مقالات الأعداد السابقة

أمريكا لا تحاور إلا «السيئين»!

 محمد كريشان

 

تصريح معبر للغاية، بل ومستفز! في منتصف الشهر الماضي أجرت قناة «فوكس نيوز» مقابلة مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو سأل فيها عن المفاوضات التي تجريها واشنطن مع حركة «طالبان» الأفغانية في الدوحة فذكر أننا «سبق أن تفاوضنا مع أناس سيئين، ذلك أن وزارة الخارجية لا يتسنى لها في الغالب اختيار من تريد التفاوض معهم على وجه التحديد بهدف تحقيق نتائج جيدة لأمن الشعب الأمريكي، وفي بعض الأحيان ينتهي بنا المطاف إلى التحدث إلى أناس سيئين بالفعل، وإذا كنا سنوفر الأمن للأمريكيين فإننا مستعدون للتحدث إلى أي شخص».

كلام مستفز لأنه يحيل إلى وضعيتين متناقضتين تماما أوصلت الأولى صاحبها إلى انسداد كامل على كل المستويات فيما أوصلت الثاني إلى الجلوس مع الأمريكيين لفرض شروطهم مع أنهم «سيئون».

الوضعية الأولي تخص الفلسطينيين وتجربتهم المرة في الحوار مع الأمريكيين ومعهم الإسرائيليون طبعا. في نهاية عام 1988 وافقت واشنطن على بدء حوار مع منظمة التحرير الفلسطينية في تونس لكن هذا الحوار علق في يونيو/ حزيران 1990 بعد عملية «أكيلي لاورو» الشهيرة التي حاول فيها كومندوس تابع للجبهة العربية لتحرير فلسطين الموالية للعراق بزعامة أبو العباس القيام بعملية إنزال على شواطئ تل أبيب عبر خطف باخرة إيطالية وقد قتل في تلك العملية عجوز أمريكي مقعد.

ومنذ بداية هذا الحوار والعلاقات الفلسطينية الأمريكية بين مد وجزر لكنها في كل مراحلها اتخذت منحى واضحا مفاده أن عليكم، يا قيادة فلسطينية، أن تستجيبوا لكذا وكذا وكذا وكذا حتى تصبحوا مقبولين من الإدارة الأمريكية وبالتالي من المجتمع الدولي. عليكم كذلك أن تفعلوا المطلوب منكم في أسرع وقت ممكن وبالطريقة التي ترضينا حتى نستطيع أن نلعب دور «الوسيط المحايد والنزيه» بينكم وبين الإسرائيليين وصولا إلى «تسوية عادلة للصراع».
كانت منظمة التحرير الفلسطينية تسعى جاهدة أن تفعل ذلك، قامت به في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي أراد اللعب بالبيض والحجر في نفس الوقت، أي أن يحتفظ إلى جانب المفاوضات بخيار المقاومة، المسلحة وغيرها، كما واصلته مع الرئيس محمود عباس الذي وضع كل بيضه في سلة المفاوضات. لا أبو عمار نجح ولا أبو مازن من بعده.. تغير الفلسطينيون وما تغير الأمريكيون بل وكلما اجتهد القوم في كسب ثقة الإدارة الأمريكية زادت هذه صدا وانحيازا إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن مع ترامب وفريقه.

الوضعية الثانية تخص الأفغان وتجربتهم الدموية المريرة مع الأمريكيين منذ وصول حركة «طالبان» الأفغانية إلى السلطة عام 1996، فبعد خمس سنوات من ومع احتضان البلاد لأسامة بن لادن زعيم تنظيم «القاعدة» الذي أرغم على مغادرة السودان حصلت هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر الرهيبة التي ذهب ضحيتها قرابة الثلاثة آلاف مدني. قامت الولايات المتحدة بعد ذلك بشهرين بهجومها الكاسح على أفغانستان ونجحت في إسقاط طالبان من الحكم وترتيب عملية انتقال سياسي ما زالت تترنح إلى الآن.

رابط الجنود الأمريكيون هناك واستقروا طوال هذه السنوات مع قوات غربية أخرى، لكن كل ذلك لم يمنع الحركة من أن تعيد سيطرتها تدريجيا على البلاد رويدا رويدا ملحقة في كل مرة بالقوات الحكومية ومسانديها من القوات متعددة الجنسيات أفدح الخسائر. لم تجد واشنطن في النهاية من مفر سوى الجلوس مع هذه «الحركة المتطرفة والإرهابية» والتي يخضع معظم قادتها إلى عقوبات أمريكية أممية. جلسوا معها في خمس جولات إلى حد الآن لم تتزحزح فيها الحركة قيد أنملة عن مطلبها الرئيسي المتمثل في انسحاب القوات الأجنبية عن أفغانستان قبل الخوض في أي مواضيع تفصيلية رافضة أي تعاون أو تقاسم للسلطة مع الحكومة التي تعتبرها مجرد دمية في أيدي واشنطن. لم تقبل سوى بالتعهد ألا تكون أفغانستان منطلقا لأي عمل إرهابي بعد انسحاب القوات الأجنبية. الأمريكيون هنا يصدقونها رغم أن لا ضمانات قطعية في هذا الشأن.
كانت واشنطن لا تمرر أي عملية مسلحة فلسطينية إلا وتنتفض احتجاجا فتوقف التفاوض مع الفلسطينيين وتقول إن لا مجال للجمع بين «الإرهاب والتفاوض» وأن «على الفلسطينيين حسم خياراتهم والكف عن التذاكي واللعب المزدوج» إلى درجة أن الوصول إلى اسقاط عرفات كشريك إنما جاء بعد الكشف عن صفقة سلاح كانت تصله عبر البحر في القضية التي عرفت إعلاميا بـــ«كارين آي» على اسم السفينة المحملة بالسلاح التي اعترضت في عرض البحر.
في المقابل، لا تمر المفاوضات بين واشنطن وطالبان من عملية عسكرية ضخمة تقوم بها الحركة في أوج كل جولة، آخرها كانت عملية ذهب ضحيتها في شهر شباط/ فبراير الماضي زهاء المائة. مع ذلك لم تندد واشنطن ولم توقف المحادثات أو تهدد حتى بوقفها مع أن الحركة تبنت العملية جهارا نهارا. لم تتزحزح الحركة عن كل مطالبها المعروفة وتتحدث مع واشنطن بأكثر حتى من الندية. إنها في وضع من يفرض شروطه ويهدد.

أي عبرة يمكن أن تستنتج بين الحالتين؟! وإلى أين تدفع واشنطن من يريد يما أن يتفاوض معها؟! الجواب واضح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى