أين نحن من هؤلاء العظماء؟!
بقلم: أبو مها
عندما نرى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعين وبطولاتهم وتضحياتهم، نخجل ممّا قدّمناه في سبيل الله.
وهل تكلل الأمة الإسلامية بالأمجاد والنصر إلا بالصدق والبطولة والإخلاص والتضحيات الجليلة؟!
المكوث في البيت بين الأهل والأولاد والخلّان وتصفّح الكتب، بنيّة نشر العلم دون تنغّص الحياة وتكدّرها شيء جميل، يُثاب صاحبه إن شاء الله شريطة أن لايكتم الحق، ويحرّض المؤمنين الآخرين على الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. وأمّا اللؤم كل اللؤم فمتلبّس ذلك الذي يتقلّب بين أعطاف النعيم ثم يشمخ بأنفه ويزدري المجاهدين الصادقين الذين خرجوا لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى وبدل أن ينصرهم تجده ينتقص من شأنهم ويكون معولاً من معاول الشيطان للقضاء على صرح الجهاد، أعاذنا الله أن نكون من زمرتهم.
أمّا جهاد اليوم وخوض المعارك وقتال اليهود والنّصارى والصليبيين المحتلين وأذنابهم العملاء فسهلٌ بالنسبة إلى الأزمنة القديمة، فبإمكان كل مسلم أن ينصر دينه، وبعد شهر أو ثلاثة أشهر أو سنة بإمكانه أن يعود إلى بيته، ويحضن أولاده إن رُزق بحياة ولم يفز بالشهادة في سبيل الله.
أمّا أصحاب النبي رضوان الله عليهم أجمعين والتابعين ومن بعدهم من المجاهدين، كانوا يقضون سنوات مديدة في أرض الجهاد حتى لكانت أخبارهم تنقطع على أهلهم وأولادهم، فكانوا لا يدرون هل استشهد أم وقع أسيراً في قبضة العدوّ، ولكن الآن بإمكان المجاهد أن يتصل بأهله بالصوت والصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي كالواتساب وسكايب وآيمو وغيرها.
وحتى –لا قدّر الله– إذا وقع أسيراً بإمكانه أن يتصل بهم من سجنه، فالظروف تغيّرت وسَهُل أمر الجهاد من وجهٍ وصعب من وجه آخر، حيث أن زخارف الدنيا وملذاتها البرّاقة تحول بين المرء والجهاد، فبات اليقين ضعيفاً، والإيمانيات بعدت عن حياة المسلم، وصار جُلّ همّه العيش الرغيد وفي سبيل ذلك يبذل طاقاته وينسى بأنّ عليه فرضٌ يؤثم على إهماله. يا سبحان الله! مع أن الجهاد بأنواعه، سواء كان إعلامياً أم خوض المنايا والحروب متاح له، ولكنّه يأبى إلا العيش في ظلال معصية الله سبحانه وتعالى.
وفي الحروب الجديدة يكون المجاهدون بأمسّ الحاجة إلى أموال المسلمين، ولكنهم يبخلون أو تنقصهم الجرأة كي يعطوها للمجاهدين مخافة القبض عليهم أو إلى غير ما هنالك من الذرائع الواهية التي لا تُسمن ولا تغني من جوع ولا تنجيهم أمام الرب تبارك وتعالى من هذا الخذلان العظيم.
ويحلو لي هنا أن أنقل قصة واحدة من قصص تضحيات السابقين وجهودهم الجبارة التي بذلوها لإعلاء كلمة الله، ثم لننظر كم هي الهوة بيننا وبينهم.
نعم؛ القصة قصة سيّدنا فرّوخ، التابعي الجليل الذي كان غلام الصحابي الجليل “الربيع بن زياد الحارثي” أمير خراسان وفاتح “سجستان” فقد أظهر هذا الغلام في ساحات الوغى من ضروب البسالة وصنوف الإقدام ما زاد الربيع إعجاباً به، وإكباراً له، وتقديراً لمزاياه. فأعتق رقبته، وقسم له نصيبه من الغنائم الكثيرة الوفيرة، ثم زاده من عنده شيئاً كثيراً، ووافا الأجل المحتوم الصحابي الجليل بعد عامين، فمضى إلى ربه راضياً مرضياً.
أمّا الفتى الشجاع “فرّوخ” فقد عاد إلى المدينة المنوّرة معه سهمه الكبير من الغنائم، والهبة السخية التي وهبها له قائدُه العظيم، ويحمل فوق ذلك حريته الغالية، وذكرياته الغنيّة بروائع البطولات، المكللة بغبار الوقائع.
كان فروخ في هذا الحين يسير نحو الثلاثين من عمره، فابتاع داراً من أوسط دور المدينة، واختار امرأة راجحة العقل، كاملة الفضل، صحيحة الدين.
وجد “فروخ” بداره التي أكرمه الله بها، وبصحبة زوجته هناءة العيش وطيب العشرة ونضارة الحياة، لكن تلك الدار والزوجة الصالحة والعيشة الهنية لم تستطع أن تغلب حنين الفارس المؤمن لخوض المعارك.
وذات يومٍ سمع ” فرّوخ” خطيب المسجد النبوي يزفّ للمسلمین بُشرى انتصارات الجيوش الإسلامية في أكثر من ميدان، ويحضّ المسلمين على الجهاد في سبيل الله، فعاد إلى بيته وأعلن عزمه بأنه ينوي أن ينضوي تحت راية من رايات المسلمين.
فقالت له زوجته: يا أبا عبد الرحمن لمن تتركني وتترك هذا الجنين الذي أحمله بين جوانحي؟
فقال: أتركك لله عز وجل. ثم ودّعها ومضى إلى غايته.
وضعت السيّدة حملها وأطلقت عليه اسم ربيعة، لكنّ فروخاً طالت غيبته، ثم تضاربت الأقوال فيه.
فقال بعضهم: إنه وقع أسيراً في أيدي الأعداء. وقال آخرون: إنه مازال طليقاً يواصل الجهاد. وقال فريق ثالث عائدٌ من ساحات القتال: إنه نال الشهادة التي تمنّاها.
فترجّح هذا القول الأخير عند أمّ ربيعة لانقطاع أخباره، فحزنت ثم احتسبته عند الله.
وفي ذات عشية من عشيات الصيف المقمرة، بلغ المدينة المنوّرة فارس في أواخر العقد السادس من عمره، ومضى في أزقتها راكباً جواده قاصداً داره، وهو لايدري إن كانت داره ما تزال قائمة على عهده بها، أم أنّ الأيام قد فعلت بها فعلها.
فلقد مضى على غيابه عنها ثلاثون عاماً أو نحواً من ذلك.
ولقد كانت أزقة المدينة وشوارعها ما تزال عامرة بالغادين والرائحين، فالنّاس لم يفرغوا من صلاة العشاء إلا وشيكاً، لكنّ أحداً من هؤلاء الناس الذين مرّ بهم لم يعرفوه، ولم يأبه له، فسكّان المدن الإسلامية كانوا قد ألفوا منظر المجاهدين الغادين إلى القتال في سبيل الله، أو العائدين منه.
وصل داره ووجد بابها مشقوقاً، فأعجلته الفرحة عن الاستئذان على أهلها، فولج من الباب وأوغل في صحن الدار.
وما إن سمع رب الدار صرير الباب حتى رأى في ضوء القمر رجلاً متوشحاً سيفه، متقلداً رمحه، يقتحم عليه في الليل داره.
فهبّ مغضباً، ونزل إليه حافياً وهو يقول: أتتستّر بجنح الليل يا عدوّ الله، وتقتحم منزلي، وتهجم على حريمي؟
وتواثب كل من الرجلين على صاحبه، وارتفع ضجيجهما وتدفق الجيران وأحاطوا الرجل الغريب إحاطة الغُلّ بالعنق.
فأمسك به صاحب الدار وقال: والله لا أطلقك -يا عدوّ الله- إلا عند الوالي.
فقال الرجل: ما أنا بعدو الله، ولم أرتكب ذنباً وإنما هو بيتي، وجدت بابه مفتوحاً فدخلته. ثم التفت إلى الناس وقال: يا قوم! أنا فرّوخ. ألم یبق في الجيران أحدٌ يعرف فروخاً الذي غدا منذ ثلاثين عاماً مجاهداً في سبيل الله؟
وكانت والدة صاحب الدار نائمة، فاستيقظت على الضجيج، وأطلّت من نافذة عليتها، فرأت زوجها بشحمه ولحمه.
فكادت تعقد الدهشة لسانها، لكنها ما لبثت أن قالت: دعوه، دعه يا ربيعة يا ولدي إنه أبوك. فما كادت كلماتها تلامس الآذان حتى أقبل فروخ على ربيعة، وجعل يضمه ويعانقه. وأقبل ربيعة على فروخ وطفق يقبّل يديه وعنقه ورأسه.
هل تدرون من هو ربيعة هذا؟
نعم؛ هذا هو ربيعة الرأي، محدّث المدينة، وفقيهها وإمامها على الرغم من حداثة سنه، الذي تتلمذ لديه كبار الأئمة كالإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام يحيى بن سعيد الأنصاري، والإمام سفيان الثوري، والإمام الأوزاعي، والإمام الليث وغيرهم من العظماء.
فسبحان الباري الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء العمالقة والأفذاذ. وحريٌ بنا أن نقتدي بهم ونحذو حذوهم إن أردنا أن نعيد مجد الإسلام التليد الذي سرقه منا الأعداء، لا أن نرضى بالتثاقل إلى الأرض والقعود مع الخوالف الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون.