مقالات الأعداد السابقة

اعرِف الغلاة واحْذَر منهم!

عبد المتين الكابلي

 

الغلاة التكفيريون أشدّ خطرًا على أهل الإسلام من العدوّ المحارب المجاهر الذي يقاتل المسلمين وجهًا لوجه، لأنّ الكافر المداهم يعرفه القاصي والداني وشرّه معروف ومعلوم، أمّا الذي يكفّر المسلمين ويستبيح دماءهم وأعراضهم ثم يؤوّل بتأويلاته السخيفة السحيقة أمره وينسب فعاله إلى الإسلام، ويغرّر الشباب الجهلاء السفهاء، فهذا شرّه أكبر وأفدح.

وعندما نذكر الغلاة يفهم القارئ على الفور أنّنا نعني الخوارج وأتباع البغدادي الذين عمّ فسادهم في مختلف البلاد حيث آذوا العباد، واستباحوا دماءهم وأعراضهم، فقتلوهم أثناء أدائهم الصلاة أو كانوا مرضى في أروقة المستشفيات!

ولم يأتِ في السنة النبوية تحذير من فرقة بعينها من فرق هذه الأمة إلا الخوارج، فقد ورد فيها أكثر من عشرين حديثاً بسند صحيح أو حسن، وما ذلك إلا لضررهم الجسيم على الأمة، والتباسِ أمرهم على الناس واغترارهم بهم؛ إذ ظاهرهم الصلاح والتقوى، ولأن مذهبهم ليس قاصراً على الآراء والأفكار، بل يتعدى ذلك إلى سفك الدماء.

 

فمن صفاتهم الثابتة في السنة:

1 – صغار السن: فهم في غالبهم شباب صغار، يقل بينهم وجود الشيوخ والكبار من ذوي الخبرة والتجارب، قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ)، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (12/287): “‏وَالْحَدَثُ: هُوَ الصَّغِيرُ السِّنِّ”.

فلو ألقيت نظرًا إلى جماعة الدواعش، لوجدت أنّ معظم المنضمين لهم هم من صغار السن الذين لم يصلوا العشرين من أعمارهم، ولأجل ذلك يتم غسل أدمغتهم بسرعة.

 

2 – الغلو في دين الإسلام: قال ابن عباس رضي الله عنهما -يصفهم حينما دخل عليهم لمناظرتهم-: دخلت على قوم لم أر قط أشد منهم اجتهاداً، جباههم قرحة من السجود، وأياديهم كأنها ثفن الإبل، وعليهم قمص مرحضة، مشمِّرين، مسهمة وجوههم من السهر.

وعن جندب الأزدي قال: لما عدلنا إلى الخوارج ونحن مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فانتهينا إلى معسكرهم، فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن.

فقد كانوا أهل صيام وصلاة وتلاوة للقران، لكنهم تجاوزوا حد الاعتدال إلى درجة الغلو والتشدد، حيث قادهم هذا التشدد إلى مخالفة قواعد الإسلام بما تمليه عليهم عقولهم، كالقول بتكفير صاحب الكبيرة.

ومنهم من بالغ في ذلك حتى على كل من ارتكب ذنباً من الذنوب ولو كان صغيراً؛ فإنه كافر مشرك مخلد في النار، وكان من نتيجة هذا التشدد الذي خرج بهم عن حدود الدين وأهدافه السامية، أن كفروا كل من لم ير رأيهم من المسلمين، ورموهم بالكفر أو النفاق، حتى إنهم استباحوا دماء مخالفيهم، كما أنّهم يكفّرون جنود الإمارة الإسلامية ويرونهم بأنهم مرتدين، مع أنهم كانوا قبل مخالفتهم بالإمارة الإسلامية يتملقون للإمارة حتى قال متحدثهم الهالك:

“فإلى تلك العصابة التي تقاتل على أمر الله، إلى أولئك القوم الذين لا يخافون في الله لومة لائم، إلى جميع المجاهدين عامةً في شتّى بقاع الأرض، ولا يسعني إلا أن أخص منهم الجبل الأبيّ الأشم والبحر الحمي الخِضم، بأبي هو وأمي، الشيخ الفاضل الملا عمر مع بشتونه والطالبان، صخرتنا القوية وقلعتنا العصية.

 

يا من ظُلِمتَ ارحل إلى الملا عمر * وقفاته عدلٌ ورشدٌ نادرُ

بشتونه والطالبان حماتنا * قد عاهدوا الرحمن أن لن يغدروا

لن يُخذل الإسلام لا * ما دامت الأرواح فيهم أو دماءٌ تقطرُ”

 

3 – سوء الفهم للقرآن: فهم يكثرون من قراءة القرآن والاستدلال به، لكن دون فقه وعلم، بل يضعون آياته في غير موضعها، ولهذا جاء وصفهم في الأحاديث: (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ)، (يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ)، (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ).

قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: “لَيْسَ حَظّهمْ مِنْ الْقُرْآن إِلَّا مُرُوره عَلَى اللِّسَان، فَلَا يُجَاوِز تَرَاقِيهمْ لِيَصِل قُلُوبهمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوب، بَلْ الْمَطْلُوب: تَعَلُّقه، وَتَدَبُّره بِوُقُوعِهِ فِي الْقَلْب”.

وقال شيخ الإسلام: “وَكَانَتْ الْبِدَعُ الْأُولَى مِثْلُ بِدْعَة الْخَوَارِجِ إنَّمَا هِيَ مِنْ سُوءِ فَهْمِهِمْ لِلْقُرْآنِ، لَمْ يَقْصِدُوا مُعَارَضَتَهُ، لَكِنْ فَهِمُوا مِنْهُ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ ” مجموع الفتاوى.

ولذلك قال فيهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الكُفَّارِ، فَجَعَلُوهَا عَلَى المُؤْمِنِينَ” ذكره البخاري تعليقاً.
قال ابن حجر: “كَانَ يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ لِشِدَّةِ اجْتِهَادِهِمْ فِي التِّلَاوَةِ وَالْعِبَادَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ، وَيَسْتَبِدُّونَ بِرَأْيِهِمْ، وَيَتَنَطَّعُونَ فِي الزُّهْدِ وَالْخُشُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ” فتح الباري لابن حجر.

 

4 – التَّكفير واستباحة الدماء: وهذه هي الصفة الفارقة لهم عن غيرهم؛ التكفير بغير حق واستباحة دماء المخالفين لهم، كما قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ) متفق عليه.

وهذا “مِنْ أَعْظَمِ مَا ذَمَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ” مجموع الفتاوى.

وسبب قتلهم لأهل الإسلام: تكفيرهم لهم، قال القرطبي في المفهم: “وذلك أنهم لما حكموا بكفر مَن خرجوا عليه من المسلمين، استباحوا دماءهم”.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِلُّونَ مِنْ دِمَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُرْتَدِّينَ” مجموع الفتاوى.

وقال: “وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي بِدْعَتِهِمْ، وَيَسْتَحِلُّونَ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا ” مجموع الفتاوى.

والتكفير عند الخوارج له صور كثيرة: كتكفير مرتكب الكبيرة، أو التكفير بما ليس بذنب أصلاً، أو التكفير بالظن والشبهات والأمور المحتملة، أو بالأمور التي يسوغ فيها الخلاف والاجتهاد، أو دون التحقق من توفر الشروط وانتفاء الموانع، ولا يَعذرون بجهل ولا تأويل، ويكفرون بلازم الأقوال ومآلاتها، ويستحلون دماء من يكفرونهم دون قضاء ولا محاكمة ولا استتابة. ولهذا قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)، “فشبه مروقهم من الدّين بِالسَّهْمِ الَّذِي يُصِيب الصَّيْد فَيدْخل فِيهِ وَيخرج مِنْهُ من شدَّة سرعَة خُرُوجه لقُوَّة الرَّامِي، لَا يعلق من جَسَد الصَّيْد بِشَيْء”. عمدة القاري.

وفي صحيح مسلم: (هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ)، وعند أحمد بسند جيد: (طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ)، قال ابن حجر: “وَفِيهِ أَنَّ الْخَوَارِجَ شَرُّ الْفِرَقِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ” فتح الباري.

قال السفَّاريني – رحمه الله – عند كلامه عن آراء نافع بن عبدالله الأزرق الخارجي والذي تنسب إليه فرقة الأزارقة الخارجية: (ومنها أنه كفّر من لم يقل برأيه، واستحل دمه) (لوامع الأنوار البهية ١ / ٨٦). ومن ذلك ما وقع لهم أيضاً في قصة مقتل الصحابي الجليل عبدالله بن خباب – رضي الله عنه – فإن الخوارج اعترضوا طريقه وهو يسوق بامرأته على حمار، فدعوه وتهددوه وأفزعوه، وقالوا له من أنت؟ فقال: أنا عبدالله بن خباب صاحب رسول الله ﷺ، فلما عرفوه طلبوا منه أن يحدثهم عن رسول الله ﷺ إلى أن قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيراً، ثم قالوا فما تقول في عثمان في أول خلافته وآخرها ؟ فقال: إنه كان محقاً في أولها وآخرها، ثم قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ فقال: إنه أعلم بالله منكم وأشد توقياً على دينه وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحداً، فأخذوه فكتفوه ثم أضجعوه وذبحوه، وسال دمه في الماء، وأقبلوا على المرأة وهي حبلى ففزعت وقالت: إني إنما أنا امرأة ألا تتقون الله؟ فقتلوها وبقروا بطنها. عليهم من الله ما يستحقون. (القصة مختصرة من تاريخ الطبري ٥ / ٨٢).

 

5 – الطعن والتضليل: من أبرز صفات الخوارج الطعن في أئمة الهدى وتضليلهم والحكم عليهم بالخروج عن العدل والصواب، وقد تجلَّت هذه الصفة في موقف ذي الخويصرة مع رسول الهدى ، حيث قال ذو الخويصرة: يا رسول الله اعدل. فقد عَدَّ ذو الخويصرة نفسه أورع من رسول الله . وحكم على رسول الله بالجور والخروج على العدل في القسمة! وإن هذه الصفة قد لازمتهم عبر التاريخ، وقد كان لها أسوأ الأثر لما ترتب عليها من أحكام وأعمال.

 

6 – أنهم يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان، كما قال ﷺ: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» (أخرجه البخاري ٣٣٤٤ ومسلم ١٠٦٤)، وهذا في عصرنا مشهود، فما من مصيبة تحل بالمسلمين ويتدخل فيها هؤلاء إلا فرّقوا بينهم وقتّلوا المسلمين وحكموا عليهم بالردة، وقالوا نقتل المرتدين أولاً ثم نقاتل الكفار، ولم يعرف في جميع العصور أن الخوارج قاتلوا الكفار أبداً، وإنما قتالهم للمسلمين، كما يحصل ذلك منهم اليوم حيث يرسلون أتباعهم المغفلين إلى أفغانستان لتفجير أنفسهم وسط المسلمين، مع أنّ آلافاً من نسائهم أسيرات كالسبايا في سجون الكفار والمنافقين. ولو كانت فيهم ذرّة من الغيرة لبدؤوا أولًا بفكاك أسيراتهم، ولكنهم سفهاء، عليهم من الله ما يستحقون.

 

7 – الشدة على المسلمين: عرف الخوارج بالغلظة والجفوة، وقد كانوا شديدي القسوة والعنف على المسلمين، وقد بلغت شدتهم حداً فظيعاً، فاستحلوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم؛ فروَّعوهم وقتلوهم، أما أعداء الإسلام من أهل الأوثان وغيرهم فقد تركوهم وادعوهم فلم يؤذوهم.

لقد سجل التاريخ صحائف سوداء للخوارج في هذا السبيل، وما قصة عبد الله بن خباب ومقتله عنا ببعيد، التي ذكرناها آنفًا، فمعاملة الخوارج للمسلمين مصحوبة بالقسوة والشدة والعنف كما فعلوا بالمجاهدين الأفاعيل وقتلوهم بالألغام، ولكنهم كانوا أمام الأمريكان كالخرفان والصيصان، كما اعتقل الأمريكان منهم آلافًا وأسكنوهم في كابل. وأما الخوارج أمام الكفار، فلين وموادعة ولطف، فقد وصف الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة، وإنما ندب إلى الشدة على الكفار، وإلى الرأفة بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج، قال تعالى: “مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ” [الفتح: 29]، فالخوارج عكسوا الآيات، فأرهبوا المسلمين وروَّعوهم.

 

وهذه أبرز صفاتهم أيها القارئ الكريم، وإنهم سفهاء لا يدرون أنّ الإمارة الإسلامية التي هزمت أمريكا التي كانت برفقة 42 دولة أولى بها أن تهزم بعض شذّاذ الآفاق ومرضى النفوس الذين غرروا وانخدعوا، وقادرون أن يستأصلوا شأفة هؤلاء المغفلين في أقرب وقت ممكن، وليس ذلك سوى من فضل الله سبحانه وتعالى وكرمه على عباده المستضعفين الذين كانوا مشغولين بردع الكفار والمحتلين ردحًا من الزمن وكابرًا عن كابر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى