أنقرأ أم نتدبر؟
يحرص المسلم في مواسم مضاعفة الأجور والحسنات على أن يستكثر من أداء الطاعات والعبادات والنوافل، لا سيما في هذا الشهر الفضيل، شهر رمضان المبارك، الذي يحرص المسلمون فيه على اغتنام كنوزه وفضائله والفوز فيه بالقبول والرضا من الله عز وجل. ومن جملة الطاعات التي يبذل المسلمون جهدهم وطاقتهم في الاستزادة منها: قراءة القرآن الكريم؛ وكثيراً ما يتبادر إلى الذهن سؤال: هل من الأفضل أن نتلوا القرآن تلاوة سريعة حتى يتسنى لنا ختمه خلال الشهر الفضيل أكثر من ختمة، أم أن نتلوه تلاوة متأنية متدبرة نحيا قصصه ونتذوق معانيه ونرتوي من معينه العذب، وإن لم يتسنى لنا ختمه خلال الشهر المبارك؟
والحقيقة أن من روائع ما ذُكر في الإجابة على مثل هذا السؤال ما ذكره الشيخ علي الطنطاوي (رحمه الله) في كتاب (فصول إسلامية: ص228 ـ 230)، إذ يقول:
“يقرأ المسلمون القرآن فيحركون ألسنتهم بلفظ كلماته وتجويد تلاوته، ولكن لا يفكرون في وجوب تحريك عقولهم لفهم معانيه، ويرون أن هذا هو الأصل في القراءة، كأن القرآن ليس إلا كلاماً معداً للتلحين ولا يُطلب منهم إلا التسابق إلى حسن تلحينه وإدارته على البيات والرصد والعجم وهاتيك الأنغام!
وصار البر بالقرآن كل البر، والعناية به كل العناية، أن نتقن مخارج حروفه ونفخّم مفخّمه ونرقّق مرقّقه ونحافظ على حدود مدوده، ونعرف مواضع إخفاء النون وإظهارها ودغمها وقلبها والغنة بها. القرآن الذي أنزله الله أمراً ونهياً ومنهجاً كاملاً للمسلم في حياته الخاصة وحياته الاجتماعية، يُكتفى منه بالتغني بألفاظه وتجويد تلاوته!
فهل ينفع القاضي أن يقرأ القانون مجوداً ثم لا يفهمه ولا يحكم به؟ وإذا تلقى الضابط برقية القيادة هل ينجيه من المحكمة العسكرية أن يضعها على رأسه ويقبلها ويترنم بها، ولا يحاول أن يدرك مضمونها. بل لو رأيتم رجلاً قعد يقرأ جريدة حتى أتمها كلها من عنوانها إلى آخر إعلان فيها، فسألتموه: ما هي أخبارها؟ فقال: والله ما أدري، لم أحاول أن أتفهم معناها فماذا تقولون فيه؟ أما تنكرونه وتنكرون عليه؟ فكيف لا تنكرون على من يعكف على المصحف حتى يختم الختمة، وقد خرج منها بمثل ما دخل فيها، ما فهم من معانيها شيئاً؟
فمن أين جاءت هذه المصيبة؟ وأي عدو من أعداء الله استطاع أن يلعب هذه اللعبة فيحرم المسلمين من قرآنهم وهو بين أيديهم، وفي كل بيت نُسخ منه، وهو يُتلى دائما ًفي كل مكان؟ يحرمهم منه وهو في أيديهم وهو ملء أنظارهم وأسماعهم؟ مسألة عجيبة جداً والله!”.