أفغانستان وحصاد عام على الحكومة الجديدة
د ـ أحمد موفق زيدان
مع حلول الذكرى السنوية الأولى لوصول حركة طالبان الأفغانية إلى السلطة بعد كفاح دام عقدين من الزمن تُوّج بطرد تحالف دولي من 38 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان، ينبغي للمرء أن يتوقف ملياً وطويلاً عند حصاد العام المنصرم، ليستشرف منه عاماً مقبلاً، ولعل أوّل ما يخطر على بال المتابع، هو العودة بالذاكرة إلى عام 1992 يوم أرغم المجاهدون الأفغان آباء وإخوان مقاتلي طالبان القوات السوفياتية على الرحيل من أفغانستان ثم أسقطوا الحكومة الشيوعية الأفغانية بزعامة نجيب الله، وذلك بعد جهاد دام لعقد ونصف العقد تقريباً، كلّف الشعب الأفغاني مئات الآلاف من الشهداء والجرحى وملايين المشردين فضلاً عن تدمير بنية تحتية كبيرة، لا تزال تعاني منها أفغانستان، وظل معها الزلزال الأفغاني الذي أحدثه الاحتلال السوفياتي لها تتردد ارتداداته حتى اليوم على المستوى العربي والإسلامي وحتى العالمي.
مباشرة بعد سقوط النظام الشيوعي الأفغاني في كابل في 28 مايو/ أيار 1992 اندلعت اشتباكات عنيفة بين رفاق السلاح بالأمس، وتحديداً الحزب الإسلامي الأفغاني بزعامة قلب الدين حكمتيار، والجمعية الإسلامية والتي كان يتزعمها الرئيس الأفغاني حينها برهان الدين رباني، ويعد القائد أحمد شاه مسعود من أبرز قادتها الميدانيين، بحيث طغت شهرته يومها على شهرة رئيس الجمعية برهان الدين رباني، هذا الصراع الذي دام لأربع سنوات تقريباً أكل الأخضر واليابس من أمجاد جهادية أفغانية، ما كان لها أن تصل يومها إلى ما وصلت إليه دون تلك الدماء والتضحيات الكبيرة، ولكن تبددت كلها نتيجة الصراع على السلطة، إلى أن ظهرت حركة طالبان الأفغانية أواخر عام 1995 لتقرع أبواب كابل في غضون عام واحد، وتُفلح في سحق تنظيمين أفغانيين وهما الجمعية الإسلامية والحزب الإسلامي وهو ما عجزت عنه القوى السوفياتية ومعها الشيوعية الأفغانية لعقد ونصف العقد تقريباً.
كانت الإشكالية الأساسية في مرحلة ما بعد الانسحاب السوفياتي هو تشظي الساحة الأفغانية حزبياً وفصائلياً، بحيث كانت الفصائل تنمو كالفطر، مما عنى غياب عقل أفغاني واحد يدير أفغانستان ما بعد الانسحاب السوفياتي، وهي مرحلة كانت بحاجة إلى عقل واحد لهذه المهمة، ليتحمل مسؤولية نجاح أو فشل عملية الانتقال، لكن الذي حصل هو نشوب اقتتال داخلي، استهلكت فيه كل القوى طاقاتها وإمكانياته، مما أذهب بريق الجهاد الأفغاني الذي ضحى خلاله الشعب الأفغاني بأعز ما يملك من أجله.
من هذا اللحاظ نستطيع أن نرصد أن ثمة خلافاً جوهرياً بين مرحلة ما بعد الهزيمة السوفياتية من أفغانستان ووصول المجاهدين إلى السلطة، وبين مرحلة ما بعد الهزيمة الأمريكية اليوم ووصول حركة طالبان الأفغانية إلى السلطة، حيث لا منافسون ولا خصوم لها في السلطة، وكل ما حصل من مناوشات مع جيوب هنا وهناك، لايمكن تسميتها معارضة مستمرة ومركزة وخطرة على الحركة حالياً، وكل ذلك يعود فضله إلى العقل الواحد المركز الذي يدير أفغانستان ممثلاً بطالبان، والتي تمكنت من تقديم حكومة أفغانية مقبولة للشعب الأفغاني، وقادرة على فرض الأمن وبسط سيطرتها على كامل التراب الأفغاني، الأمر الذي غاب عن أفغانستان لعقود، لاسيما وأن البلد كان أقرب ما يكون إلى حكم الفيدرالية واللامركزية، ولكن من خلال الحكومة الحالية، تمكنت الحركة من بسط سيطرتها على كامل التراب الأفغاني، وفرضت نظاماً واحداً، عزّز ذلك حالة الأمن والاستقرار الذي حظيت بها البلاد، وهو الأمر الذي لم يمرّ مثله على أفغانستان منذ وقت طويل.
لكن يبقى المهددان الأساسيان للحكومة الحالية هما مهدد أمني يقوم تنظيم الدولة على تفجير الوضع وتفخيخه بدعم قوى إقليمية ودولية، وذلك لخطف نصر أفغاني ضخم، من الأفغان والمسلمين، فمثل هذا النصر لو كان لدى أي قوة عالمية لتغنّت به لسنوات،وربما لعقود وقرون، ولذا كان الجهد المبذول عالياً وضخماً في سلب الأفغاني هذا النصر من خلال تحريك مجموعات لتنظيم الدولة وتفجير تلك التجربة، وقد تجلى ذلك بتصعيد التنظيم عملياته المستهدفة لاستقرار وأمن مناطق طالبان، أملاً في نسف التجربة، ومنعها من أن تكون تجربة أنموذج إلهامي للقوى المتحررة والمنعتقة عن الأنظمة الإستبدادية.
أما المهدد الثاني فهو اقتصادي نتيجة الحصار الأمريكي المضروب وسرقة واشنطن للأموال الأفغانية المجمدة في بنوكها، والتي تبلغ عشرة مليارات دولار، لكن التوتر الغربي مع روسيا على خلفية الحرب على أوكرانيا، دفع الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية إلى تخفيف ضغوطاتهم على أفغانستان، فبدأت واشنطن في الإفراج عن بعض الأموال المجمدة، لاسيما بعد أن هددت روسيا بالاعتراف بالحركة، واستمر الأمر في تحدي الولايات المتحدة الأمريكية بعرض الصين مساعداتها ودعمها لحركة طالبان الأفغانية.
استغلت الحكومة الأفغانية هذا المستجدّ على الساحة الدولية فتحركت باتجاه تحقيق مزيد من النجاحات عبر اختراق منطقة وسط آسيا المجاور لها، وفناءها الخارجي، حين قام وفد طالباني برئاسة وزير الخارجية أمير خان متقي بزيارة إلى أوزبكستان من أجل إقامة تجارة بينية ومتبادلة بين الطرفين، ومثل هذه التحركات ستعود بالنفع على الطرفين، لاسيما وأن دول وسط آسيا بعد الجمود العسكري الروسي في أوكرانيا قد تُعي حساباتها في التعاطي مع القوى المهددة أو التي لا تنسجم تماماً مع روسيا، وهو الأمر الذي قد يوفر هامشاً للتحرك وسط خلافات الرئيس فلاديمير بوتين، والرئيس جو بايدن.
ليس أمام الحكومة الأفغانية الحالية سوى شق طريقها بنفس الطريقة التي تقوم بها حالياً، مع تكثيف الزيارات الإقليمية والدولية من أجل كسر طوق العزلة المضروب عليها، فكثير من الدول والحركات إنما ماتت وانكسرت لأنها قبلت بحالة الحصار المفروض عليها، ولكن مع وجود شقوق وتصدعات في المجتمع الدولي حالياً نتيجة الحرب والتصعيد في أوكرانيا، قد يساعد الحكومة الأفغانية ذلك في النفاذ منها، بالإضافة إلى ذلك هناك دعم القوى الإسلامية النشطة للحكومة الأفغانية الجديدة، لاسيما شرائح رجال الأعمال الذين يتحركون نحو كابل وإن كان ببطء.