إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمًا عدادًا، وبعث فينا سراجًا وهَّاجَا، فاللهم إنا نشهدك على حبّك، وحبّ نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونشهدك أنه أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا ووالدينا وأموالنا، ونبرأ إليك مما فعل الكافرون بجناب نبيك وصفيك صلى الله عليه وسلم، وبعد:
قال كليلةُ: واعلم يادِمنةُ أنَّ من قلةِ عقلِ المرءِ وسوءِ تدبيرِهِ أن يُطاولَ ما لا يقدرُ على مطاولتِهِ، وأن يُغالبَ ما لا يقدرُ على مغالبتِهِ، فيكون مثلُهُ في ذلك كمثلِ النملة الحمقاء! قال دمنةُ: وما مثلُ النملةِ الحمقاءِ؟ قال كليلةُ: زعموا أنَّ نملةً ساءَها أن تكونَ صغيرةَ الحجمِ، ضئيلةَ الجرمِ، تُفزعها وبني جنسها أقدامُ الدوابّ، وتشرّدها وأخواتِها خطواتُ فيلٍ كان بالجوارِ، فآلت على نفسها ألا تدع حيلةً ولا وسيلةً تصنعُ بها الهيبةَ لأمةِ النِّمالِ إلا فعلتْها..
ففكرت وقدرت، وقدّمت وأخرتْ، فهداها مريضُ تفكيرِها إلى أنّ العلةَ في اجتراء المخلوقاتِ عليهنّ أنهنّ يتفرقن ويتبعثرن إذا ما خطت فوقهن أقدام الفيل الثقيل! وظنت وبعض الظن إثم أنّها لو اجتمعت مع بنات جنسها فوقفن في وجه الفيل ثم شتمنه بأعلى أصواتهنّ، وصمدنَ إزاءه، لتضعضع الفيل وتزعزع، وكف قدمه وتكعكع، ثم سلك سبيلاً غير سبيله، وترك لأمة النمالِ حريّتها الكاملةَ في التعبيرِ والتصرف!
فمازالت تلك الحمقاءُ حتى تألفت حولها طائفةً من النمالِ ذهبن مذهبها، وسلمن لها القيادَ، فلما قدمَ الفيلُ اصطفتِ النمال كما تصطف الجيوشُ، فما تركن قالةَ سوءٍ، ولا عبارةَ شتمٍ، ولا بيتَ هجاءٍ إلا صرخنَ به ملء حناجرهنّ. فما هو إلا أن أهوى عليهنّ الفيلُ بقدمِهِ فمحقهنّ من الحياةِ. فلم يسمع شتمهنّ غيرُهنّ. ولا درى بهجائهنّ سواهنّ. ومضى الفيلُ لطريقِهِ لم يشعر بما كان!
هذا مثلٌ استحضرتُهُ وأنا أتابعُ كما تتابعون تداعياتِ الفعلةِ الآثمةِ للصحيفة الفرنسية “شارلي إيبدو” التي تولّتْ كبر الإساءةِ إلى نبينا وحبيبنا محمد صلی الله علیه وسلم.
إنّهم مساكينُ لا يدرونَ من يحاربونَ ولا من يُطاولونَ!
إنّهم مساكينُ لا يدرونَ بمن يهزؤون ولا بمن يسخرون!
إنّهم مساكينُ لا يدرون أنّ إساءَتهم لا ترتدُّ إلا عليهم.
وقد قال الأعشى فيما مضى لما تجرأ بعض الأراذلِ على هجاءِ قبيلته:
ألست منتهياً عن نحتِ أثلتِنا ولست ضائرَها ما أطَّتِ الإبلُ
كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنَها فلم يضرْها وأوهى قرْنَهُ الوَعِلُ
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “إنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد، ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول، أهل الفقه والخبرة، عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه”. وقال الإمام العالم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “ومن سُنة الله أن من لم يُمكن المؤمنين أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله فإنَّ الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه، كما قدمنا بعض ذلك في قصة الكتاب المفترى، وكما قال الله سبحانه: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ )”.
وَممَّا يُستفاد من هَذه الأَحداث ـ أيها المسلمون ـ تميُّزالطیب من الخَبِيث، وَظهور الصَّادق من الكَاذب، قال سبحانه: {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُم عَلَيهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، ثم إِنَّ في الغَربِ مُنصِفِينَ، فَقَد تُثِيرُهُم تِلكَ الحَملاتُ الشَّعوَاءُ وَتَحمِلُهُم على طَلَبِ الحَقَائِقِ، فَيَهدِي اللهُ مِنهُم رِجالاً وَنِسَاءً فَيَحمِلُونَ الإِسلامَ في بِلادِهِم، وَ(إِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ).
وما قصة إِسلام حمزةَ بن عبدالمُطَّلب ـ رضي اللهُ عنه ـ عنَّا ببعيدٍ، فقد كان سببُ إِسلامهِ استخفَافَ أبي جَهلٍ بِرَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ إِذْ مَرَّ بِرَسولٍ اللهِ يَومًا عِندَ الصَّفَا، فَآذَاهُ وَنَالَ مِنهُ، وَرَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ سَاكِتٌ وَلا يُكَلِّمُهُ، ثم ضَرَبَهُ أَبُو جَهلٍ بِحَجَرٍ في رَأسِهِ فَشَجَّهُ، حتى نَزَفَ مِنهُ الدَّمُ، ثم انصَرَفَ عنه إلى نادِي قُرَيشٍ عِندَ الكَعبَةِ، فَجَلَسَ مَعَهُم، وَكَانَت مَولاةٌ لِعَبدِاللهِ بنِ جدعانَ في مَسكَنٍ لها على الصَّفَا تَرَى ذلك، وَأَقبَلَ حمزَةُ مِنَ القَنصِ مُتَوَشِّحًا قَوسَهُ، فَأخَبرتْهُ المَولاةُ بما رَأَت مِن أَبي جَهلٍ، فَغَضِبَ وَخَرَجَ يَسعَى، لم يَقِفْ لأَحَدٍ حتى دَخَلَ المَسجِدَ وَفِيهِ أَبو جَهلٍ، فَقَامَ على رَأسِهِ، وقال له: يَا مُصفِرَ استِهِ، تَشتُمُ ابنَ أَخِي وَأَنَا على دِينِهِ؟ ثم ضَرَبَهُ بِالقَوسِ فَشَجَّهُ شَجَّةً مُنكَرَةً، فَثَارَ رِجَالٌ مِن بني مخزُومٍ، وَثَارَ بَنُو هاشِمٍ، فَقَالَ أَبو جَهلٍ: دَعُوا أَبَا عِمَارَةَ، فَإِني سَبَبْتُ ابنَ أَخِيهِ سَبّاً قَبِيحاً.
ثم شَرَحَ اللهُ صَدرَ حمزَةَ للإِسلامِ، فَاستَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقى، واعتَزَّ بِهِ المسلمون أَيَّمَا اعتِزَازٍ، وكان إِسلامُهُ نَصرًا عَظِيماً للإِسلامِ، وَكَانَت تِلكَ المَسَبَّةُ وذلك الاستخفافُ مِن أبي جَهلٍ، سَبَبًا في النَّكبَةِ وَالخِزيِ وَالذُّلِّ لِلطُّغَاةِ المُعتَدِينَ.
وَإِنَّا لَنرى أَنَّ هذا الاستخفاف وَالاستِهزَاء من هؤلاءِ الطُّغاة في صُحفِهِم ووَسائل إِعلامهم، لَبدايَةُ نَصرٍ لِلإِسلامِ وَالمُسلمين، وإِنَّ بشائر النَّصرِ لَتَلوح في الأُفُق. وإِنَّ ما يُقالُ أَو يُثَارُ ضدَّ الإِسلام أَو ضِدَّ نبيه ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ ليسوءُ كُلَّ مُسلم ويُحزِنه ويغضبه. إِلا أَنَّ هذَا الشَّرَّ لا يَخلُو مِن خَيرٍ، هُم يُريدُون أَمراً، وَالله يُرِيدُ أَمراً {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ، وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ}.
لَقَد دَبَّرَ أَسلافُهُم مِن قَبلِهِم وَمَكرُوا، وَأعمَلُوا أَفكَارَهُم وَخَطَّطُوا، وَأَجَالُوا آرَاءَهُم وَتَآمَرُوا، وَابتَغَوُا الفِتنَةَ وَقَلَّبُوا الأُمُورَ، وَاستَهزَؤُوا وَخَاضُوا، فَأَبْطَلَ اللهُ سَعيَهُم، وَرَدَّ كَيدَهُم في نحُورِهِم، وحَاقَ بهم مَكرُهُم، وَنَصَرَ اللهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَه، قال سبحانَه: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} وقال تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}. {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.
وفي الصحيحِ عنِ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ قال: (يَقُولُ اللهُ تعالى: مَن عَادَى لي وَليًّا، فَقَد آذنتُهُ بِالحَربِ) فَكيف بمن عادى سيِّد الأَولِيَاءِ؟
كَيف بمن استهزأَ بسيِّد الأَنبياء؟ الذي أَمر اللهُ تعالى بتَعظِيمهِ وتوقيرهِ، وَعلَّق الفَلاح على نُصرتهِ، وأخبر أَنَّ مَن لم ينصُرْهُ فَلَيس من المُفلحين، وأَنَّ من آذَاهُ وَشاقَّهُ فَلَهُ عذابٌ أَلِيمٌ، وَأَنَّهُ ـ سبحانَه ناصِره وعاصمه، فقال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} وقال سبحانَه: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وقال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} وقال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} وقال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} وقال تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}.
وفي الصحيحين خبر آخر عجيب عن رجلٍ من بني النجار كان نصرانياً فأسلمَ، وكان يكتبُ الوحي للنبي، ثم إنّه نكص على عقبيه فتنصّرَ، ولحق بأهل الكتابِ، فكان يهزأ بالنبيّ، ويدّعي أنه أدخل في الوحي ما ليس منه، ويقولُ: والله ما يدري محمدٌ إلا ما كتبتُ له!
فَمَا لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ، فدفنوه، فأصبح وقد لفظتْه الأرضُ! فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ الثالثةَ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ، فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذاً. (البخاري 3617)، و(مسلمٌ 2781) . فسبحان الذي كفى نبيّه من استهزأ به وسخر به!