مقالات الأعداد السابقة

إلى غزة العزة

رِحاب

 

غزة، أو قطاع غزة، أو غزة هاشم؛ أحد أقدم المدن التي عرفها التاريخ، يُقال أنها سُمّيت بهذا الإسم اشتقاقاً من العِزّة والمَنَعة والقوة، وهي كذلك. مدينة تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، تضمّ في ثراها قبر هاشم بن عبد مناف القرشي جد الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها مسقط رأس أحد أئمة المذاهب الأربعة؛ الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله.

غزة؛ ذات الثلاث مائة كيلومتر مربع من مساحة هذا الكوكب، تلك البقعة الأبية العصِيّة النيّرة التي أبت أن تذل للمحتل واستعصت عليه فأضاءت نوراً بجهاد أبنائها الأبطال البواسل؛ لله درّها وعلى الله أجرها فكم أسقطت من قناعٍ تخفّى خلفه دهراً ثعلبٌ ماكرٌ يُبدي غير ما يُخفي! وكم كشفت عوار العينين التي ترى بهما حكومات الغرب الدم المسفوحَ حينما يكونُ دماً مسلماً! وكم فضحت هشاشة الكيان المحتل وخواءه وعجزه.

نعم؛ إن الاحتلال الصهيوني فارغ تماماً من القوة الداخلية الحقيقية الأصيلة، لكنه -بالمقابل- متشبّع جداً بالقوة المادية وبالترسانة الحربية؛ ولهذا فهو يرتكب المجازر ويُمعن في الإبادة الهمجية الوحشية بحق الشعب الفلسطيني في غزة، وهكذا تفعل الأيدي الخائرة الواهنة حينما تمسك بالسلاح. فمنذ العدوان الصهيوني الأخير على قطاع غزة وحتى هذه اللحظة؛ سجّل المكتب الإعلامي الحكومي في غزة ارتقاء أكثر من 20 ألف شهيد من أبناء الشعب الفلسطيني (منهم 8000 طفل و6200 امرأة)، وإصابة أكثر من 52 ألف جريح، في غزة لوحدها دون شهداء الضفة الغربية.

إن هذا التوحش والسُعار في القتل وسفك الدماء ما هو إلا إرهاصات النهاية؛ نهاية كل محتل دخيل يعجز أمام شعب مؤمن قام لصدّ عدوانه والدفاع عن الدين والنفس والمقدسات والأرض. لقد فعل الاحتلال الأمريكي -المندحر- بالشعب الأفغاني مثلما يفعل الآن الاحتلال الصهيوني بالشعب الفلسطيني؛ نفس القتل، ونفس التهجير، ونفس العدوان؛ عدوان على المستشفيات وإجهاز على الجرحى، وقصف عشوائي طال حتى الأعراس ومجالس العزاء! حتى أن الاحتلال المنهزم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة قبل هروبه من أفغانستان؛ كثّف من غاراته الجوية على الشعب الأفغاني، وضاعف استهدافه للمدنيين بشكل ملحوظ؛ وإذ بهذه الوحشية ماهي إلا تخبّطات المنازع في رمقه الأخير.

 

لا بأس عليكم يا أهل غزة، نعلم أن الجرح نازف وعميق، وأن آلامكم لا تسعها الكلمات والعبارات، وأن فقد الأحباب والرفاق موجع؛ لكن ثقوا أن هذه التضحيات ثقيلة في ميزان أعدل العادلين ولن تضيع هباءً معاذ الله، وأنها مهر تحرير أرض فلسطين الطيبة المباركة، وأن سنّة الله في هذا الكون قضت أن يكون الخير والشر في صراع ومدافعة دائمين إلى قيام الساعة، وأن الحق يعلو ويعِزّ بينما الباطل يسفُل ويذِل مهما تطاول الزمان ومهما انتفش الباطل وطفى، وأن تخاذل وتواطؤ العالمين لن يُغيّر القانون الإلهي العظيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 7، 8].

اصبروا وصابروا ورابطوا وجاهدوا وتوكلوا على الله واستعينوا به، فالله مولاكم ولا مولى لهم. وكونوا على يقين أن القوي المتين -عز وجل- لا يُعجزه أن يُفني هؤلاء الطُغاة الغاصبين وينصر عباده المؤمنين في لمح البصر، لكن لله حكمته وسُننه التي لا تتبدّل ولا تتغيّر في تسيير أمور الكون، من هذه السُنن: أن جَعَل الجُهد البشري واستنفاذ الوُسع في السعي والعمل ستاراً لقدره ووعده بنصر المؤمنين والتمكين لهم في الأرض. ولأن النصر لا يليق بالنفوس المتذبذبة الوَهِنة؛ فكان لابد من امتحان لها على نار الابتلاء والمحنة والزلزلة، حتى إذا صبرت وثبتت وجاهدت؛ نالت هذا الشرف العظيم؛ شرف النصر والتمكين، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 142]، وقال في موضع آخر: (أمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214].

 

واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى … فالصبرُ أوثق عدّة الإنسانِ

واطعن برمح الحقِ كل معاندٍ … لله درّ الفارسِ الطعّانِ

واحمل بسيف الصدق حملة مخلصٍ … متجردٍ لله غير جبانِ

واحذر بجهدك مكر خصمك إنه … كالثعلب البريّ في الرَوَغانِ

 

غزة؛ المجد لشهدائكِ، والشفاء لجرحاكِ، والنصر لمجاهديكِ، والخيبة لأعدائكِ. سيزول هذا الألم يوماً حتماً لا محالة، وسيجيء النصر ويتحقق، والأجر باقٍ عند الله لا يضيع وإن كان بمثقال ذرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى