مقالات الأعداد السابقة

إبراهيم بن أدهم البلخي رحمه الله (100هـ – 162هـ) أحد مشاهير العباد وأكابر الزهاد

إعداد: أبوسعيد راشد

 

اسمه ونسبه:

ابن كثير: إبراهيم بن أدهم أحد مشاهير العباد وأكابر الزهاد.

كانت له همة عالية في ذلك رحمه الله.

فهو إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي وقيل العجلي، أصله من بلخ، ثم سكن الشام ودخل دمشق (وتوفي مرابطا في مدينة “جبلة” 25 كم جنوب محافظة اللاذقية في شمال غرب سوريا، بالشام، ودفن هناك، وعند مدفنه جامع كبير موجود إلى الآن).

شيوخه وتلامذته:

روى الحديث عن أبيه والأعمش ومحمد بن زياد صاحب أبي هريرة وأبي إسحاق السبيعي وخلق.

وحدث عنه خلق منهم: بقية والثوري وأبو إسحاق الفزاري ومحمد بن حميد. وحكى عنه الاوزاعي.

وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن عبد الرحمن الجزري عن إبراهيم بن أدهم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: “دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي جالسا فقلت: يا رسول الله إنك تصلي جالسا فما أصابك؟ قال: الجوع يا أبا هريرة! قال: فبكيت فقال: لا تبك فإن شدة يوم القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا”.

ومن طريق بقية عن إبراهيم بن أدهم حدثني إبو إسحاق الهمداني، عن عمارة بن غزية، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الفتنة تجئ فتنسف العباد نسفا، وينجو العالم منها بعلمه”.

 

بداية القصة:

وذكر أبو نعيم وغيره أنه كان ابن ملك من ملوك خراسان، وكان قد حبب إليه الصيد، قال: فخرجتُ مرةً فأثرتُ ثعلبا فهتف بي هاتف من قربوس سرجي: ما لهذا خُلِقْتَ، ولا بهذا أُمِرْتَ.

قال: فوقفتُ وقلتُ: انتهيتُ انتهيتُ، جاءني نذير من رب العالمين.

فرجعتُ إلى أهلي فخليتُ عن فرسي وجئتُ إلى بعض رعاة أبي فأخذت منه جبة وكساء ثم ألقيت ثيابي إليه، ثم أقبلت إلى العراق فعملت بها أياما، فلم يَصْفُ لي بها الحلالُ، فسألت بعض المشايخ عن الحلال فأرشدني إلى بلاد الشام، فأتيتُ طرسوس فعملت بها أياما، أنظر البساتين وأحصد الحصاد، وكان يقول: ما تهنيتُ بالعيش إلا في بلاد الشام.

أفر بديني ما شاهق إلى شاهق ومن جبل إلى جبل، فمن يراني يقول: هو موسوس.

ثم دخل البادية ودخل مكة وصحب الثوري والفضيل بن عياض ودخل الشام ومات بها، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه مثل الحصاد وعمل الفاعل وحفظ البساتين وغير ذلك.

وقال إبراهيم: أطب مطعمك ولا عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار.

وذكر أبو نعيم عنه: أنه كان أكثر دعائه اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك.

وقيل له إن اللحم قد غلا فقال: ارخصوه أي لا تشتروه فإنه يرخص.

 

أقوال العلماء:

قال النسائي: إبراهيم بن أدهم ثقة مأمون أحد الزهاد.

وقال أبو حاتم الرازي: عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري قال: كان إبراهيم بن أدهم يشبه الخليل، ولو كان في الصحابة كان رجلا فاضلا له سرائر وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يديه.

وقال عبد الله بن المبارك: كان إبراهيم رجلا فاضلا له سرائر ومعاملات بينه وبين الله عز وجل وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا من عمله، ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يده.

وقال بشر بن الحارث الحافي: أربعة رفعهم الله بطيب المطعم، إبراهيم بن أدهم، وسليمان بن الخواص ووهيب بن الورد، ويوسف بن أسباط.

وروى ابن عساكر من طريق معاوية بن حفص قال: إنما سمع إبراهيم بن أدهم حديثا واحدا فأخذ به فساد أهل زمانه.

قال: حدثنا منصور، عن ربعي بن خراش قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل يحبني الله عليه ويحبني الناس قال: “إذا أردت أن يحبك الله فابغض الدنيا، وإذا أردت أن يحبك الناس فما كان عندك من فضولها فانبذه إليهم ” .

 

حبس اللسان:

وكتب إلى الثوري: من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن أطلق أمله ساء عمله، و”من أطلق لسانه قتل نفسه“.

 

الصمت والاستكثار من العمل:

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو الربيع عن إدريس قال: جلس إبراهيم إلى بعض العلماء فجعلوا يتذاكرون الحديث وإبراهيم ساكت، ثم قال: حدثنا منصور ثم سكت فلم ينطق بحرف حتى قام من ذلك المجلس: فعاتبه بعض أصحابه في ذلك ! فقال: إني لاخشى مضرة ذلك المجلس في قلبي إلى اليوم.

وقال رشدين بن سعد: مر إبراهيم بن أدهم بالاوزاعي وحوله حلقة فقال: لو أن هذه الحلقة على أبي هريرة لعجز عنهم.فقام الأوزاعي وتركهم.

وقال إبراهيم بن بشار: قيل لابن أدهم: لم تركت الحديث؟ فقال: إني مشغول عنه بثلاث، بالشكر على النعم، وبالاستغفار من الذنوب، وبالاستعداد للموت، ثم صاح وغشي عليه فسمعوا هاتفا يقول: لا تدخلوا بيني وبين أوليائي.

وقال: كنا إذا رأينا الشاب يتكلم في المجلس أيسنا من خيره.

 

فضل الفقر:

وقال إبراهيم: ماذا أنعم الله على الفقراء لا يسألهم يوم القيامة عن زكاة ولا عن حج ولا عن جهاد ولا عن صلة رحم، إنما يسأل ويحاسب هؤلاء المساكين الاغنياء.

وقال شقيق بن إبراهيم: لقيت ابن أدهم بالشام وقد كنت رأيته بالعراق وبين يديه ثلاثون شاكريا.

فقلت له: تركت ملك خراسان، وخرجت من نعمتك؟ فقال: اسكت ما تهنيت بالعيش إلا ههنا، أفر بديني من شاهق إلى شاهق، فمن يراني يقول هو موسوس أو حمال أو ملاح، ثم قال: بلغني أنه يؤتى بالفقير يوم القيامة فيوقف بين يدي الله فيقول له: يا عبدي مالك لم تحج؟ فيقول: يا رب لم تعطني شيئا أحج به.فيقول الله: صدق عبدي اذهبوا به إلى الجنة.

ومكث بمكة خمسة عشر يوما لا شئ له ولم يكن له زاد سوى الرمل بالماء، وصلى بوضوء واحد خمس عشرة صلاة، وأكل يوما على حافة الشريعة كسيرات مبلولة بالماء وضعها بين يديه أبو يوسف الغسولي، فأكل منها ثم قام فشرب من الشريعة ثم جاء واستلقى على قفاه وقال: يا أبا يوسف لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا بالسيوف أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش.

فقال له أبو يوسف: طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الطريق المستقيم.

فتبسم إبراهيم وقال: من أين لك هذا الكلام ؟

 

في طلب الحلال:

وقال أقمت بالشام أربعا وعشرين سنة لم أقم بها لجهاد ولا رباط إنما نزلتها لاشبع من خبز حلال.

 

من أقواله:

وقال: الحزن حزنان حزن لك وحزن عليك، فحزنك على الآخرة لك. وحزنك على الدنيا وزينتها عليك.

وقال: الزهد ثلاثة، واجب، ومستحب، وزهد سلامة، فأما الواجب فالزهد في الحرام، والزهد عن الشهوات الحلال مستحب، والزهد عن الشبهات سلامة.

وكان هو وأصحابه يمنعون أنفسهم الحمام والماء البارد والحذاء ولا يجعلون في ملحهم أبزارا، وكان إذا جلس على سفرة فيها طعام طيب رمى بطيبها إلى أصحابه وأكل هو الخبز والزيتون.

وقال: قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تورث الغم والجزع.

وقال له رجل: هذه جبة أحب أن تقبلها مني. فقال: إن كنت غنيا قبلتها، وإن كنت فقيرا لم أقبلها.

قال: أنا غني.قال: كم عندك؟ قال: ألفان.

قال: تود أن تكون أربعة آلاف؟ قال: نعم، قال فأنت فقير، لا أقبلها منك.

وقيل له: لو تزوجت؟ فقال: لو أمكنني أن أطلق نفسي لطلقتها.

وكان إبراهيم يقول: فروا من الناس كفراركم من الاسد الضاري، ولا تخلفوا عن الجمعة والجماعة.

وكان إبراهيم يقول: دارنا أمامنا وحياتنا بعد وفاتنا. فإما إلى الجنة وإما إلى النار.

مثل لبصرك حضور ملك الموت وأعوانه لقبض روحك وانظر كيف تكون حينئذ، ومثل له هول المضجع ومسألة منكر ونكير وانظر كيف تكون.

ومثل له القيامة وأهوالها وأفزاعها والعرض والحساب، وانظر كيف تكون.

ثم صرخ صرخة خر مغشيا عليه.

ونظر إلى رجل من أصحابه يضحك فقال له: لا تطمع فيما لا يكون، ولا تنس ما يكون.

فقيل له: كيف هذا يا أبا إسحاق؟ فقال: لا تطمع في البقاء والموت يطلبك، فكيف يضحك من يموت ولا يدري أين يذهب به إلى جنة أم إلى نار؟ ولا تنس ما

يكون الموت يأتيك صباحا أو مساء.

ثم قال: أوه أوه ! ثم خر مغشيا عليه.

وقال له رجل: طوبى لك أفنيت عمرك في العبادة وتركت الدنيا والزوجات.

فقال: ألك عيال؟ قال: نعم.

فقال: لروعة الرجل بعياله- يعني في بعض الأحيان من الفاقة – أفضل من عبادة كذا وكذا سنة.

وكان يقول: ما لنا نشكو ففرنا إلى مثلنا ولا نسأل كشفه من ربنا.

ثم يقول: ثكلتْ عبدًا أمُّه أحبَّ الدنيا ونسي ما في خزائن مولاه.

 وقال: إذا كنت بالليل نائما وبالنهار هائما وفي المعاصي دائما فكيف ترضى من هو بأمورك قائما.

ورآه بعض أصحابه وهو بمسجد بيروت وهو يبكي ويضرب بيديه على رأسه، فقال: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت يوما تتقلب فيه القلوب والابصار.

وقال: إنك كلما أمعنت النظر في مرآة التوبة بان لك قبح شين المعصية.

وسأله بعض الولاة من أين معيشتك؟ فأنشأ يقول:

 نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات:

رأيتُ الذنوبَ تُمِيْتُ القلوبَ    ويورثُهَا الذُّلَّ إدمانُها

 وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ    وخيرٌ لنفسكَ عصيانُها

 وما أفسد الدينَ إلا ملوكٌ    وأحبارُ سوءٍ ورُهبانُها

 وباعوا النفوسَ فلم يَرْبَحُوْا   ولم يَغْلُ بالبيعِ أثمانُهَا

 لقد رَتَعَ القومُ في جيفةٍ    تَبَيَّنَ لذي اللُّبِّ أنتانُها

وقال: إنما يتم الورع بتسوية كل الخلق في قلبك، والاشتغال عن عيوبهم بذنبك، وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل، فكر في ذنبك وتب إلى ربك ينبت الورع في قلبك، واقطع الطمع إلا من ربك.

وقال: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزَهَّدَنَا فيها فآثرناها ورغبنا في طلبها، ووعدكم خراب الدنيا فحصنتموها، ونهاكم عن طلبها فطلبتموها، وأنذركم الكنوز فكنزتموها، دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأحببتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها، ومنتكم فانقدتم خاضعين لأمانيها، تتمرغون في زهراتها وزخارفها، وتتنعمون في لذاتها وتتقلبون في شهواتها، وتتلوثون بتبعاتها، تنبشون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها.

وشكى إليه رجل كثرة عياله فقال: ابعث إلي منهم من لا زرقه على الله.

فسكت الرجل.

وقال: أثقل الاعمال في الميزان أثقلها على الابدان، ومن وفى العمل وفى له الاجر، ومن لم يعمل رحل من الدنيا إلى الآخرة بلا قليل ولا كثير.

وقال: كل سلطان لا يكون عادلا فهو واللص بمنزلة واحدة، وكل عالم لا يكون ورعا فهو والذئب بمنزلة واحدة، وكل من خدم سوى الله فهو والكلب بمنزلة واحدة.

وقال: ما ينبغي لمن ذل الله في طاعته أن يذل لغير الله في مجاعته، فكيف بمن هو يتقلب في نعم الله وكفايته؟ وقال: أعربنا في كلامنا فلم نلحن، ولحنا في أعمالنا فلم نعرب.

وقال: جانبوا الناس ولا تنقطعوا عن جمعة ولا جماعة.

 

الزهد:

وبينما هو بالمصيصة (مدينة بالشام بين أنطاكية وبلاد الروم) في جماعة من أصحابه إذ جاءه راكب فقال: أيكم إبراهيم بن أدهم؟ فأرشد إليه، فقال: يا سيدي أنا غلامك، وإن أباك قد مات وترك مالا هو عند القاضي، وقد جئتك بعشرة آلاف درهم لتنفقها عليك إلى بلخ، وفرس وبغلة.

فسكت إبراهيم طويلا ثم رفع رأسه فقال: إن كنت صادقا فالدراهم والفرس والبغلة لك، ولا تخبر به أحدا.

ويقال: إنه ذهب بعد ذلك إلى بلخ وأخذ المال من الحاكم وجعله كله في سبيل الله.

 

مع أصحابه:

وذكروا أنه كان يعمل بالفاعل ثم يذهب فيشتري البيض والزبدة وتارة الشواء والجوذبان والخبيص فيطعمه أصحابه وهو صائم، فإذا أفطر يأكل من ردئ الطعام ويحرم نفسه المطعم الطيب ليبر به الناس تأليفا لهم وتحببا وتوددا إليهم.

وكان إذا سافر مع أحد من أصحابه يحدثه إبراهيم، وكان إذا حضر في مجلس فكأنما على رؤوسهم الطير هيبة له وإجلالا.

 

مع كبار العلماء:

وقال أبو حنيفة يوما لإبراهيم بن أدهم: قد رزقت من العبادة شيئا صالحا فليكن العلم من بالك فإنه رأس العبادة وقوام الدين.

فقال له إبراهيم: وأنت فليكن العبادة والعمل بالعلم من بالك وإلا هلكت.

وأضاف الأوزاعي إبراهيمَ بنَ أدهم فقصر إبراهيم في الأكل فقال: مالك قصرت؟ فقال: لأنك قصرت في الطعام.

ثم عمل إبراهيم طعاما كثيرا ودعا الأوزاعي فقال الأوزاعي: أما تخاف أن يكون سرفا؟ فقال: لا! إنما السرف ما كان في معصية الله، فأما ما أنفقه الرجل على إخوانه فهو من الدين.

وربما تسامر هو وسفيان الثوري في الليلة الشاتية إلى الصباح، وكان الثوري يتحرز معه في الكلام.

ورآه الاوزاعي ببيروت؟ عنقه حزمة حطب فقال: يا أبا إسحاق إن إخوانك يكفونك هذا.

فقال له: اسكت يا أبا عمرو ! بلغني أنه إذا وقف الرجل موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة.

 

الاستغناء:

وذكروا أنه حصد مرة بعشرين دينارا، فجلس مرة عند حجام هو وصاحب له ليحلق رؤوسهم ويحجمهم، فكأنه تبرم بهم واشتغل عنهم بغيرهم، فتأذى صاحبه من ذلك ثم أقبل عليهم الحجام فقال: ماذا تريدون؟ قال إبراهيم: أريد أن تحلق رأسي وتحجمني، ففعل ذلك فأعطاه إبراهيم العشرين دينارا، وقال: أردت أن لا تحقر بعدها فقيرا أبدا.

وقال مضاء بن عيسى: ما فاق إبراهيم أصحابه بصوم ولا صلاة ولكن بالصدق والسخاء.

 

العفو:

 ورأى رجلا قيل له: هذا قاتل خالك، فذهب إليه فسلم عليه وأهدى له وقال: بلغني أن الرجل لا يبلغ درجة اليقين حتى يأمنه عدوه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى