
أفغانستان والأحزاب السياسية (الحلقة 6)
الأحزاب السياسية الأفغانية ومواصلة نهجها الباطل
زين الدين البلوشي
بعد أن اجتاح الاحتلال الأمريكي أفغانستان وأطاح بحكم الإمارة الإسلامية واحتل البلاد تحت شعارات خادعة مثل: “محاربة الإرهاب” و”تحرير المرأة من أسر طالبان” و”الديمقراطية”؛ رقصت قيادات الأحزاب على جثث المجاهدين، واعتبروا ذلك نجاحًا، ووصفوا الاحتلال بأنه “بارقة أمل للشعب الأفغاني”، وحددوا موقفهم منذ بداية الاحتلال بتأييد العدوان والاحتلال، وأعلنوا دعمهم الكامل للغزو الأمريكي، وفتحوا المجال -حسب زعمهم- لتشكيل حكومة شاملة وجمهورية ديمقراطية غربية ودولة شعبية، و إن كانت تلك الشعارات لم تكن إلا غطاء للعدوان والاحتلال والقهر الكامل لأفغانستان وشعبها.
ثم ما لبث أن نبتت أحزاب جديدة وتيارات مختلفة في مختلف مناطق البلاد، وتوسعت رقعة التحزب بشكل غير مترقب، وكان المتوقع أن يقل عدد الأحزاب والتيارات؛ إذ أن أصحاب الأحزاب الكبيرة ذاقوا مرارات التحزب في الحرب الأهلية والاضطرابات الداخلية، وتحملوا تبعاته الخطيرة والقاتلة، وليقترب الناس إلى الوحدة الوطنية وإلى التضامن الشعبي والتعاون الجمعي، وحتى تقترب الحكومة إلى نهجها الغربي على الأقل، حيث لا نجد في الأنظمة الغربية إلا حزبًا أو حزبين كما نجد ذلك في أمريكا نفسها، فينشط هناك حزبان معروفان، ويتداولان رئاسة الحكومة بينهما بين حين وآخر، وكذلك الأمر في البلاد الغربية الأخرى.
ووفقًا لوزارة العدل الأفغانية، فإنه بعد اتفاق بون عام 2001 وتشكيل الحكومة الجديدة، تم تسجيل العديد من الأحزاب في هذه الوزارة، ووصل عددها إلى 110 أحزاب. وبحسب الإحصاءات المنشورة على الموقع الإلكتروني لوزارة العدل: كان هناك 72 حزبًا مسجلاً ومرخصًا في الحكومة السابقة، ومن العجب أنه لم يكن لدى هذه الأحزاب السياسية منظمات حزبية منتظمة، ومعظم الأحزاب التي تم تشكيلها كان لها شكل موسمي، وكانت تماثل عصابات المافيا، وباستثناء عدد قليل من الأحزاب الكبيرة؛ لم تلعب هذه الأحزاب دورًا كبيرًا في الحياة السياسية في أفغانستان.
وقد زاد عدد الأحزاب على عدد الوزارات وحتى على عدد الولايات! فكان من المحال أن توزع الوزارات والولايات على أصحاب الأحزاب، وأن يكون لكل حزب سهم في الوزارات والولايات، وقد اختُبِر الأمر قبل ذلك حين اشتعلت الحرب الأهلية، حيث كانت الأحزاب آنذاك قليلة، ومع ذلك لم يتفق أصحاب الأحزاب على شيء من هذه الأمور، فكيف يمكن أن تجتمع كلمة الأحزاب وقد وصل عددهم إلى أكثر من مئة حزب؟!
وفي عام 2009، دخل قانون للأحزاب السياسية في أفغانستان حيز التنفيذ، وبموجب هذا القانون، أصبح لكل حزب سياسي مكتب في مختلف الولايات، وكان يتم تمويل الأحزاب من خزانة الشعب ويتحمل أعباء دعم ميزانياتها الشعب الأفغاني، رغم الفقر المدقع الذي كان يعيشه في تلك الفترة.
ومن كان يقيم في أفغانستان تلك الفترة يتذكر سلوك العصابات المرتبطة بهذه الأحزاب في الشوارع والأسواق من سدّ الطرق، وخلق الفوضى والبلبلة بين الناس، ليتمكنوا من استعراض قوتهم في الحكومة ومدى تفوقهم في البلاد، فكان عناصرهم وأعضاءهم يسدون الطرق العامة والشوارع الرئيسية في المدن وخاصة في العاصمة كابل، ويعطِّلون الدكاكين والمحلات التجاریة، ويزعجون عامة الناس، ويتجمّعون أمام الناس بأشكال مختلفة فيها السفاهة والسخافة، ويلقون الرعب في نفوس الناس، ويستعرضون هيبتهم المصطنعة، فكانوا يفعلون -باسم الحزب- ما يأباه العقل ويرفضه الشرع. ولم يكن لأفعالهم في تلك الآونة، تحت عباءة الأحزاب السياسية، نظير حتى في الدول الغربية. وبشكل عام، كانت الأحزاب السياسية التي تم الإعلان عنها في أفغانستان على مدار العقدين الماضيين، تنشط حسب المصالح الشخصية، دون أية رقابة جادة ومستمرة على الحكومة، ودون مراعاة المصلحة العامة في البلاد وخطة عملية بديلة.
ومما أثار الدهشة، أنه لما تم تشكيل حكومة الجمهورية؛ جُعل على رأس الحكم من درسوا وتربوا في الغرب، ولم يكونوا أبدًا في الجهاد والمقاومة الأفغانية، وصارت الأحزاب السياسية على هامش الحكومة، ومع هذا بقي أصحاب الأحزاب إلى جانب الحكومة، وبقي همّهم الاشتراك في الحكومة، والحصول على المال، مهما كان الثمن، ومهما كانت الغاية، ومهما كانت النتيجة.
كان موعد الانتخابات من أبرز المواسم لبروز الأحزاب وظهورها. وشهدت أفغانستان العديد من التحالفات السياسية والمعارضة السياسية التي كانت غالبا تُعلَن مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، وكانت تنتقد أعمال الحكومة وتخالفها في بعض السياسات والمواقف، لا بهدف الإصلاح، بل للسباق نحو رأس الحكم والاستئثار بالسلطة أكثر فأكثر. وكأنّ الأحزاب قد تم إنشاؤها لتملأ الفراغ الحاصل من عدم قبول الشعب للحملات الانتخابية، بالشعارات المزخرفة والدعايات الخادعة، ولتسخن الفرن أثناء الانتخابات، حتى لا يطلع عموم الشعب على ما يجري خلف الكواليس. وأرى شخصيًا أن معظم أصحاب الأحزاب كانوا مطلعين على كل ما يجري وراء الستار، إذ تم عقد صفقة غير مكتوبة بينهم وبين المحتل الأمريكي ومن كانوا على رأس الحكم، فتجردوا من كافة القيم الإنسانية فضلًا عن القيم الجهادية، ومالوا كل الميل إلى متاع الدنيا، وباعوا كل ما عاهدوا عليه زمن الجهاد ضد السوفييت بثمن بخس دولارات معدودة، فضلاً عن خضوعها لجهات خارجية، كما كان شأن الأحزاب في الحرب الأهلية، حيث دُعم كل حزب من جهة معينة.
وبغض النظر عن عدم قبول الشعب وأرض أفغانستان للأحزاب السياسية، إلا أنه بعد إنشاء نظام جديد في أفغانستان، توفرت لأصحاب الأحزاب فرصة جديدة (حسب زعمهم على الأقل) لإدراك ما فاتهم من الفرص، ولإصلاح ما صدر عنهم من الأخطاء في الماضي، فكان المأمول أنهم، مع مئات الأخطاء والزلات، سيصلون إلى مرحلة النضج والنمو السياسي، ويرون مصالحهم إلى جانب الآخرين في شكل تحالفات سياسية منتظمة، ويرون مصالح الشعب فوق المصالح الشخصية والحزبية، لكن أمرهم ازداد سوءًا، ومثل السابق، لم يعتبروا ولم يتعلموا مما مضى، ولم يتغيروا بل أصروا على نهجهم الخاطئ، فكانوا يتحالفون فيما بينهم، ولكن هذه التحالفات في كل مرة تنهار بعد مدة قصيرة، أو عقب الجولة الانتخابية، وترك بعض أعضائها التحالف بعد الحصول على مقاعد في الحكومة، ونسوا كل ما عاهدوا عليه، وتعاهدوا مصالحهم الشخصية ومنافعهم الخاصة.
وبالجملة لم تبق الأحزاب السياسية في أفغانستان أحزابًا ثابتةً لتلعب دورًا مهمًا ومؤثرًا في الساحة الأفغانية، بل كانت تتغير دائمًا حسب المصالح الشخصية في النهج والتعامل، وكانت الأحزاب في أيام الانتخابات المزيفة لا تبحث إلا عن منافعها الحزبية، ولم يكن نهجها جمهورياً ولا إسلامياً ولا شعبياً ولا قومياً. وكان أصحاب الأحزاب دائمًا ينشطون ضد بعضهم البعض، وكانوا لا يدّخرون جهدًا في تدمير الآخرين وضرب بعضهم البعض، وكانت الأحزاب السياسية في أفغانستان مراكز للتجارة ومعارض لاستعراض القوة والسطوة. وأصبح الركن الأصلي والمحوري؛ خدمة الشعب وتقدم البلاد؛ نسيًا منسيًا وأصبح شيئًا هامشيًا، ومن تابع هذا الأمر تبيّن له أن الأحزاب السياسية غصبت الأراضي في مختلف أنحاء البلاد، وقطعوا لأنفسهم ولأتباعهم الأراضي العامة، وبنوا فيها قصورا وبيوتا فاخرة، وكأنهم أسسوا الأحزاب السياسية للوصول لمنافعهم الشخصية، وكأن أفغانستان مائدة مبسوطة للأشخاص والأحزاب والتيارات، وهم جلوس حول المائدة، يأخذون حقهم دون أن يفكروا في أفغانستان وشعبها المنكوب المظلوم.
وفي السنوات الأخيرة للحكومة السابقة، بلغت الخلافات والتآمرات بين الأحزاب السياسية من جانب وبين الحكومة من جانب آخر ذروتها، وسنشير – بإذن الله – في الحلقة الآتية إلى ما حدث في أواخر الحكومة من المجادلات والخلافات ومحاولات إزاحة الآخرين عن المشهد السياسي.