أكثر من 400 يوم من العدوان والصمود الأسطوري
صفي الله
في غزة، مضى أكثر من ٤٠٠ يوم من القصف والقتل والخراب والتفجير والتجويع والتدمير والتهجير والاعتقالات والتنكيل والاضطهاد. كل ذلك يحدث في عصر التنوير والإعلام، على مرأى من العالم ومسمعه. والعالم الديمقراطي الذي يدّعي حفظ حقوق الإنسان صامتٌ أخرس، رغم وصول الأمر إلى حد الجنون، في ظل المجازر البشعة التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني بحق الفلسطينيين، إذ أحال المدن الحية إلى آكام ركام وأتلال من التراب، وبات النّاس يعيشون في الخيام ولا يجدون لقمة يسدّون بها جوعهم. والعالم المتشدق بالديمقراطية لا يستطيع اتخاذ قرار جريء واحد لوقف ما يحدث، لأن حاكمة العالم؛ الولايات المتحدة، لها مصلحة في استمرار الحرب الصهيونية. يريدون أنْ يقتلوا المسلمين عن بكرة أبيهم، يريدون أن لا يبقى غزّيٌ واحدٌ، وهذا ما يفسر الحجم الهائل من الاعتداءات اليومية والأطنان من المتفجرات التي يُلقُونها على المواطنين الأبرياء بلا تفكيك بين شاب وشيخ وطفل، لأنه لا توجد جهة ردع، لتقف في وجه الاحتلال، فالكل متواطئ، وهذا ما يمنحه الضوء الأخضر لمواصلة حرب الإبادة الجماعية في غزة المكلومة.
علاوة على ذلك، أكثر من ملياري مسلم على وجه البسيطة، كأنهم أعجاز نخل خاوية إلا من رحم الله، الكفار من يهود ونصارى وأمريكان وبوذية وملاحدة ومن لا دين لهم تنادوا وتجَمَّعوا ودعموا ذلك العدو الغاصب القاتل، ذلك العدو المتعجرف، ذلك العدو الذي كشّر عن أنيابه، ونحن أهل الإسلام جيوش ودول وشعوب وأسلحة وطائرات ودبابات لم نحرك ساكنًا، ولم تتحرك فينا غيرة على دين الله، وعلى حرمة الله إلا من رحم الله.
إنّ صروح الظلم الصهيوني في غزّة انهدّت بعدما علتْ وتمادتْ في البلاد وعاثتْ فيها الفساد، وبفضل القوي القادر القهّار، تمرّغتْ أنوفٌ -طالما شمختْ بكبريائها وتعالتْ في شممها- في الرغام، وتحطمتْ رؤوسٌ لم تكن تحسب أن صروف الدّهر ستدور عليها، أو أنّ عوادي الزمن ستمتدّ يدها إليها، وقام المستضعفون المضطهدون من كتائب القسّام من تحت الأنقاض والأنفاق هادرين منطلقين يطلبون الثأر من الذين سقوا شعبهم كؤوس الذل وجرّعوهم غُصص الهوان.
رغم شدّة المصاب الأليم، والدمار الرهيب الذَيْن لحقا بسكّان قطاع غزة، بينما كانت تُغير الطائرات الحربيّة الصهيونية بحممها الملتهبة والمتلاحقة على المدنيين العزّل، إلا أنهم يُصرون على التشبث بأرضهم ووطنهم، فيما تحاول مئات الأسر الغزّية لملمة جراحها رغم المصاب والدمار الذي حل بها، لاسيما تلك العائلات التي ودّعت أبناءها الشهداء دفعة واحدة، وسُوّيت بيوتها بالأرض.
ولسان حالهم يقول: «مهما فعلوا بنا، وأرهبونا، وهجّرونا من بيوتنا، وقتلوا أبناءنا الشهيد تلو الشهيد، فلن ينالوا من إرادتنا التي تشبعت بالصمود والتحدي، ولن يستطيعوا القضاء على المقاومة التي هي جزء منا ونحن جزء منها».
فما سرُّ هذا الصمود، وما سرُّ هذا الثبات، وما سرُّ هذا النفس الطويل، وما سرُّ أنّهم أرهقوا العدوّ وكبّدوه خسائر لم تكبّده أية دولة قوية طيلة سنوات زرع هذا الكيان الغاصب على أرض المسلمين؟!
لنستمع إلى الغزاويين أنفسهم: “صمودنا في غزة وشمالها ليس قوة منا، بل هو من الله وحده، لا مقومات للصمود والثبات فيها من الجانب المادي ولا حتى المعنوي والنفسي”، بهذه الكلمات عبّر الصحفي أحمد الزيتونة عن معاناة عشرات الآلاف من الفلسطينيين المحاصرين وسط آلة القتل الصهيونية في شمال غزة.
ويضيف الزيتونة قائلًا: “هل المعلّبات وشوية الحاجات الأخرى صمود؟! النّاس هنا في حالة كربٍ ومجاعةٍ ودمارٍ نفسيٍ ومعنويٍ لأبعد الحدود، ولكن الحمد لله… لا أريد من أحد أن يحدثنا عن الصمود والثبات، تفضل عش بيننا، وقل ما تشاء”.