعي، ولكن هذا الانتصار فوجئ بما يسمى بقضية الأحزاب الجهادية، وتلاشت الجهود المتواصلة، والتضحيات الجبارة، وفوجئت أفغانستان بحرب جديدة طاحنة، أحرقت بنارها الشعب الأفغاني المسكين.

 

الأمر زاد عن كونه حربًا أهليةً فقط، إذ انتشر الفساد والفوضى، وعمّ انتهاك حرمات الله واغتصاب النساء، وساد الظلم لعامة الناس، وقد استفحل الأمر إلى أن امتد بساط الوحشية والظلم من المدن إلى المديريات والقرى، ومن الشوارع إلى الأزقة والطرقات، وعومل المسافرون على الطرق السريعة معاملة سيئة للغاية، وتعرضت أعراضهم وممتلكاتهم لتهديد كبير.

جرائم لم يجز السكوت عليها، وحان وقت أداء العلماء المخلصون لواجبهم في مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكانت معظم ساحات القتال التي كان قادتها المجاهدون الصالحون، قد هُجرت في تلك الأونة، ووقعت مواقعهم تحت سيطرة الفصائل المسلحة الوحشية المنتمية إلى هذا الحزب وذاك الحزب، ولم يكن أعضاء هذه الأحزاب من المجاهدين الصادقين، بل ممن تجمعهم الروابط العرقية، والمصالح الشخصية. ووجد اللصوص والقتلة المرتزقة مكانًا لهم في هذه المجموعات وأصبحوا أقوياء لدرجة أن قادتهم لم يتمكنوا من السيطرة عليهم.

 

وأثرت هذه الظروف على المجاهدين الصادقين الذين ضحوا بأنفسهم لتحرير أفغانستان من براثن الشيوعيين، فخلال المعارك التي اندلعت، بعد انهيار الحكومة الشيوعية، كان هؤلاء المجاهدون في منازلهم واستولى على مواقعهم الشيوعيون السابقون ومصطنعوا الفتن والمجاهدون ممن ضلوا الطريق.

ومن جانب آخر، عندما تصاعدت وحشية المسلحين المنتمين إلى الأحزاب السياسية، بحث الناس عن موقف طلبة العلم من هذه القسوة، ولجأ الناس إلى علماء الدين من الوحشية التي انتشرت في كل من المدن والمناطق النائية قائلين: إنكم أفتيتم بالجهاد ضد الغزو السوفيتي، فلماذا تسكتون عن الفظائع الحالية؟ فكان هذا طلبًا شعبيًا في نفس الوقت.

 

وحين اشتعلت نار الحرب بين الأحزاب، وتصاعدت الهجمات المتبادلة بين المقاتلين، قام أولئك المجاهدون المنعزلون الذين التزموا بيوتهم بعد انهيار الحكومة الشيوعية، رغبة في تشكيل حكومة جديدة من قبل رؤساء الأحزاب، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأرسلوا رسائل إصلاحية إلى رؤساء الأحزاب، وقادة الحرب، ليتحدوا ويجتمعوا على أمر المسلمين، ويبتعدوا عن التفرق والتشتت، ودعوهم إلى الاتحاد وإلى التمسك بحبل الله المتين وإلى الحفاظ على ما صنعه الشعب الأفغاني من مجد وكرامة وفخر واعتزاز، ودعوهم إلى أن السيادة الوطنية والاستقلال السياسي وسلامة أراضي البلاد في خطر حقيقي ويجب على جميع الأفغان حل الوضع بشكل صحيح، لأجل حماية المصالح الوطنية العليا، وتجنب التعصب العرقي واللغوي والعنصرية.

 

وكان من بين هؤلاء العلماء الذين شعروا بواجبهم وأحسوا بمهمتهم تجاه دينهم ووطنهم، الشيخ الملا محمد عمر مجاهد ﵀. ورغم الجهود المبذولة والمساعي الواسعة من قبل هؤلاء الناصحين، وخاصة ما قام به الملا محمد عمر ﵀ من التوجيه والنصح عن طريق المفاوضة والمراسلة؛ لم يعد كل ذلك بالنفع ولم يؤثر في نفوس القادة الحاكمين المتناحرين.

 

ففي يونيو ١٩٩٤م، بادر الملا محمد عمر مجاهد ﵀ إلى عقد اجتماع شارك فيه علماء من مختلف المناطق ومدراء المدارس ومعلمون وأئمة، خلال الاجتماع قرر المشاركون بدء حركة ضد مليشيات الأحزاب المقاتلة. فبدأ الملا محمد عمر ﵀ بجمع الأسلحة اللازمة، وإنشاء جماعة مسلحة من طلاب العلم، عازمًا على قمع الفساد عن طريق النضال والمكافحة ضد هؤلاء، وقام بمهمته من خلال تشكيل حركة إصلاحية باسم: “تحريك طالبان”، وسعى لجمع الأحزاب على محور الوحدة الإسلامية، وحذر أصحاب الأحزاب من أن يغرقوا في الفساد والإفساد أكثر من ذلك، وبدأ بالفعل نضاله ضد الفصائل المتناحرة من “قندهار”، وسيطر على معظم مناطق البلاد في مدة يسيرة. وخلال هذه الحرب، لم يألُ جهدًا في إرشادهم ودعوتهم للإنضمام للحركة عن طريق المفاوضات الدائرة بين الحركة وبين الفصائل المتناحرة، ولكنهم تمادوا في ضلالهم واتحدوا ضد الحركة وأنشأوا تحالفًا باسم “اتحاد حلف الشمال” واجتمعوا في بعض الولايات الشمالية.

 

خطأ بعد خطأ ارتكبه أصحاب الأحزاب والفصائل؛ خطأ ديني وإستراتيجي، وهدم لما بنوه من مفاخر ومآثر في الحرب ضد القوات السوفيتية، ودفن لتضحيات الشعب الأفغاني، فهم بهذه المحاولة خسروا فرصة أخرى للعودة إلى خدمة الشعب وتغليب المصالح الوطنية وإلى ميدان الصلاح والإصلاح، وفقدوا تدارك ما فاتهم من إصلاح الأهداف والغايات، فانسحبوا إلى بعض الولايات متطلعين إلى الأجانب، سائرين قدمًا بقدم على نهج الأحزاب الشيوعية.

 

و ما يجب أن نشير إليه؛ أنه لو لم يتم تشكيل هذه الحركة في ذلك الوقت، لوقعت البلاد في التجزئة والإنقسام، ولن ننسى بعض قادة هذه الأحزاب، حيث قاموا أثناء الفوضى بسك العملات وطبع النقود لأنفسهم، وكان لديهم عملة محددة لأنفسهم، وكانوا يمهدون الطريق لتقسيم أفغانستان! والذين لم يقاتلوا أبدًا ضد العدوان الأجنبي، لا أثناء الاحتلال السوفيتي ولا أثناء الاحتلال الأمريكي، كان عملهم يتمركز فقط على دعم أو معارضة مجموعات وفصائل مختلفة، وحصلوا على المداليات من الحكومتين في ظل دعم المحتلين، لكن حكمهم في ذروة قوتهم، انتهى عندما استولت الإمارة الإسلامية على الحکم.

 

هذه صحيفة فايننشال تايمز اللندنية، نشرت مقالاً تحت عنوان: (نحن نقسم أفغانستان بخلق الخطر لأنفسنا)، جاء فيه: وفي الثمانينيات ومرة أخرى في التسعينيات، حاولت إيران إقناع الشيعة والهزارة بإنشاء ممر من المناطق الشيعية يربط وسط وغرب أفغانستان بإيران. وفي منتصف التسعينيات، حاول بعض القادة الطاجيك إقناع أحمد شاه مسعود، بتشكيل طاجيكستان الكبرى، لكنهم فشلوا. وفي عام 1996 عندما استولت طالبان على كابول، طلبت منهم وكالة المخابرات الباكستانية تشكيل حكومتهم الخاصة في الجنوب، لكن طالبان رفضت ذلك.

 

فهذا وأكثر من هذا يؤيد أن ملف تقسيم أفغانستان كان على طاولة الأعداء، وأنهم استنفدوا كل ما في وسعهم لذلك، ولكن حسب المحللين المنصفين فشلت محاولاتهم بسيطرة الإمارة الإسلامية على البلاد، في حكمها الأول والثاني، وذهبت جهودهم – بإذن الله – أدراج الرياح.

 

على كل حال، فقد مدت الإمارة الإسلامية يدها إلى أصحاب الأحزاب ناصحة وممهدة سبل الخير والصواب لهم، ولكنهم قطعوا اليد الممدودة إليهم بخطأ أكبر وخيانة عظمى، فمدّوا اليد إلى الأجانب واستمدوا منهم، وتعرضت البلاد للاحتلال والفوضى مرة أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى