أفغانستان والأحزاب السياسية (١)
زين الدين البلوشي
كانت أفغانستان قبل نصف قرن سائرة سيرها الطبيعي في الحكم وإدارة الأمور، لا يُنكر من أمرها شيء، ولا يوجد فيها عوز، وكانت القرى والمدن عامرة بالسكان، وكانت العاصمة كابول زاخرة بالعمران شامخة البنيان مكتظة بالناس من جميع أنحاء البلاد، وكانت الحرف وأسباب المعاش فيها وفي سائر المدن في ازدهار وتطور، ومثل كثير من البلاد؛ كانت فيها الزراعة، والتجارة والصناعة، وكانت الحكومة مستقلة تحترم طبيعة الناس وتحافظ على حقوقهم قدر الإمكان، وكانت مظاهر الحياة المدنية فيها واضحة، حتى ربما تعد أفغانستان آنذاك بلدا متقدما أو في حيز التقدم بالنسبة إلى الدول المجاورة. ولولا الاحتلال والحروب والاقتتال الأهلي لربما كانت أفغانستان اليوم من الدول النامية المتطورة في المنطقة.
كان كل شيء على ما يرام حتى دخل الحزب والتحزب في السياسة، وبدأ مسيره في المجتمع الأفغاني المسلم، وشقّ طريقه بين أوساط المتعلمين والمعلمين في الجامعات وفئة المثقفين، الذين يظنون أنهم يحسنون صنعا، وسيأخذون بالبلاد إلى قمم التقدم والازدهار، وسينقذونها من التخلف والتأخر، دون أن يفكروا في أفغانستان وشعبها وثقافتها وعقيدتها، ودون دراسة عقبى الحزبية واستقراء مغبّتها على المجتمع. حتى صار في هذه البقعة حزب وفي تلك حزب آخر يفكر خلاف ما يفكر الأول، ويسير ضد مسار الأول، واجتمعت الأضداد، واختلفت الآراء، وتباينت المواقف، وتباعدت الأهداف، وتصاعدت الخلافات، واختلط الحابل بالنابل؛ مما جعل الدول تطمع في البلاد وتنتهز الفرصة، وانتقلت من مرحلة التدخل الثقافي والفكري إلى التدخل العسكري، فدُمرت البلاد وديست الحرمات وذهبت الجهود والمخططات أدراج الرياح. ونسي الناس أنه كان لأفغانستان شأنا قبل نصف قرن، وأنها كان سائرة إلى الأمام مثل سائر الدول.
هذا وأكثر من هذا، كان نتيجة التنازع والتحزب والتفرق.
إن الحزب أوالتحزب، خاصة بمفهومه السياسي، شيء مستورد من عالم الغرب تابع للديمقراطية المزيفة، وهو مثل كثير من الأشياء التي وردت إلى العالم الإسلامي من قبل الغرب، ولم يعد على المسلمين بنفع ما، بل زاد الطين بلة وأدى إلى مشاكل جديدة وصراعات كثيرة بين أبناء الشعب الواحد، وأثار الفتن الطائفية والجاهلية. وأفغانستان كجزء من العالم الإسلامي؛ تضررت بهذه الفكرة الغربية، حتى قضت على حياتها السياسية والاجتماعية، وجعلتها تتخلف عن ركب التطور العالمي في شتى المجالات.
ونظراً إلى أن أفغانستان تتمع بموقع استراتيجي مهم في المنطقة، إلى جانب ما منحها الله من كنوز وخيرات طبيعية؛ فقد كانت محط أطماع الدول الاستعمارية.
كل هذه الأمور تسببت في التدخل الأجنبي في أفغانستان، مما حال بینها وبين لحاقها بركب التقدم والتطور. وربما لولا الأحزاب؛ لما تدخل الأجانب ولما وقعت البلاد تحت الاحتلال.
وتجدر الإشارة إلى أن الأحزاب السياسية في أفغانستان كانت خطة نشاطاتها مستوردة من الدول الغربية أو الشرقية، وكانت متأثرة بأفكار هذه الدول اللا إنسانية وعقائدها المنحرفة والتي لا تواطئ ما كان عليه المجتمع الأفغاني المسلم، ولا تناسب حياته الطبيعية التي ورثها كابرا عن كابر.
تاريخ تأسيس الأحزاب السياسية في أفغانستان ليس بعيدا، وإنما یعود تأسيسها -بشكل رسمي منضبط- إلى أواخر حكم (محمد ظاهر شاه) في ظل أجواء مفتوحة فتحها الشاه للنشاطات الحزبية، وإن كانت النشاطات الحزبية بدأت في الدورة الأمانية؛ إلا أنها لم تدم طويلا ولم يفتح لها الأبواب وبقيت معطلة. وعلى أية حال فإن أفغانستان تضررت منها أكثر من أي بلد آخر في العالم، وخسرت تطورها ومراحل تنميتها.
إلى جانب هذه الأجواء المفتوحة؛ بدأت الجماعات المختلفة فكرياً وثقافياً تأسيس أحزاب لصالحها، فلم يدم الوقت طويلاً حتى امتلأت سماء أفغانستان السياسية بالأحزاب والعصائب والجماعات، انطلاقاً من الجامعات التي تتضمن عناصر مختلفة في داخلها من الشيوعيين والإسلاميين، وغيرهم ممن تأثروا أو تربوا على الفكر الغربي. فانطلقت الدول الغربية والشرقية للتنسيق والدعم مع من يوافق فكرها، وكان للاتحاد السوفييتي الذي يحمل الفكر الشيوعي اليد العليا في ذلك، حيث تسللت الأحزاب الموالية له إلى القوات المسلحة، وساعدهم الاتحاد السوفييتي ضمن مساعدات هائلة للقوات العسكرية الأفغانية.
ومنذ تأسيس هذه الأحزاب التي تعد في ظاهرها نوعاً من الديمقراطية والتقدم السياسي، كانت بعض الأحزاب السياسية أحزاباً غير إسلامية، تعمل ضد العقيدة الإسلامية؛ كالحزب الديمقراطي الشعبي الأفغاني الذي كان حزبا شيوعياً تأسس في سنة 1965 في أفغانستان بدعم من الاتحاد السوفييتي، البلد المُجاور لأفغانستان آنذاك، وقد ساعد هذا الحزب محمد داود خان على الانقلاب ضد قريبه محمد ظاهر شاه الذي أسس جمهورية أفغانستان، لكن بعد الانقلاب بفترة قصيرة؛ بعد خمس سنوات، أصبح داود ضد الحزب الشيوعي، فلاحق الحزب وقبض على قادته وأخرجهم من الساحة السياسية، ولكن الحزب -فيما بعد- أصبح يعادي الحكومة، وأتى بالثورة الدموية المشهورة، وفتح الأبواب للاجتياح السوفييتي، ودمر المادة والمعنى، وذهب بالبلاد إلى الهاوية.