مقالات الأعداد السابقة

إيحاءات من الحج!

قال العلماء: إن مناسبة الحج من أعظم المناسبات التي هيأها الله لعباده ومن أكرم الفرص التي تأتلف فيها منافع المسلمين وتجتمع مصالحهم فالمسلمون من أقاصي الدنيا يؤمون البيت الحرام لغرض واحد هو أداء فريضة الحج وهذا الاتحاد في الغرض يوحي بالألفة ويوقظ في النفوس الشعور بأخوة الإسلام، تلك الأخوة التي تربط الأبيض بالأسود والأحمر بالأصفر والسيد بالمسود دون فارق أو تفضيل فحينما يلتف المسلمون حول بيت الله لا يكون لهم شعار إلا كلمة الإخلاص وشهادة الحق لا اله إلا الله توحي إليهم بالتحرير المطلق التحرير من تأليه غير الله كائنا من كان وفي كل مواقف الحج يبدو واضحا حصن هذا التحرر.
ويقولون إن الحج مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل ويجدون محورهم الذي يشدهم جميعا إليه: هذه القبلة التي يتوجهون إليها جميعا ويلتقون عليها جميعا ويجدون رايتهم التي يفيئون إليها راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان ويجدون قوتهم التي قد ينسونها حينا، قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين. الملايين التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد راية العقيدة والتوحيد.
كما أن الحج مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى ضد الكفرة والمجرمين، وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب، وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرة في كل عام في ظل الله بالقرب من بيت الله وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة، والذكريات الغائبة والحاضرة في أشرف مكان، وأنسب جو، وأفضل زمان. (ليشهدوا منافع لهم).. كل جيل بحسب ظروفه وحاجاته وتجاربه ومقتضياته وذلك بعض ما أراده الله بالحج يوم أن فرضه على المسلمين، وأمر إبراهيم – عليه السلام – أن يؤذن به في الناس والمنافع التي يشهدها الحجيج كثير، فالحج موسم ومؤتمر، الحج موسم تجارة وموسم عبادة والحج مؤتمر اجتماع وتعارف، ومؤتمر تنسيق وتعاون، وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة، وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح، وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام، وهي ترف حول هذا البيت وتستروح الذكريات التي تحوم عليه وترف كالأطياف من قريب ومن بعيد، ها هم حجاج بيت الله يلهجون بالذكر في البلد الأمين ويكبرون عند البيت العتيق ويسكبون دموع الفرحة بلذة القرب فنعم هذا القرب ونعم المقربون.
أمر الله باني البيت عليه السلام إذا فرغ من إقامته على الأساس الذي كلف به أن يؤذن في الناس بالحج; وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام ووعده أن يلبي الناس دعوته، فيتقاطرون على البيت من كل فج، رجالا يسعون على أقدامهم، وركوبا (على كل ضامر) جهده السير فضمر من الجهد والجوع وما يزال وعد الله يتحقق منذ عهد إبراهيم – عليه السلام – إلى اليوم والغد، ولله درّ الشاعر حيث قال:
والطائفون كأمواج البحار وهم
مابين باك على ذنب ومبتســم
في ساحة البيت والأبصار شاخصة
كأنما هي أطياف من الحــلم
وكم توصّل محـــــروم فبلّغــــه
رب الحجيج أماني الروح والنعم
وكم تنفس مظلوم بحرقتــــه
وكــم أقيل عظيم الذنب واللمم
لا ريب ما تزال أفئدة من الناس تهوى إلى البيت الحرام وترف إلى رؤيته والطواف به، الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه ووسيلة الركوب المختلفة تنقله; والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه، وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم – عليه السلام – منذ آلاف الأعوام..
وها هو الرسول الأعظم يقوم بأداء نسك الحج ويسمونه الناس حجة الوداع لعل احد أسباب تسمية حجة رسول الله بحجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد هذه الحجة واحد وثمانين يوما فقط حسبما تفيده أكثر الروايات كما أن الإيحاءات المستفادة من خطابه التاريخي يوم عرفة من تلك الحجة كانت تعطي نفس السبب.
حج رسول الله صلى الله عليه وسلم و خطب خطبته التاريخية العظيمة الحافلة التي قرر فيها قواعد الإسلام وأحكام الدين وأتى على قواعد الشرك وبقايا الجاهلية ودعا إلى تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وأوصى بالنساء خيرا وذكر ما لهن وما عليهن من حقوق.
وتأتي هذه الحجة بعد انتهاء العهود مع المشركين وبعد أن أمر الله نبيه بتطهير بيته من رجسهم وأبعادهم عنه ومنعهم من دخوله منعا باتا أبديا. {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}.
فللتوحيد أقيم هذا البيت منذ أول لحظة عرف الله مكانه لإبراهيم – عليه السلام – وملكه أمره ليقيمه على هذا الأساس: {ألا تشرك بي شيئا} فهو بيت الله وحده دون سواه، وليطهّره للحجيج، والقائمين فيه للصلاة فهؤلاء هم الذين أنشئ البيت لهم، لا لمن يشركون بالله، ويتوجهون
بالعبادة إلى سواه.
ها هو شهر ذي حجة الحرام وتمرّ بنا ذكريات حجة
الوداع المباركة ومعانيها العطرة وأطيافها الخالدة كما تمّر بالأمة الإسلامية وتزهق أرواح أبنائها الأبرياء في كل مكان بغير حق وتمرّ بنا هذه الذكريات المقدسة وبلادنا تئن تحت وطأة الاحتلال منذ أكثر من عقد ومست أبناء شعبنا الأبي البأساء والضراء فزلزلوا لكنهم في انتظار لطف الله ومساندة إخوانهم المؤمنين إنهم ينادون الأمة الإسلامية لاسيما الذين شاركوا في موسم الحج نداء عبد الله بن مبارك لما كتب إلى قاضي عياض رحمهما الله وقال :
يا عابد الحرمين لو ابصرتنا لعلمت انك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
إن أبناء شعبنا المناضلين ينادون الأمة الإسلامية ويذكّرونها مظالم الاحتلال الصليبي التي ارتكبها ويرتكبها صباح مساء انه يشن حربا عارمة همجية ضد شعبنا الأصيل وكانت نتائج هذه الحرب الجائرة مئات الآلاف من الضحايا المدنيين العزل وآلام ومصائب وجروح لا تعد ولا تحصى، هؤلاء الطغاة الهادمون لمعاقل الحرية والإيمان ارتكبوا أبشع الجرائم إطلاقا وأذاق هذا الشعب الأبي مرارة المنايا وفداحة الرزايا تحمل هذا الشعب أفظع أنواع التعذيب وأبشع أمثال القتل والدمار رأوا المجازر الجماعية والإبادة الكاملة لان أعداء الله لا يعرفون معنى الرحمة ولا يرعون من وازع دين او ضمير لكن للأسف : هان على النظارة ما يمرّ بظهر المجلود !
وهذا أمر لا يقرّه الإسلام فان الإسلام يحرص ويِؤكد على ضرورة الشعور بالأخوة الإسلامية والناظر في كثير من شعائر الإسلام يجدها رباطا قويا ووشاجا متينا يدعم إخوة الإسلام وابرز وأوضح ما يكون هذا في موسم الحج فالمسلمون يجتمعون في وقت واحد على عمل واحد ويتم التعارف بينهم ويرتبط أقصى المسلمين بأدناهم فيكون وسيلة في تحقيق الوحدة الدينية و إن من ابرز الحقوق التي أوجبها الله تعالى على إتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعضهم على بعض هو التعاون في الشدائد والملمات وحوادث الزمن وعوادي الدهر ومظالم الكفرة وعدوان المجرمين وهذه المظاهر الأخوية هي روح الإيمان بها تتألف القلوب وتتعارف الأرواح وبها يجتمع الشمل وبها يصير المسلمون على اختلاف الأزمان وتباعد الأماكن أمة واحدة وقوة راسخة تصدّ كل عدوان وترد كل بغي وتقف في وجه كل ظالم وطاغي متغطرس.
يا أمة الإسلام أدركوا إخوانكم المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها من بورما وسوريا وفلسطين والعراق وادعوا لهم بالفرج لاسيما لإخوانكم في أفغانستان ادعوا لنصرهم في مواطن الإجابة صعيد عرفات الطاهر والمزدلفة والمشعر الحرام والملتزم لعل الله يتقبل دعواتكم وأن ينصر عباده المؤمنين عاجلا.
وما ذلك على الله بعزيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى