
أمريكا والحرب
نقلاً عن كتاب “أفغانستان في صباح يوم التالي” للأستاذ مصطفى حامد
ــ إن الحروب الأمريكية يمكن تعريفها إختصاراً: هي حروب يديرها كبار الجنرالات بالأزرار من خلف شاشات الكمبيوتر، وعلى الأرض هناك المرتزقة وأنصاف المجانيين يرتكبون المجازر تحت تغطية تكنولوجيا حرب النجوم. وعلى الأرض أيضاً لا بد من وجود حثالة المرتزقة، وأخيراً أبطال الحرب بالوكالة الذين جعلوا من ظهورهم مطية (للطواغيت) يحاربون لأجلهم حروباً غير مقدسة يقولون أنها (في سبيل الله!).
الحرب تكوين عضوي:
الحرب جزء أصيل في البناء الأمريكي الإقتصادي والسياسي والنفسي. فالصناعات العسكرية هي عماد إقتصادي أساسي، والحروب تعطيها دفعة كبيرة. ولتلك الصناعات جماعات ضغط في الحكومة والكونجرس لتقرير السياسات الخارجية المناسبة، وخلق حروب ومناطق توتر تستوعب إنتاج الأسلحة. مثلما نرى في الخليج من توتر وأزمات بين العرب وإيران، والنتيجة صفقات أسلحة بالمليارات تفيد أمريكا في الأساس ثم باقي الحلفاء الأوربيين، لكل منهم صفقات حسب درجة إنصياعه للولايات المتحدة.
جنرالات الجيش الكبار يضعون أعينهم على مستقبلهم بعد التقاعد، لذا يقدمون خدماتهم للشركات الكبيرة بالعمل كجماعات ضغط من أجل ترويج الحروب الساخنة وخلق نقاط التوتر والحروب الإقليمية وحروب الوكالة. بعد التقاعد يعمل هؤلاء كمستشارين لدي الشركات الكبري خاصة شركات النفط أو أنهم يؤسسون شركات ” أمنية” مثل “بلاك ووتر” بتمويل من كبار الرأسماليين.
صناعة الأمن:
أرباح صناعة الأمن تنافس صناعة العسكرية، خاصة بعد حادث 11/9.
ــ المنتجات ذات الإستخدام المزدوج “حربي/ تجسسي”، مثل الطائرات بدون طيار التي روجوا لها بشدة في الحرب على أفغانستان، ثم بدأوا في إستخدامها للتجسس على المواطنين في أمريكا وأوروبا بعد تطوير قدراتها على إختراق الحجب والتصوير من خلف الجدران. سعياً نحو الغاية المستهدفة من الأنظمة الغربية (الديقراطية/الفاشية) من أجل الحصول على المواطن الزجاجي الذي لا يمكنه إخفاء أي أسرار عن عيون السلطات الحاكمة. وهم في الطريق نحو إبتكار جهاز (كشف الأفكار) لتفتيش الأدمغة المشكوك في ولائها.
كما استخدموا سابقاً أجهزة (المسح الضوئي) في المطارات لتعرية المسافرين وكشف ما تحت الملابس والجلد!.
إختصاراً: أمريكا يحكمها الصهاينة، وأداتهم في الحكم هو تحالف العسكر والجواسيس، أو نظام الجنرال والشرطي، وذلك هو النظام الداخلي الموحد الذي رحبت به دول العالم، نظام الثالوث غير المقدس: (المرابي الصهيوني+الجنرال الدموي+الجاسوس الشرس). أما السياسيون والمثقفون، فهم شهود الزور وسماسرة الصفقات القذرة.
فشل التجربة الأمريكية في كابول:
رغم تواجد الولايات المتحدة في أفغانستان منذ 13 عاما، فإنها لم تنجح في تأسيس نظام سياسي بالأساليب التي اتبعتها لتصنيع النظم السياسية في دول العالم الثالث. فشلت في أفغانستان رغم الأموال الطائلة التي أنفقت والدم الذي أهدر.
والنتائج لم تكن فقط سلبية بل أدت إلى عكس المقصود منها. لقد فشلوا في خداع الشعب الأفغاني والسيطرة عليه بنظام عميل، أو محو ثقافته الإسلامية العريقة بنماذج غربية مستنسخة، وخلق طبقة مثقفة اعتنقت الثقافة الغربية أو تربت في الغرب لسنوات كي تقود المجتمع بديلاً عن القيادات الأفغانية التقليدية، وتستبدل الإسلام بالليبرالية الغربية، وتحتقر كل ما هو محلي وأصيل وتمجد كل ما هو جديد ومستورد. أي بإختصار: تخريب المجتمع الأفغاني بأمركته ثقافياً.
قبل الغزو خلقت أمريكا تحالفاً أفغانيا موالياً لها أسمته تحالف الشمال، مكوناً من طيف واسع من المرتزقة الذين تعاونوا مع الأمريكين خلال فترة الحرب ضد السوفييت. وشملت جبهة (تحالف الشمال) عملاء سابقين عملوا لصالح الإحتلال السوفيتي، وأكبر رموزهم “عبدالرشيد دوستم” قائد ميليشيا (جلم جم)، وقد عمل عند الإمريكان بعد الإحتلال رئيساً لأركان الجيش الأفغاني، في سخرية حمقاء دفعوا ثمنها غالباً، إذ كشفت بسرعة للشعب الأفغاني أصول الخدعة الأمريكية المستهترة، وعدوانيتها للشعب ومعتقداته وتاريخه القريب والبعيد.
وضمت الجبهة قيادة تنظيمات “ما تسمى بالجهادية” تم تسويقهم في مرحلة الحرب السوفيتية على أنهم “أصوليون” أو “متشددون”، أو ” أبناء الحركة الإسلامية” و”خير من أنجبتهم الأمة الإسلامية منذ قرون”.
كما ضمت الجبهة الأحزاب الموالية لدول الجوار، و ممثلين عن العرقيات الرئيسية جميعاً.
ــ تلك كانت المظلة السياسية للنظام الجديد. أما “كرزاي” الزعيم ورمز المرحلة، فقد حاولت أمريكا صناعته بطريقة أفلامها السينمائية، وبيعه للأفغان على أنه البطل المخلص الذي جاء على رأس جيوش أمريكا وحلف الناتو كي يحرر أفغانستان من حكم إسلامي غير مرضي عنه أمريكياً ولا يتوافق مع تعريفها للإسلام “الوسطي” والعقيدة “الصحيحة”!.
في أول زيارة للزعيم (كرزاي) في بداية الغزو، حملته المروحيات الأمريكية إلى حافة قندهار، حتى يجتمع بكبراء القوم ويقنعهم بفوائد الإحتلال وغزارة أمواله. ثم اختار الأمريكيون له ثوب “الزعيم الإصلاحي!” الذي يطالب المحتلين بحقوق الوطن وكرامته ويقف أمامهم منتفشا معترضا، لعله يقنع الأفغان بأنه الزعيم الملهم الذي يدافع عن الشعب، رغم أن الإحتلال قد جاء به محمولاً على طائراته وعين له حرساً خاصاً من الإستخبارات الأمريكية، ومع ذلك فهو زعيم وطني وغيور!. إضافة إلى إمتلاكه سلسلة مطاعم منتشرة في الولايات المتحدة، فإن كرزاي -حسب قول الأمريكيين- كان موظفا في الإستخبارات الأمريكية ومستشارا لإحتكارات النفط الراغبة في العمل في المنطقة.
الجهاز الحكومي الجديد إزدحم بأبناء الإحتلال الذين قدموا في ركابه، ومعظمهم يحملون جنسيات الدول المحتلة لأفغانستان، وكانوا مهاجرين إلى تلك الدول خلال فترة الحرب مع السوفييت، وهناك تعلموا وحصلوا على شهادات دراسية عليا، والعديد منهم تخلى عن ديانته الإسلامية واعتنق ديانه المحتلين. وكانت تلك وسيلتهم للحصول على حق الإقامة في الغرب وضمان مصدر رزق دائم، وربما الحصول يوما على جوائز دولية في الآداب والفنون أو مزحة “نوبل للسلام”. وكانت دول الغرب تدخرهم لمثل ذلك اليوم، لإعادة إستخدامهم في استعباد أفغانستان بأيدي أبنائها المتحولين.
الجيش الجديد الذي بنته أمريكا، وأنفقت عليه المليارات، استفادت فيه من قادة الميليشيات الشيوعية السابقين مثل “عبد الرشيد دوستم”، كما قدمت “الأحزاب الجهادية” السابقة فلذات أكبادها للعمل في خدمة الإحتلال كقيادات للأجهزة الأمنية والإستخبارات، وتكوين شركات أمنية تحصل على ملايين الدولارات لتجنيد المرتزقة الذين يتولون حماية المحتل بالروح والدم. فالذين قاتلوا السوفييت لقاء الدولارات الأمريكية، قاتلوا شعبهم لقاء نفس الدولارات التي أصبحت معبودهم الجديد الذي يقاتلون لأجله “جهاداً في سبيل الدولار”. وحتى فتاوى زعمائهم خاصة سياف بلحيته العظمى -اللائقة بمكانته كزعيم لتيار اسلامي في كل أفغانستان-، عمل كماكينة للفتوى ضد الجهاد وتكفيراً للمجاهدين، مطالباً بصلبهم على مداخل العاصمة كابول، عبرة لمن يعتبر!.
ثم يعقد مؤتمرات دينية واسعة، بتمويل الإحتلال الأمريكي، يجلب إليها “علماء” من عشرات الدول الإسلامية، وأيضا من “الأزهر” الشريف الذي درس فيه في مقتبل شبابه، كي يؤيدوا تحريم وتجريم الجهاد ضد الإحتلال الأمريكي لأفغانستان. وتناسى هؤلاء فتاويهم الملتهبة لتأييد جهاد الأفغان ضد السوفييت وكيف اشتهرت فتواهم بأن (الدفاع عن أراضي المسلمين تعتبر أهم فروض الأعيان).
الآن أصبح السلام والصداقة الإستراتيجية، من نصيب المحتلين وسارقي الأوطان، والتجريم والتكفير من نصيب المجاهدين. ثم يطلقون وصف وسطية وإعتدال على تواطؤهم المخادع مع العدو، وصدق قول أحد العارفين (ما نبت ذلٌ إلا من بذور الطمع). فذلك النهج الذليل هو نبته طبيعية لعبادة الدولار وإتخاذ الذهب عجلاً يعبد من دون الله. وفي ذلك يكمن السبب الأعظم وراء إنحطاط المسلمين وتمزقهم في ذلك العصر الكئيب. ولمن أراد معرفة المزيد عليه بالبحث عن أسرار وطقوس عبادة العجل الذهبي في هذا الزمن الذي أذل فيه الدولار أعناق دعاة ونشطاء، مقاتلين وقتلة، مثقفين وعلماء، ثوار وخونة، ربيع وشتاء. بل يدعي العجل الإمساك بمفاتيح الجنة والنار.
ذلك البنيان الضخم الذي أقامته أمريكا كان هشاً ومتهافتاً لدرجة أن إختراقه لم يكن شديد الصعوبة أمام كوادر حركة طالبان، فتناثروا داخل المنظومة ولم ينفصلوا عنها –كما انفصلوا عن المنظومة التي أقامها السوفييت خلال إحتلالهم السابق– فالإلتصاق بالعدو في كافة الميادين أبطل تأثير التكنولوجيا، فلا تكتشفهم طائرات بدون طيار، ولا صواريخ موجهة بالأقمار الصناعية، ولا يمكن مراقبتهم بأجهزة الرؤية الليلية أو الإستشعار عن بعد.
الحصول على المعلومات الدقيقة من داخل صفوف العدو جعلت ضربات المجاهدين دقيقة وصاعقة، حتى أضحت الضربات النوعية أحد أسلحتهم الإستراتيجية المؤثرة على مجرى الحرب.
الإختراق والضربات النوعية أدت إلى تصدع الترتيبات الأمريكية في كابول، وتفكيك البنيان الحكومي، وإنتشار الخوف وعدم الثقة بين جميع المسؤولين الناهبين، فتدفقت حقائب الدولارات المنهوبة علناً عبر مطار كابول، وتوجهت مئات الملايين إلى الهند ودول الخليج العربية وأوروبا. ولا أحد هنا أو هناك يسأل عن شهادة منشأ. رغم أن كميات ضخمة من أموال المخدرات التي يحصل عليها المتعاونون كانت ضمن ذلك السيل المتدفق، وغابت من هناك الشبهة التقليدية الخاصة بغسيل الأموال أو بتمويل ذلك الإرهاب المفترى عليه.
الحكومة الأكثر فسادا في العالم:
حكومة كابول، التي أسسها ويرعاها الإحتلال هي أكثر أنظمة العالم فساداً حسب التقديرات الدولية. والسبب الأساسي هو إنعدام الثقه في الإستمرار، وأن الإحتلال إلى زوال. فالأرض الأفغانية تتفجر تحت أرجل جيوش الناتو، بينما العملاء المحليون أعجز من الحفاظ على أمنهم الشخصي، وهم يشعرون بأنفاس المجاهدين تلهب أقفيتهم. وكل -ما، ومن- حولهم قد يكون قنبلة شديدة الإنفجار.
ــ الرشوه والفساد والوظيفي سارت جنباً إلى جنب مع ضعف البنية السياسية للنظام وثقل وطأة التدخل الأجنبي وتدفق أموال المساعدت الأجنبية التي تصب أولاً في جيوب الكبار، وإذا تبقى شيء فإنه يصل إلى الجيش وشركات الأمن الخاصة. والمقاولون المعماريون ينهبون نصيبهم، والدول المحتلة تستعيد 70% مما تقدمه من معونات عن طريق المبالغة في رواتب موظفيها وأسعار ما تورده من معدات.
يعتمد جيش الإحتلال على شركات المرتزقة كأساس لعمله العسكري، والقوات العسكرية المحلية قائمة هي الأخرى مثل الجيش الأمريكي على الإغراء المادي للمهمشين، فاجتذبت إليها أوباش المجتمع ومطاريد القبائل واللصوص المحترفين والقتلة. طبيعي في هذه الحالة أن يكون أمن المواطن هو أول الضحايا، وطبيعي أيضاً أن تكون حركة طالبان هي الملجأ لكل خائف ومظلوم طلباً للعدل والحماية. وهكذا تعطي السياسات الأمريكية عكس المطلوب منها وتعمل ضد أمريكا نفسها وضد الإحتلال وأهدافه.
ديموقراطية الهيروين:
الأفيون كان هوالدافع الأهم للعدوان على أفغانستان. خاصة بعد ما أمر أمير المؤمنين الملا محمد عمر قائد حركة طالبان بوقف زراعته في الأراضي التي تسيطر عليها الإمارة (95% من مساحة البلاد وقتئذ). فكان ذلك إيذاناً ببدء الحرب سريعأً قبل أن يحين موعد بذار الخشخاش للموسم التالي في عام 2002.
وادعت قوات الإحتلال وقادتها الأمريكيين أن التفويض الذي لديهم لا يشمل محاربة المخدرات (!). ولكن الواقع يقول أن التفويض الذي لديهم يتيح تنشيط زراعة الأفيون والتوسع في إستخراج الهيروين بوسائل أكثر تطوراً حتى زاد إنتاجه أربعين ضعفاً خلال السنوات الثمانية الأولى من الإحتلال (!).
ولم يتراجع التطوير وزيادة الإنتاج واستشراء فساد الهيروين في أوساط القائمين عليه من جنرالات ومافيات الإحتلال، وخطوطهم الخلفية في الإدارات العسكرية والأمنية والسياسية والتشريعية من واشنطن إلى كابول، مروراً بعدد من عواصم الغرب الكبرى المشاركة في عملية نشر “ديموقراطية الهيروين” في أفغانستان والعالم. وهي ديموقراطية تعود على البنوك الأمريكية بأكثر من ترليوني دولار سنوياً. ناهيك عن ديموقراطية الكوكايين التي يحرسها وينميها الجيش الأمريكي في كولومبيا، المزرعة الأكبر في العالم لنبات الكوكا. كما أفغانستان على يد الجيش الأمريكي نفسه الذي حولها إلى أكبر مزرعة في العالم لنبات الخشخاش “الأفيون” والقنب الهندي” الحشيش”.
الأفيون في إستراتيجية الحرب:
ركز الجيش الأمريكي معظم زراعة الأفيون في ولاية هلمند التي تتمتع بشبكة ري هي الأفضل في أفغانستان، ومناخ صحراوي حار مناسب لزراعة الخشخاش، فوصل إنتاج تلك الولاية في أحد سنوات الإحتلال إلى 92% من إجمالي إنتاج أفغانستان من الأفيون وحوالي 95% من إنتاج العالم كله. وبنفس النسبة تقريبا ركز الجيش الأمريكي قواته وقوات أقرب حلفائه الأنجلوساكسون (بريطانيا وكندا وإستراليا) في هلمند وما حولها خاصة قندهار وآرزجان. وأقاموا هناك أكبر قواعد لحلف الناتو على مستوي العالم أجمع (قاعدة باستيون) التي تمكن المجاهدون من إقتحامها وشن هجمات مذهلة، مدمرين أكبر عدد من أحدث الطائرات الحربية في أسوأ كارثة مني بها حلف الناتو في تاريخه القتالي الخامل.
ضربات الطائرات بدون طيار كانت محكومة في الأساس باحتياجات حرب الأفيون، خاصة ما يتعلق بضرب مراكز تصنيع الهيروين وراء الحدود الباكستانية، أو ضرب قوافل التهريب غير المجازة أمريكيا، عبر الحدود الشمالية مع طاجكستان أو مع باكستان جنوبا، أو مع وإيران غربا.
الأفيون والسياسة الداخلية:
إستخدم الإحتلال الأمريكي الأفيون كسلاح أساسي في السياسة الداخلية لإدارة أفغانستان. وقد رأينا كيف أنه كان عنصرا أساسياً في تحديد الإستراتيجية العسكرية وتوزيع قوات الإحتلال ونوعيتها بل وعنصريتها الإثنية والدينية.
الأفيون هو الغنيمة الكبرى في تلك الحروب وقد استحوذت عليها القوات الأمريكية، ولكن المرونة الأمريكية والمهارة في عقد الصفقات مع الآخرين استدعت توزيع جزء من تلك الغنيمة على الشركاء، بالذات الشركاء المحليين، فعليهم يعتمد الإحتلال في قمع المقاومة المحلية وتمهيد البلد لإستعمار طويل الأمد، وإنهاء الإلتزام الأفغاني الجاد بالإسلام. وقد تسلم كل طرف حصة من الغنيمة تتناسب مع دوره في خدمة الإحتلال. فمثلا الرئيس كرزاي وعائلته نالوا نصيب الأسد من الغنائم المحلية، لكونهم عملوا كسماسرة ووسطاء بين الإحتلال ومزارعي الأفيون في هلمند، لتوريد المحصول إلى الجيش الأمريكي لتحويله إلى هيروين في قواعده العسكرية ونقله جواً إلى أرجاء العالم. ومعلوم أن الولايات المتحدة هي المستهلك الأكبر المخدرات في العالم.
ــ الأفيون وأحياناً الهيروين يذهب إلى عصابات الجريمة المنظمة، التي تعمل في المنطقة عبر حدود باكستان وإيران وصولا إلى تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى خاصة طاجيكستان التي تعتبر منفذ روسيا الإتحادية على كنوز الهيروين في أفغانستان، وتلك كانت هي الرشوة الكبرى التي قدمتها الولايات المتحدة لروسيا مقابل تعاونها في الحرب الأفغانية وعدم إثارة المتاعب أمام أمريكا وحلف الناتو هناك. وسوف نرى أن الرشوة التي قدمتها أمريكا للصين على شكل عقود إستخراج المعادن، خاصة النحاس والحديد والنفط، وعقد إنشاء ميناء جواد في باكستان على بحر العرب، والذي أنشأه الإحتلال كمنفذ إستراتيجي لاستقبال خطوط الطاقة القادمة من أسيا الوسطى عبر أفغانستان، ومعبرا فرعيا للمخدرات ومواد أفغانية أخرى منهوبة.
عصابات الجريمة المنظمة في تلك المنطقة تستهدف جمع المال فقط، لذا فهي تعمل مع الجميع ضد الجميع، وتتعاون مع الإحتلال في مجال التجسس على حركة طالبان، وتحركات الأفراد والأسلحة والمجموعات المسلحة في تلك البلدان، ومصانع الهيروين السرية أينما وجدت، على إعتبار أن عملية التصنيع محصورة بالجيش الأمريكي وعدد محدود من كبار المتعاونين معه داخل أفغانستان.
العبث بخريطة توزيع وتصنيع الهيروين هو أمر غاية الصعوبة، حيث أن السوائل الكيماوية اللازمة محصورة بشكل كامل تقريباً بالجيش الأمريكي الذي يستجلبها بالطائرات ويوزع الكميات التي يراها مناسبة على كبار المتعاونين معه من السياسيين والزعماء القبليين ومديري شركات المرتزقة المحليين.
ــ ولأغراض سياسية وعسكرية أراد الإحتلال شراء بعض العناصرفي القبائل والمزارعين العاملين في زراعة الخشخاش. وحيث أن الإمارة الإسلامية في السنة الإخيرة من حكمها كانت قد حظرت زراعة الأفيون بما تسبب في مشاكل ضخمة للمزارعين، فجاء الإحتلال وأعلن السماح بزراعة الأفيون بل والإنطلاق بها إلى الحد الأقصى، بمنح التسهيلات والخدمات التقنية والعلمية والبذور المحسنة. فارتفعت إنتاجية الأرض بشكل ملحوظ لدرجة أن تقلص المساحات المزروعة في بعض الأحيان، لأسباب مناخية أو بسبب هجمات المجاهدين وسيطرتهم على مناطق بشكل دائم أو مؤقت، لم يؤثر ذلك على الناتج النهائي لمحصول الأفيون الذي ارتفع من185 طن في آخر عام من حكم الإمارة الإسلامية إلى ما 4000 طن بعد عدة سنوات من الإحتلال.
ومن أجل ضمان ولاء القطاع السكاني العامل في زراعة الخشخاش والذي يعتمد عليها كمورد إقتصادي أساسي، رفع الإحتلال الأمريكي سعر الأفيون الخام حتى تتحسن الحالة الإقتصادية لقطاع واسع من السكان بأكثر مما كان في أي وقت، سواء في عهد حكم طالبان أو حقبة الإحتلال السوفيتي.
مع كل تلك الدقة والذكاء في التخطيط إلا أن النتائج جاءت معاكسة. فالقدرة المالية الإضافية التي وصلت إلى السكان انتقلت في نفس الوقت إلى الحركة الجهادية المقاومة التي تقودها حركة طالبان، والسبب كان ببساطة هو قوة الإعتقاد الديني لدى السكان. ليس ذلك من المبالغة في شيء ويكفي أن هؤلاء المزارعين عندما طلب منهم الملا محمد عمر (أمير المؤمنين في الإمارة الإسلامية) أن يوقفوا زراعة الأفيون، ذهبوا إليه معترضين فاجتمع بهم ليسمع إعتراضاتهم. فقالوا له أن العلماء لم يفتوا يوماً بتحرم زراعة الأفيون على إعتبار أنه نبات طبي، وأن الأفغان لا يتناولونه عادة لغير ذلك الغرض. فوافق الملا عمر على قولهم وقال إنه يطالب بمنعه لمصلحة البلاد ونتيجة للضغوط والتهديد الخارجي وسمعة الإمارة في العالم. والنتيجة أن الجميع التزموا بقرار الإمارة على أساس أنه صادر عن القيمة العالية للحاكم بإعتباره أميراً للمؤمنين واجب الطاعة. ولم يتغير الحال رغماً عن الإحتلال، وظل الولاء والطاعة لصاحب المكانة الشرعية الدينية، وليس لأصحاب شرعية الإحتلال، هذا إن كان للإحتلال شرعية لدى أحد في أفغانستان.
للشباب هيروين وإيدز:
نشر وباء تعاطي الهيروين بين الشباب، ومعه انتشر وباء الإيدز، هدايا للشباب الأفغاني قدمها لهم الإحتلال الأمريكي/الأوروبي. وهي مصائب لم تكن تعرفها أفغانستان قبل وقوع مصيبة الإحتلال. وإفساد الشباب ليس فقط لصرفهم عن “غريزة مقاومة الإحتلال” الفطرية لدى الأفغان، ولكن أيضا لنشر أسلوب الحياة الغربي والثقافة الأمريكية، وتفتيت صلابة الشعب المتماسك إجتماعياً ودينياً، وتحويله إلى قطيع شهواني بلا قيم أخلاقية أو دينية، وبذلك تسهل السيطرة عليه ودوام الإحتلال بأقل التكاليف.
للجميع الخوف والجوع:
ضعفت الحكومة المركزية وانتشر الإجرام القانوني على هيئة شركات الأمن التي توظف القتله والمجرمين لخدمة الإحتلال وحماية قوافله وقواعده ومنشآته. وطبيعي أن يتوسع نشاط شركات الأمن ليشمل الإختطاف بهدف طلب فدية، والإتجار في المخدرات، وإختطاف الأطفال وبيعهم، أو المتاجرة بأعضائهم، ولتجارة الرقيق الأبيض. ونظراً لإحتياج الإحتلال لخدماتهم صاروا في مركز قوة، وعملوا خارج مظلة القانون الذي لم يعد يحترمه أحد.
وتحطمت القوارير “النساء والأطفال”:
تدفق المليارات على البلد، وسع من مساحة الفساد السياسي والإداري. كما أن انتشار الثقافة الغربية بكل قوة وإصرار وسّع من رقعة الفساد الإخلاقي. وارتفعت أسعار السلع فزاد الفقراء فقراً، وعجزت الأسر الفقيرة عن إعالة أطفالها فشهدت تلك البلاد ولأول مرة حالات بيع الأطفال كي يلاقوا مصيراً مجهولاً بإخراجهم من البلاد والمتاجرة بهم كبشر أو كمجرد أعضاء آدمية. ولأول مرة يشهد المجتمع الأفغاني المترابط والمتكافل حوادث إنتحار النساء حرقاً، أو إدمان النساء على المخدرات تحت ضغط معضلات الحياة، أو الأم التي تبيع أطفالها. وكلها أحداث غريبة على ذلك المجتمع الصلب المتماسك إجتماعيا، ولكنها أصبحت معتادة في ظل الإحتلال الأمريكي، ولم يكن متخيلاً حدوثها في أي حقبة سوداء مرت بتاريخ أفغانستان.
تعليم من أجل التدمير:
لم ترسل أمريكا بجيوشها إلى أفغانستان وتتكبد خسائر بترليونات الدولارات ( كخسائر مباشرة أو غير مباشرة ) من أجل تعليم أبناء الشعب الأفغاني أو النهوض بذلك الشعب المسلم. فالتعليم الذي بثه الإستعمار الأوروبي لم يساهم في غير تخلف بلاد المسلمين حتى الوقت الراهن. وأهم أهداف الإستعمار من ذلك التعليم كان خلق طبقة متعلمة منسلخة عن دينها وعن ثقافة شعبها. تلك الصفوة المثقفة كما يطلقون عليها، عندما تولت زمام الحكم فإن كل ما قدمته كان حراسة مكاسب الإستعمار والبطش بشعوبها التي طال تأثير التعليم الغربي عليها فلم تعد قادرة على تحرير نفسها أو إبصار طريقها، أو حتى التمييز بين العدو والصديق، وفقدت مجرد القدرة على ترتيب أولوياتها. وأحداث الربيع العربي بها من تلك الدروس ما يفطر القلوب.
ومع ذلك يباهي الإحتلال الأمريكي بعدد المدارس التي بناها في أفغانستان وأعداد الأولاد والبنات الذين دخلوا مدارسه وتلقوا مناهج التعليم التي وضعها وطبع كتبها في الولايات المتحدة. هذه المباهاة كلها مغالطة لأن فلسفة التعليم الأمريكي لأطفال أفغانستان وشبابها تأتي من منظور الغزو الثقافي لاغير، فالمستعمر غير معني بالتعليم في حد ذاته، بل معني بغزو ذلك المجتمع الصلب ثقافياً ودينياً.
فمناهج التعليم تركز على غرس القيم الإجتماعية والفكرية للغرب المستعمر وإخفاء تاريخ أفغانستان، وحظر المعاني الدينية وعلى رأسها الجهاد في سبيل الله، الذي هو شعار المقاومة والتحرير وصيانة الإستقلال وإحياء شرائع الدين وحدوده المقدسة لدى الأفغان.
مدارس البنات كانت أكثرعرضة للغزو الثقافي، وعرض فيها نموذج المرأة الغربية كبديل لنموذج المرأة المسلمة وتقاليد النساء في المجتمع الأفغاني المحافظ والغيور.
وزاد الطين بله محاولات التنصير التي تتم في المدراس. وقد عرض التحول الديني على الطلاب و الطالبات علانية، وهو ما أسفر عن ثورات عنيفة للأهالي، وحرق المدارس، فاتخذ التنصير الطابع السري والدعوة الفردية في المدارس وانتشرت الكنائس السرية أو شبه السرية في بعض المدن الأفغانية الرئيسية. ويقترن التبشر بمغريات الوظائف الجيدة والهجرة والبعثات التعليمية في الخارج.
وفي فترة الغزو السوفيتي لأفغانستان لم يكن في تلك البلاد مسيحي واحد، ولكن نتيجة تسهيل الهجرة إلى الغرب وتشجيها بواسطة المؤساست “الإنسانية” و”الخيرية” عاد إلى أفغانستان مع الغزو الأمريكي عدد من المسيحيين الأفغان قد يصل إلى مئات أو آلاف، ويتمنى الإحتلال أن يتحولوا إلى قنبلة موقوتة وبشائر ” فتنة دينية” في البلد.
لايمكن تجاهل الغزو الثقافي عن طريق التعليم ومدارس الإستعمار، ولكن المجتمع الأفغاني مازال قوياً مقاوماً. و مقاومة الإحتلال شهدت مشاركة ملموسة من أجيال تعرضت لأخطار التعليم الأمريكي، وشاركوا في مظاهرات وإحتجاجات علنية، والبعض شارك بالمقاومة بالسلاح أو بوسائل أخرى متفرقة. فمازال تأثير المجتمع بثقافته وقيمه أقوى من تأثير التعليم الأمريكي أو الغزو الثقافي لعقول الأجيال الجديدة في أفغانستان.
فالنجاح النسبي للإستعمار الأمريكي في مجال الغزو الثقافي والفكري عبر التعليم والإعلام سوف يتم التغلب عليه بعد جلاء المحتلين، ولكنه سيكون من أصعب التحديات نتيجه لإستمرار الغزو الثقافي عبر الأجواء والحدود. ومهمة التصدي له ستكون أيضاً مستمرة وصعبة، عبر تعليم جديد، وإعلام جديد، وعمل إجتماعي واسع كما سنذكر في موضعه.