أمّ عمارة قدوة النساء المسلمات
أبو غلام الله
لا شك بأنّ المرأة الأفغانية بحاجة ماسة للقدوة الحسنة، ولاسيمًا بعد مجيء الاحتلال المفسد الذي ينفق الملايين لتدمير بنية الأسرة المسلمة الملتزمة بدينها وعفافها وشرفها وخلقها الكريم، فأصبحت الحاجة إليها في هذه الأيام أكثر إلحاحاً؛ لما تعانيه المجتمعات المسلمة من هجمة شرسة على المرأة المسلمة خارجياً وداخلياً، فعلى المستوى الخارجي هناك مؤتمرات المرأة والسكان، ومواثيق التمييز ضد المرأة ودعاوى المساواة بين المرأة والرجل.. وجميعها ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب والخراب.
وعلى المستوى الداخلي هناك دعاة التغريب والعلمنة وهؤلاء يسعون بخطى دؤوبة لتصوير واقع المرأة المسلمة بأنه واقع مأساوي محزن، فهي متخلفة عن ركب الحضارة.. بائسة.. مقهورة… لماذا!!؟.. لأنها الوحيدة في العالم التي لا ترضى تقليد الغرب!
واستجلب الغربيون العاهرات المغنيات وشذاذ الآفاق من هنا وهناك وأتوا بهنّ الى أفغانستان كي يصنعوا برامج ماجنة وخليعة في التلفاز، ويسلبوا بهذا العمل دين الشباب ومروءتهم وغيرتهم، ويلهوهم عن ذكر الله وجهادٍ في سبيله، ويعمّموا التبرّج في أوساط البنات المسلمات، باسم الحرية والمساواة والعمل وما إلى ذلك من ترّهات وخزعبلات.
إنّ المرأة الأفغانية ليست بحاجة إلى قدوات فاشلة، قدوات عاهرة، قدوات متبرّجة، قدوات عملها الاستفزاز وإثارة شهوات الشباب؛ بل هي بحاجة إلى قدوات صالحة عفيفة، لأنّ العفة والحياء يعتبران أسمى وأنقى وأرقى وأجمل ما يزين المرأة الصالحة؛ فالعفيفة الحيية لا تكون إلا لزوجها، لا تنظر إلا إليه قاصرة الطرف عليه. وقد أشار القرآن الكريم إلى خلق العفة والحياء بصورة واقعية، حينما وصف إحدى المرأتين اللتين وجدهما سيدنا موسى عليه السلام عندما ورد ماء مدين وسقا لهما فقال: ﴿َجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ القصص:25.
إن المرأة الأفغانية بحاجة إلى قدوات مجاهدات مثاليات؛ لأنّ هذه الأرض -أي أرض أفغانستان- أرض الجهاد والرباط، أرض الغزاة والفاتحين، أرضٌ خصبة ترعرع في أحضانها المجاهدون والمجاهدات سواء بسواء. وفي ظل الهجمات الشرسة الأخيرة، ينبغي أن نقتفي آثار الصحابة والصحابيات، ونشحن إيماننا بسيرهم، وننظر كيف كانوا وكيف ضحّوا حتى ألقى الدينُ بجرانه. وإحدى هؤلاء الصحابيات المجاهدات أم عمارة نسيبة بنت كعب، ولا تحتاج منا هذه المجاهدة المقاتلة إلى كثير كلام نتكلم به عنها سوى أن نورد أخبارها كما رواها الأئمة الأعلام، حيث ذكرها الإمام الذهبي في سير الأعلام فقال: أم عمارة: نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول، الفاضلة المجاهدة الأنصارية الخزرجية النجارية المازنية المدنية، كان أخوها عبد الله بن كعب المازني من البدريين، وكان أخوها عبد الرحمن من البكائين، شهدت أم عمارة ليلة العقبة وشهدت أحدًا، والحديبية ويوم حنين، ويوم اليمامة وجاهدت وفعلت الأفاعيل. روي لها أحاديث، وقطعت يدها في الجهاد. وقال الواقدي: شهدت أحدًا مع زوجها غزية بن عمرو ومع ولديها، خرجت تسقي، ومعها شن (أي القربة الخلق) وقاتلت وأبلت بلاء حسنًا، وجرحت اثني عشر جرحًا.
وكان ضمرة بن سعيد المازني يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحدًا، قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول:«لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان».
وكانت تراها يومئذ تقاتل أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحًا و( كانت تقول): إني لأنظر إلى ابن قمئة وهو يضربها على عاتقها، وكان أعظم جراحها فداوته سنة، ثم نادى منادي رسول الله ﷺ: إلى حمراء الأسد، فشدت عليها ثيابها، فما استطاعت من نزف الدم رضي الله عنها ورحمها.
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر: أخبرنا عبد الجبار بن عمارة عن عمارة بن غزية قال: قالت أم عمارة: رأيتني، وانكشف الناس عن رسول الله ﷺ، فما بقي إلا في نفير ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين ورآني ولا ترس معي، فرأى رجلا موليًا ومعه ترس، فقال: ألق ترسك إلى من يقاتل. فألقاه فأخذته، فجعلت أترس به عن رسول الله، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم، إن شاء الله.
فيقبل رجل على فرس فيضربني وترست له، فلم يصنع شيئا وولى فأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره فجعل النبي ﷺ يصيح: يا ابن أم عمارة، أمك! أمك! قالت فعاونني عليه، حتى أوردته شعوب (شعوب من أسماء المنية، أي الموت).
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر: حدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن يحيى، عن أمه، عن عبد الله بن زيد، قال: جرحت يومئذ جرحًا، وجعل الدم لا يرقأ. فقال النبي ﷺ: «اعصب جرحك».
فتقبل أمي إلي ومعها عصائب في حقوها، وربطت جرحي والنبي ﷺ واقف، فقال: انهض بني فضارب القوم! وجعل يقول: «من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة»! فأقبل الذي ضرب ابني، فقال رسول الله: هذا ضارب ابنك، قالت: فأعترض له، فأضرب ساقه فبرك.
فرأيت رسول الله ﷺ يبتسم حتى رأيت نواجذه، وقال: «استقدت يا أم عمارة».
أي امرأة عظيمة صابرة مثابرة هذه المرأة.
إنّ قصّة تلك المجاهدة قد فاقت كل وصف في قتالها، حتى إنها لتفوق خيال هؤلاء المخرجين السينمائيين المحدثين حينما يريدون أن يصوروا طبيعة امرأة خارقة بأحداث عجيبة لا مصدر لها سوى خيالات هؤلاء المخرجين.
ولكنّ حديث نسيبة من حقائق ووقائع قد سجلها التاريخ وشهد بها البشر!
إنّ أمثال هاتيك النساء المؤمنات هنّ اللائي يربين أولادهنّ على الجهاد والقتال في سبيل الله تعالى ويحملنهم عليه.
ولنترك ابنها عبدالله بن زيد يحدثنا بطرف من ذلك:
قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر: حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله: سمعت عبد الله بن زيد بن عاصم يقول: شهدت أحدًا، فلما تفرقوا عن رسول الله ﷺ، دنوت منه أنا وأمي، نذب عنه فقال:«ابن أم عمارة؟» قلت: نعم. قال:«ارم» فرميت بين يديه رجلا بحجر -وهو على فرس- فأصبت عين الفرس، فاضطرب الفرس، فوقع هو وصاحبه، وجعلت أعلوه بالحجارة، والنبي ﷺ يبتسم. ونظر إلى جرح أمي على عاتقها، فقال:«أمك أمك! اعصب جرحها! اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة». قلت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا.
ولقد ظلّت تلك المرأة ثابتة هي وأولادها على عقيدة الجهاد في سبيل الله لا ينهنها كبر سن، ولا ضعف بدن، ولا وفاة رسول الله ﷺ وهو خير صاحب وخير نصير، ترجى صحبته، ويستنصر بدعائه.
ولم يصرفها جهادها في سبيل نشر دين الله عن تربية ولديها: حبيب وعبدالله، تربية دينية قويمة، فملأت قلبيهما إيمانًا وصدرهما شجاعة وسواعدهما قوّة، وأرسلت أصغرهما عبدالله إلى بلاد اليمن مع معاذ بن جبل ليعلم اليمنيين رسالة السماء ويفقههم في الدين. وبعثت حبيبًا ولدها الأكبر الذي اشتهر بقوة الحجة وبلاغة المنطق وفصاحة اللسان، إلى بني حنيفة باليمامة، ليناقش مسيلمة الكذاب الذي ادعى أنه رسول كمحمد ﷺ، لعله يقنعه فيرجع عن ادعائه وزعمه.
ووصل حبيب إلى اليمامة والتقى بمسيلمة وقال له: أسلم تسلم، وارجع عن زعمك الباطل ودعواك الكاذبة، إنك تزعم أنك تؤمن بالقرآن، والقرآن يقول:مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا . فيسأله مسيلمة: أتشهد أنّ محمدًا رسول الله؟ فيقول: نعم.
فيقول له مسيلمة: أتشهد أني رسول الله؟
فيجيبه حبيب في قوة ثبات وإيمان: لا.
وفي كل مرة لا يعترف فيها حبيب لمسيلمة بالرسالة يقطع مسيلمة عضوًا من جسد حبيب.. وظل يفعل ذلك حتى جاد حبيب بأنفاسه الأخيرة شهيدًا في سبيل الحق والله، والله هو الحق المبين.
وعلمت السيدة نسيبة بمصرع ولدها حبيب، فلم تجزع، وهي التي وهبت نفسها للتضحية والفداء والفناء لنشر رسالة الإسلام، وقابلت نبأ قتله كما تقابل المؤمنة الصابرة المستلمة لقضاء الله احداث الدهر وأرزاءه، وصممت على أن تأخذ ثاره بيدها.. فخرجت هي وولدها عبد الله في جيش خالد بن الوليد الذي سيّره أبوبكر لقتال مسيلمة، وكان قتالا مريرًا، اختلطت فيه رمال الصحراء بدماء المحاربين، واستبسل بنوحنيفة قوم مسيلمة في هجومهم، فردّوا المسلمين عن مواقعهم، وكبّدوا جيش خالد خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد.
واستعصى أمر مسيلمة، وأحاط جنده بجند المسلمين، وكادوا يفتكون بهم ويطفئون نور الله ويقضون على الدعوة المحمدية، لولا أن تقدمت نسيبة تقتحم الصفوف وتفتح الثغرات، واستمد المسلمون من شجاعتها قوة وتابعوها في التقدم والزحف.
وكاد الإعياء ينال منها من كثرة ما بذلت من جهد، لولا أن رأت مسيلمة قريبا منها، وعندئذ طافت برأسها ذكرى ولدها الحبيب الذي استشهد على يد هذا الطاغية، وتخيلت وليدها وهو يشير إلى زعيم المرتدين ويقول لها: هذا عدوّ الله، أسرعي بقتله تشفي غيظ قلبك وتنالي رضا ربك وتريحي الدنيا من شروره وأكاذيبه، اقتليه تقتلي الفتنة وتثأري لولدك. وجعلتها ذكرى وليدها أقوى قوة، وأحالت إعياءها تجلدًا وإجهادها عزمًا ومضاءً، ومن خلال غبار المعركة المنتشر وأشلاء القتلى المتناثرة وصليل السيوف المدوي ارتفع سيف من وراء مسيلمة ليطيح برأسه، ولكنه استدار إلى الخلف وعاجل اليد التي تحمله بضربة أطارت السيف وقطعت اليد، ولم تكن هذه اليد إلا يد السيدة نسيبة التي تحدّث الرسول ﷺ عن جهادها فقال: (ما التفتُّ يمينًا ولا شمالًا يوم أحد إلا رأيتها تقاتل دوني).
ورأى عبدالله إصابة أمه.. وأهاج منظر الدماء وهي تقطر من يد أحب الناس إليه وأبرهم به شعور الغضب في قلبه، وثار جرحه القديم على أخيه، وأعده القدر ليقتص لأمه ويأخذ بثأر أخيه، فتقدم ومعه سيفه يهوى به في جبروت وعنف حتى وصل إلى مسيلمة، فالتحم في مبارزة مريرة ختمها عبد الله بطعنة قاتلة أصابت مسيلمة فقضت عليه.
وهكذا ماتت الفتنة بموت مسيلمة، وارتدت إلى الإسلام هيبته بالقضاء على المرتدين، ورجع خالد بن الوليد وعلى رأسه إكليل النصر، وعادت نسيبة إلى المدينة بيد واحدة وولد واحد..
قال ابن سعد: عن محمد بن يحيى بن حبان، قال: جرحت أم عمارة بأحد اثني عشر جرحًا، وقطعت يدها يوم اليمامة سوى يدها أحد عشر جرحًا. فقدمت المدينة وبها الجراحة، فلقد رئي أبوبكر رضي الله عنه، وهو خليفة يأتيها يسأل عنها.
فهذا عن جهادها في عهد أبي بكر الصديق، وظلت تلك المرأة الباسلة كذلك على جهادها في عهد عمر رضي الله عنه.
ولقد كان الخلفاء رضي الله عنهم بعد رسول الله ﷺ يعرفون لها منزلتها ومكانتها لجهادها بين يدي رسول الله ﷺ وبعد وفاته.
فعن موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه، قال: أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمروط فيها مرط (كساء تتلفع به المرأة وتختمر به) جيد، فبعث به إلى أمّ عمارة.
ألا فتتعلم نساء المؤمنين من نسيبة بنت كعب كيف يجاهدن ويربين أولادهنّ على الجهاد في سبيل الله.