مقالات العدد الأخير

الأمانة في العمل

إعداد: حافظ منصور

 

إن الأمة التي لا أمانة لها؛ تنتشر فيها الرشوة، ويهمل فيها الأكفاء، بل وتبعدهم وتقدم الذين ليسوا أهلاً للمناصب، وهذا من علامات الساعة.

ومن معاني الأمانة وضع كل شيء في المكان الجدير به واللائق له، فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، ولا تُملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها. واعتبار الولايات والأعمال العامة أمانات مسؤولة؛ ثابت من وجوه كثيرة.

فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله، ألا تستعملني؟- معنى الاستعمال هنا أن يجعله عاملًا، واليًا، حاكمًا، موظفا كبيرًا، رجل مسؤولية،- قال: فضرب بيده على منكبي- تحببًا، وترفقًا، وتلطفًا- ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف- أي القيادة تحتاج إلى خصائص- وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)؛ [أخرجه مسلم في الصحيح، وأبو داود والنسائي في سننهما عن أبي ذر].

إن الكفاية العلمية والعملية ليست لازمة لصلاح النفس، فقد يكون الرجل رضي السيرة حسن الإيمان، ولكنه لا يحمل من المؤهلات المنشودة ما يجعله منتجا في وظيفة معينة. ألا ترى سيدنا يوسف الصديق أنه لم يرشح نفسه لإدارة شؤون المال بنبوّته وتقواه فحسب، بل بحفظه وعلمه أيضاً ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55].

وأبو ذر لما طلب الولاية، لم يره الرسول جلداً لها، فحذّره منها. والأمانة تقتضي بأن نصطفي للأعمال أحسن الناس قياماً بها، فإذا ملنا إلى غيره؛ بهوى أو رشوة أو قرابة؛ فقد ارتكبنا بتنحية القادر وتولية العاجز خيانة فادحة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلا مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإسْنَادِ.

وعن يزيد بن أبي سفيان: قال لي أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام: يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعدما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمر عليهم أحدًا محاباة، فعليه لعنة الله لا يقبل منه صرفًا ولا عدلا حتى يدخله جهنم)؛ رواه مسلم.

والأُمَة التي لا أمانة فيها هي الأُمَة التي تعبث فيها الشفاعاتُ بالمصالح المقرَّرة، وتطيش بأقدار الرجال الأكْفَاء؛ لتهملهم وتُقَدم مَنْ دونهم، وقد أرشدت السنة إلى أن هذا من مظاهر الفساد الذي يقع آخر الزمان؛ فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: جاء رجل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) فقال: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: (إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)؛ رواه البخاري.

ومن الأمانة أن لا يستغل الإنسان منصبه الذي عُيّن فيه من أجل منفعة له أو لقريبه، كأن يأخذ زيادة على مرتبه بطرق ملتوية، كتناول الرشوة باسم الهدية، ثم مع هذا يريد أن يحللها بنوع من أنواع التأويلات. ألا فليعلم أن كل ذلك غش وخيانة وتلاعب بالدنيا، وما أخذ من ذلك فهو سحت وأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنه ثمرة خيانة وغدر واستغلال للمنصب، فاسمع يرحمك الله ما قاله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فعن عدي بن عميرة الكندي فيما رواه مسلم: «مَنِ اسْتَعْمَلْناهُ مِنكُم علَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنا مِخْيَطًا فَما فَوْقَهُ؛ كانَ غُلُولًا -أي سرقة على وجه الخيانة- يَأْتي به يَومَ القِيامَةِ، قالَ: فَقامَ إلَيْهِ رَجُلٌ أسْوَدُ مِنَ الأنْصارِ -كَأَنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ- فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قالَ: وما لَكَ؟ قالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: كَذا وكَذا، قالَ: وأنا أقُولُهُ الآنَ: مَنِ اسْتَعْمَلْناهُ مِنكُم علَى عَمَلٍ، فَلْيَجِئْ بقَلِيلِهِ وكَثِيرِهِ، فَما أُوتِيَ منه أخَذَ، وما نُهي عنْه انْتَهَى» .

وقد استعمل رسول الله ﷺ رجلا على صدقات بني سليم يُدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه قال: هذا مالكم وهذا هدية، فقال رسول الله ﷺ: «فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً». ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر). ثم رفع يده حتى رُئي بياض إبطه يقول (اللهم هل بلغت).

ولما كان الناس محتاجين إلى ذوي الولايات والمناصب والوظائف في قضاء حاجاتهم، فإن كثيرا منهم يتوددون لهم، ويتزلفون إليهم، وربما بذلوا في سبيل ذلك الوسائط والصنائع من الهدايا والأموال والولائم والخدمات وغيرها، لنيل حقوقهم منهم، أو للحصول على ما لا حق لهم فيه، أو لتقديمهم على غيرهم، حتى إن بعض أهل المناصب والوظائف يملكون في زمن قليل ثروات طائلة، لو استغرقوا أعمارهم كلها في جمعها من أرزاقهم ما جمعوها، ولكنها هدايا الناس وصِلَاتُهم التي لولا مناصبهم ووظائفهم ما ظفروا بشيء منها.

وأضحى الخبيرون في هذا الباب يدلّون غيرهم على مفاتيح من لهم حاجة عندهم من ذوي المناصب والوظائف، وكيف تقضى حاجاتهم، وما يناسب بذله لهم من أجل ذلك.

وهذه الهدايا التي تُبذل لهؤلاء الموظفين لأجل وظائفهم، منعتها الشريعة سواء كانت مالاً أو متاعاً أو ولائم أو خدمات أو غيرها، ولا حق لهم فيها، إذ لولا وظائفهم ما بُذلت لهم، ولو قعدوا في بيوتهم لما وصلت إليهم، فحُرِّم بذلها على الباذلين، كما حُرِّم أخذها على العاملين، ولا يحل لموظف صغيرا كان أم كبيرا أن يماطل في حقوق الناس، أو يؤخر معاملاتهم، لأجل أن يبذلوا له شيئا، أو يتقربوا إليه بصنيعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى