
أكل العنب حبة حبة!
لا يمكن أن يستقيم المجتمع الإسلامي وأن يكون كما أمر الله تعالى وارتضى، إلا باستقامة أفراده قلباً وقولاً وعملاً على الإسلام، وائتمارهم بأمره وانتهائهم بنهيه، والانقياد التام لشعائره وشرائعه. ولمّا كان من سنن الله تعالى في الكون أن يتصارع الحق والباطل ويبقيا في صراع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كان من الطبيعي أن يكمن الباطل للحق ويمكر به، وأن يمضي الحق في رحلة دمغ الباطل وإزهاقه.
أفغانستان تكاد تكون البقعة الوحيدة من بين بلدان العالم الإسلامي التي لم تتدنّس بالثقافة الغربية المُوحِلة التي يأنفها كل صاحب فطرة سليمة. ولذلك سعى الاحتلال الصليبي، مُمثّلاً برأسه (أمريكا)، مع بدء الحرب الإجرامية على أفغانستان، إلى تقويض الفكر الإسلامي في المجتمع الأفغاني، واستبداله بفكر صُنع في مصانع الغرب؛ ليتربى الجيل الناشئ عليه، فلا يعود يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وليس ذلك إلا وسيلة من وسائل الوصول لهدف الاحتلال الأكبر وغرضه الأعظم وهو منع قيام النظام الإسلامي في البلاد بصناعة جيل مسكون بحب المحتلين، موالٍ لهم، معادٍ لمن عاداهم.
ولا يختلف اثنان أن أهم السبل لتدجين المجتمعات الإسلامية وتفكيكها هو إفساد المرأة المسلمة. وأنا هنا لا أقول هذا من باب تصفيف الكلام الجامد، بل هو واقع مشهود عايناه وشهدناه واصطلينا بناره في جلّ المجتمعات الإسلامية التي احتلها الصليبيون بشكل مباشر أو غير مباشر، وليست مقولة ذلك المستعمر الفرنسي عنا ببعيد، حيث يقول: “إذا أردنا أن نضرب المجتمع الجزائري في صميم بنيته وفي قدرته على المقاومة، فيجب علينا قبل كل شيء كسب النساء، ويجب علينا السعي للبحث عنهن خلف الحجاب حيث يتوارين، وفي المنازل حيث يخفيهن الرجل”!. نعم، لقد صدق هذا الكافر وهو كذوب، فعندما بدأوا بالتوغل بأفكارهم الدنسة في المجتمع المسلم، بدأت تظهر الغثائية في الأمة. فماهو المتوقع من جيل أمهاته يرين التخلّف والرجعية والظلم في شريعة خالق البشر وأن فيما سواها الخير والصلاح والعدل (والعياذ بالله)!؟ ونحن في غنى عن ذكر صفات ذلك الجيل الذي ربّينه أمثال أولئك الأمهات، لأننا نعرفه جيداً.
ولعلّي آتي فيما يلي على بعض الحيل التي استطاع الغرب من خلالها تغريب المرأة المسلمة في عدد من المجتمعات الإسلامية، والأمر في أفغانستان أرى أنه لازال في مرحلة الوقاية لا العلاج والحمدلله.
لقد وجد الغرب آذاناً صاغية -وإن كانت قليلة إلى حدٍ ما- من بعض بنات جلدتنا اللاتي لم يتربين على موائده ولم يعشن في كنفه، بل تربين في مجتمعاتنا تربية (لا أقول إسلامية) لكنها تربية “تقليدية”، تلك التربية التي تقدّس العادات أكثر من تقديسها للدين، وفيها من الجاهلية مافيها.
استهلّ الغرب حملته التغريبية المفسدة للمرأة المسلمة بإثارة الشبهات حول كثير من القضايا المتعلقة بالمرأة في الإسلام (الحجاب، التعليم، المواريث، القوامة …. الخ) مستغلاً: 1 – الجهل الذي أصاب الكثير من أبناء وبنات الأمة المسلمة بأمور دينهم. 2 – بعض التصرفات الذكورية الظالمة الخرقاء التي هي من صلب عادات المجتمع وليست من دين الله في شيء.
وقد وجد الغرب في “التصرفات الجاهلية” في مجتمعاتنا الإسلامية منفذاً وثغرة قُدّمت له على طبق من ذهب ليلج من خلالها بكل أريحية وهدوء ويقول: إنما أنا من المصلحين!. واستخدم الإعلام للترويج لبضاعته هذه؛ من أجل زيادة الشريحة المستهدفة من المسلمات، ولكي لا تنحصر دعوته الخبيثة في ربائبه وتلميذاته، فالفتن أدعى للقبول والاستماع إن أُثارها من يعيش بيننا ويتحدث بلساننا ويلبس ألبستنا.
ودعاة تغريب المرأة المسلمة هم من ذوي النفس الطويل الذين لا يكلّون ولا يملّون ولا يطلبون نتائجاً لدعوتهم الهدامة بين ليلة وضحاها، بل هم على استعداد بأن يفنوا أعمارهم في تخريب قيم المجتمعات الإسلامية وتهديمها، لتنحدر إلى مستوى الطين والتراب الذي تعيشه مجتمعاتهم الغربيّة، فحالهم كما قال مصطفى صادق الرافعي: “إنه لا يعذّب فاقدَ الفضيلة شيءٌ مثلُ رؤيتِها في غيره، وأنه لا يستطيع تحقيقَها في نفسه”.
ولئن كان شيطان الجن أخبث وأمكر من أن يأمر المرأة المسلمة بالحيدة عن درب الحق بالصيغة المباشرة الساذجة البسيطة، فإن تلامذته (بل أساتذته أحياناً) من شياطين الإنس سائرون في ذلك على نهجه. فشيطان الجن لا يقول للمسلمة (اكفري بالله تعالى.. اخلعي الحجاب.. اختلطي بالرجال.. تيهي في مهاوي الضلال….الخ) بهذه الصيَغ الفجّة الغبية.. كلا! لا يجرؤ على قول هذا، بل هو أخبث من قول هذا.
وكذلك هم شياطين الإنس تماماً، فلا يظننّ ظانٌّ أن أحد أولئك سيُملي كل ما يهواه ضميره العفن على المجتمع المسلم إملاءاً: نريدكم مجتمعاً مسخاً متأمركاً، هاوٍ لكل رذيلة، مجافٍ لكل فضيلة، تؤمنون بنا وتكفرون بخالقكم، تسبّحون بحمدنا وتدورون في فلكنا … الخ.
كلا! بل أولئك يعتمدون استراتيجية التدرّج طويل الأمد في حملاتهم التغريبية، أو كما يقول المثل: “حبّة حبّة أكل العنب”، فمعلوم لو أن أحداً ما حاول أكل عنقود عنب كاملاً فستنحشر حبات العنب في فمه، وسيغص بها، ولن يستطيع ابتلاعها وربما يموت، أما إن حاول أكلها حبّة حبّة، فسيسهل عليه أكلها وابتلاعها حتى يأتي على عنقود العنب كاملاً. وعلى هذا المبدأ رسموا الخطط وساروا، فكان تدرّجهم -مثلاً- في مسألة نزع الحجاب عن المسلمات بأن سلطوا ربائبهم وبعض الوعّاظ قليلي الأمانة والعلم لإثارة الشُبه، ثم بالدعوة إلى كشف الوجه والكفين على اعتبار أنها محل اجتهاد بين العلماء، ثم بإنتاج أنواع من الحجاب المزيّن والمزخرف وجعله أداة للزينة بدلاً من أن يكون ساتراً لها، ثم بتحوير مفهوم الحجاب والزعم بأن العفة محلّها القلب لا في القطعة التي تغطي الجسد، وهكذا استمر الحال مع مرور السنين وتقادم الأعوام، حتى اعتادت الأعين على رؤية النساء بلا حجاب يحميهن ويسترهن، وكثر التبرج والسفور حتى قلّ تعظيم هذه الشعيرة في القلوب. فلما اطمأنت شياطين الإنس بأن الجو العام مهيأ للدعوة الصريحة بازدراء الحجاب ونبذه، تجرأوا حينها بأفعال تنم عن حقد دفين كحرقه في المحافل والتجمعات وتمزيقه ودوسه تحت الأقدام!
تدرّجت الدعوة لنزع الحجاب بما سلف ذكره وانتهت إلى ما نحن فيه اليوم من بلاء، والذي تكون فيه المسلمة المتلفّعة بحجاب الطهر محطاً للسخرية والاستهزاء، ليس في عقر دار الغرب، بل في قلب العالم الإسلامي الذي كان مناراً لتصدير العلوم والفضائل والمكرمات!
ولا شك أن علاج هذه الأوضاع الجاهلية “الحديثة” التي تعاني منها مجتمعاتنا الإسلامية بحاجة لكثير من الجهود المخلصة، العارفة بحال كل مجتمع ومواطن التأثير فيه، والتي تُدرك مسؤوليتها، فتدعو إلى سبيل ربها بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة.
والأمل معقودٌ بالله ثم بإمارتنا الإسلامية الفتية الحكيمة في أفغانستان في بذل أسباب الوقاية من تسرب هذا الداء إلى جسد أفغانستان، مقبرة الجبناء وأحلامهم.