
الأمة .. من الزعامة إلى الانعزال (مقتطفات من كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)
لم يكن انحطاط المسلمين أولاً، وفشلهم وانعزالهم عن قيادة الأمم بعد، وانسحابهم من ميدان الحياة والعمل أخيراً، حادثاً من نوع ما وقع وتكرر في التاريخ من انحطاط الشعوب والأمم، وانقراض الحكومات والدول، وانكسار الملوك والفاتحين، وانهزام الغزاة المنتصرين، وتقلص ظل المدنيات. والجزر السياسي بعد المد. فما أكثر ما وقع مثل هذا في تاريخ كل أمة. وما أكثر أمثاله في تاريخ الإنسان العام ! ولكن هذا الحادث كان غريباً لا مثيل له في التاريخ. مع أن في التاريخ مثلاً وأمثلة لكل حادث غريب.
لم يكن هذا الحادث يخص العرب وحدهم، ولا يخص الشعوب والأمم التي دانت بالإسلام، فضلاً عن الأسر والبيوتات التي خسرت دولتها وبلادها، بل هي مأساة إنسانية عامة لم يشهد التاريخ أتعس منها ولا أعم منها. فلو علم العالم حقيقة هذه الكارثة، ولو عرف مقدار خسارته ورزيته، انكشف عنه غطاء العصبية، لاتخذ هذا اليوم النحس – الذي وقعت فيه يوم عزاء ورثاء، ونياحة وبكاء، ولتبادلت شعوب العالم وأممه التعازي، ولبست الأمة ثوب الحداد، ولكن ذلك لم يتم في يوم، وإنما وقع تدريجياً في عقود من السنين، والعالم لم يحسب إلى الآن الحساب الصحيح لهذا الحادث، ولم يقدره قدره، وليس عنده المقياس الصحيح لشقائه وحرمانه.
إن العالم لم يخسر شيئاً بانقراض دولة ملكت حيناً من الدهر. وفتحت مجموعاً من البلاد والأقاليم. واستعبدت طوائف من البشر. ونعمت وترفهت.
الأئمة المسلمون وخصائصهم:
ظهر المسلمون وتزعموا العالم وعزلوا الأمم المريضة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها، وساروا بالإنسانية سيراً حثيثاً متزناً عادلاً، وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم.
أولاً: أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية، فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم، لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم، ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء، قد جعل الله لهم نوراً مشون به في الناس، وجعل لهم شريعة يحكمون بها بين الناس {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
ثانياً: أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر، بل مكثوا زمناً طويلاً تحت تربية محمد صلى الله عليه وسلم وإشرافه الدقيق يزكيهم ويؤدبهم ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار على النفس وخشية الله وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها. يقول: (إنا والله لا نُولي هذا العمل أحداً سأله، أو أحداً حرص عليه)، ولا يزال يقرع سمعهم: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب تهافت الفراش على الضوء، بل كانوا يتدافعون في قبولها ويتحرجون من تقلدها، فضلاً عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة ويزكوا أنفسهم وينشروا دعاية لها وينفقوا الأموال سعياً وراءها، فإذا تولوا شيئاً من أمور الناس لم يعدوه مغنماً أو طعمة أو ثمناً لما أنفقوا من مال أو جهد، بل عدوه أمانة في عنقهم وامتحاناً من الله، ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم ومسئولون عن الدقيق والجليل، وتذكروا دائماً قول الله تعالى:
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ }.
ثالثاً: أنهم لم يكونوا خدمة جنس، ورسل شعب أو وطن، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان، لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاماً، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم، ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم. إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً وإلى عبادة الله وحده، كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد: (الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ،ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) فالأمم عندهم سواء والناس عندهم سواء، الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }.
وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر- وقد ضرب ابنه مصرياً، وافتخر بآبائه قائلاً: خذها من ابن الأكرمين، فاقتص منه عمر-: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. فلم يبخل هؤلاء بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد، ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسباً ولوناً ووطناً، بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها.
في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب – حتى المضطهدة منها في القديم- أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة، أن تساهم العرب في بناء العالم الجديد بل إن كثيراً من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل، وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين، حتى قال ابن خلدون: (من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية، إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته، فهو عجمي في لغته، ومرباه ومشيخته، مع أن الملة عربية، وصاحب شريعتها عربي). ونبغ من هذه الأمم في عصور الإسلام قادة وملوك ووزراء وفضلاء، هم نجوم الأرض ونجباء الإنسانية، وحسنات العالم، فضيلة ومروءة وعبقرية وديناً وعملاً، لا يحصيهم إلا الله.
رابعاً: أن الإنسان جسم وروح، وهو قلب وعقل وعواطف وجوارح، لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رُقياً متزناً عادلاً حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نمواً متناسباً لائقاً بها، ويتغذى غذاء صالحاً، ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة البتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني، وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا كانت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بيد الذين يؤمنون بالروح والمادة، ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية، وأصحاب عقول سليمة راجحة، وعلوم صحيحة نافعة، فإذا كان فيهم نقص في عقيدتهم أو في تربيتهم عاد ذلك النقص في مدنيتهم، وتضخم وظهر في مظاهر كثيرة، وفي أشكال متنوعة، فإذا تغلبت جماعة لا تعبد إلا المادة وما إليها من لذة ومنفعة محسوسة، ولا تؤمن إلا بهذه الحياة، ولا تؤمن بما وراء الحس أثرت طبيعتها ومبادئها وميولها في وضع المدنية وشكلها، وطبعتها بطابعها، وصاغتها في قالبها، فكملت نواح للإنسانية واختلت نواح أُخرى أهم منها…
وإذا تغلبت جماعة تجحد المادة أو تهمل ناحيتها ولا تهتم إلا بالروح وما وراء الحس والطبيعة، وتعادي هذه الحياة وتعاندها، ذبلت زهرة المدنية وهزلت القوى الإنسانية وبدأ الناس- بتأثير هذه القيادة – يؤثرون الفرار إلى الصحارى والخلوات على المدن، والعزوبة على الحياة الزوجية، ويعذبون الأجسام حتى يضعف سلطانها فتتطهر الروح ويؤثرون الموت على الحياة، لينتقلوا من مملكة المادة إلى إقليم الروح ويستوفوا كمالهم هنالك، لأن الكمال في عقيدتهم لا يحصل في العالم المادي، ونتيجة ذلك أن تحتضر الحضارة وتخرب المدن ويختل نظام الحياة ولما كان هذا مضاداً للفطرة لا تلبث أن تثور عليه، وتنتقم منه بمادية حيوانية ليس فيها تسامح لروحانية وأخلاق، وهكذا تنتكس الإنسانية وتخلفها البهيمية والسبعية الإنسانية الممسوخة، أو تهجم على هذه الجماعة الراهبة جماعة مادية قوية فتعجز عن المقاومة لضعفها الطبعي، وتستسلم وتخضع لها، أو تسبق هي- بما يعتريها من الصعوبات في معالجة أمور الدنيا- فتمد يد الاستعانة إلى المادية ورجالها وتسند إليهم أمور السياسة وتكتفي هي بالعبادات والتقاليد الدينية، ويحدث فصل بين الدين والسياسة فتضمحل الروحانية والأخلاق ويتقلص ظلها وتفقد سلطانها على المجتمع البشري والحياة العملية حتى تصير شبحاً وخيالاً أو نظرية علمية لا تأثير لها في الحياة وتؤول الحياة مادية محضة وقلما خلت جماعة من الجماعات التي تولت قيادة بني جنسها من هذا النقص، لذلك لم تزل المدنية متأرجحة بين مادية بهيمية وروحانية ورهبانية ولم تزل في اضطراب.
يمتاز أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا جامعين بين الديانة والأخلاق والقوة والسياسة، وكانت تتمثل فيهم الإنسانية بجميع نواحيها وشعبها ومحاسنها المتفرقة في قادة العالم، وكان يمكن لهم – بفضل تربيتهم الخلقية والروحية السامية واعتدالهم الغريب الذي قلما اتفق للإنسان، وجمعهم بين مصالح الروح والبدن واستعدادهم المادي الكامل وعقلهم الواسع – أن يسيروا بالأمم الإنسانية إلى غايتها المثلى الروحية والخلقية والمادية.
الحد الفاصل بين العصرين:
قال أحد الأدباء: (أمران لا يحدد لهما وقت بدقة، النوم في حياة الفرد، والانحطاط في حياة الأمة، فلا يشعر بهما إلا إذا غلبا واستوليا) إنه لحق في قضية أكثر الأمم، ولكن بدأ التدلّي والانحطاط في حياة الأمة الإسلامية أوضح منه في حياة الأمم الأخرى، ولو أردنا أن نضع إصبعنا على الحد الفاصل بين الكمال والزوال لوضعنا على ذلك الخط التاريخي الذي يفصل بين الخلافة الراشدة والملوكية العربية أو ملوكية المسلمين.
نظرة في أسباب نهضة الإسلام:
كان زمام القيادة الإسلامية- والعالمية بالواسطة- بيد الرجال الذين كان كل فرد منهم معجزة جليلة لمحمد صلى الله عليه وسلم، إيماناً وعقيدة وعملاً وخلقاً وتربية وتهذيباً وتزكية نفس وسمو سيرة، وكمالاً واعتدالاً، لقد صاغهم النبي صلى الله عليه وسلم صوغاً، وصبهم في قالب الإسلام صباً، فعادوا لا يشبهون أنفسهم إلا في الأجسام لا في الميول والنزعات، ولا في الرغبات والأهواء، ولو دقق مدقق لما رأى في سيرتهم وأخلاقهم مأخذاً جاهلياً ينافي روح الإسلام والنفسية الإسلامية، ولو تمثل الإسلام بشراً لما زاد على أن يكون كأحدهم، وكانوا كما قلنا أمثلة كاملة وأقيسة تامة للدين والدنيا والجمع بينهما، فكانوا أئمة يصلون بالناس، وقضاة يفصلون قضاياهم، ويحكمون بينهم بالعدل والعلم، وأمنة لأموال المسلمين وخزنتهم، وقواداً يقودون الجيوش ويحسنون تدبير الحروب، وأمراء يباشرون إدارة البلاد ويشرفون على أمور المملكة ويقيمون حدود الله، وكان الواحد منهم في آن واحد تقياً زاهداً وبطلاً مجاهداً، وقاضياً فهماً، وفقيهاً مجتهداً وأميراً حازماً وسياسياً محنكاً، فكان الدين والسياسة يتمثلان في شخص واحد وهو شخص الخليفة وأمير المؤمنين، حوله جماعة ممن تخرجوا- إن صح التعبير- في هذه المدرسة، المدرسة النبوية، أم المسجد النبوي، أفرغوا في قالب واحد يحملون روحاً واحدة، وتلقوا تربية واحدة، يستشيرهم الخليفة ويستعين بهم، فلا يقطع أمراً ذا بال حتى يشهدوه فسرت روحهم في المدنية ونظام الحكم وحياة الناس واجتماعهم وأخلاقهم، وانعكست ميولهم ورغباتهم في المدنية وظهرت خصائصهم فيها، فلا عداء بين الروح والمادة ولا صراع بين الدين والسياسة ولا تفريق بين الدين والدنيا، ولا تجاذب بين المصالح والمبادئ ولا تزاحم بين الأغراض والأخلاق، ولا تناحر بين الطبقات، ولا تنافس في الشهوات.
شروط الزعامة الإسلامية:
إن الزعامة الإسلامية تقتضي صفات دقيقة، واسعة جداً نستطيع أن نجمعها في كلمتين “الجهاد ” و “الاجتهاد”، فهاتان كلمتان خفيفتان بسيطتان، ولكنهما كلمتان جامعتان عامرتان بالمعاني الكثيرة.
الجهاد:
أما الجهاد فهو بذل الوسع وغاية الجهد لنيل أكبر مطلوب، وأكبر وطر للمسلم طاعة الله ورضوانه والخضوع لحكمه والإسلام لأوامره، وذلك يحتاج إلى جهاد طويل شاق ضد كل ما يزاحم ذلك من عقيدة وتربية وأخلاق وأغراض وهوى وكل من ينافس في حكم الله وعبادته من آلهة في الأنفس والآفاق، فإذا حصل ذلك للمسلم وجب عليه أن يجاهد لتنفيذ حكم الله وأوامره في العالم حوله وعلى بني جنسه، فريضة من الله وشفقة على خلق الله، ولأن الطاعة الانفرادية قد تصعب وتمتنع أحياناً بغير ذلك، وذلك ما يسميه القرآن ” الفتنة ” ومعلوم أن العالم كله بما فيه من جماد ونبات وحيوان وإنسان خاضع لمشيئة الله وأحكامه التكوينية وقوانينه الطبيعية{وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } فيتعين أن جهاد المسلم إنما هو لتنفيذ شريعته التي جاء بها الأنبياء، وإعلاء كلمته ونفاذ أحكامه، فلا حكم إلا لله ولا أمر إلا له، وهذا الجهاد مستمر ماض إلى يوم القيامة، له أنواع وأشكال لا يأتي عليها الحصر، منها القتال، وقد يكون أشرف أنواعه وغايته أن لا تبقى في الدنيا قوتان متساويتان متنافستان تتجاذبان الأهواء والأنفس {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه}.
ومن مقتضيات هذا الجهاد أن يكون الإنسان عارفاً بالإسلام الذي يجاهد لأجله وبالكفر والجاهلية التي يجاهد ضدها، يعرف الإسلام معرفة صحيحة ويعرف الكفر والجاهلية معرفة دقيقة، فلا تخدعه المظاهر ولا تغره الألوان ولا تعزه الألوان، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما ينقض الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية. ولا يجب على كل مسلم أن تكون معرفته دقيقة بالكفر والجاهلية ومظاهرهما وأشكالهما وألوانهما. ولكن على من يتزعم الإسلام ويتولى قيادة الجيش الإسلامي ضد الكفر والجاهلية، أن تكون معرفته بالكفر والجاهلية فوق معرفة عامة المسلمين وأوساطهم.
كذلك يجب أن يكون استعدادهم كاملاً وقوتهم تامة، يقارعون الحديد بالحديد بل بأقوى من الحديد، ويقابلون الريح بالإعصار، ويواجهون الكفر وأهله بكل ما يقدرون عليه، وبكل ما امتدت إليه يدهم، وبكل ما اكتشفه الإنسان ووصل إليه العلم في ذلك العصر، من سلاح وجهاز واستعداد حربي، لا يقصرون في ذلك ولا يعجزون: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ }.
الاجتهاد:
أما الاجتهاد فنريد به أن يكون من يرأس المسلمين قادراً على القضاء الصحيح في النوازل الحوادث التي تعرض في حياة المسلمين وفي العالم وفي الأمم التي يحكمها، وفي المسائل التي تفاجئ وتتجدد، والتي لا يستقصيها فقه مدون ومذهب مأثور وفتاوى مؤلفة، ويكون عنده من معرفة روح الإسلام وفهم أسرار الشريعة والاطلاع على أصول التشريع وقوة الاستنباط – انفراداً أو اجتماعاً- ما يحل به هذه المشاكل ويرشد الأمة في الغمة.
ويكون عنده من الذكاء والنشاط والجد والعلم ما يستخدم به ما خلق الله في هذا الكون من قوى طبيعية، وما بث في الأرض وتحت الأرض من خيرات ومنابع ثروة وقوة، وأن يسخرها لمصلحة الإسلام بدل أن يستخدمها أهل الباطل لأهوائهم، ويتخذوها وسيلة للعلو في الأرض، ويسخرها الشيطان لتحقيق أغراضه والإفساد في الأرض.
انتقال الإمامة من الأكفاء إلى غير الأكفاء:
ولكن من الأسف ومن سوء حظ العالم البشري أن تولى هذا المنصب الخطير رجال لم يكونوا له أكفاء، ولم يُعدوا له عدة، ولم يأخذوا له أهبة، ولم يتلقوا تربية دينية وخلقية كما تلقى الأولون وكثيرون في عصرهم وجيلهم، ولم يسيغوا تعاليم الإسلام إساغة تليق بقيادة الأمة الإسلامية والاضطلاع بزعامتها، ولم تنق رؤوسهم ولا نفوسهم من بقايا التربية القديمة، ولم يكن عندهم من روح الجهاد في سبيل الإسلام ومن قوة الاجتهاد في المسائل الدينية والدنيوية ما يجعلهم يضطلعون بأعباء الخلافة الإسلامية- وهذا الحكم عام يشمل خلفاء بني أمية وبني العباس، حاشا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (م 101هـ) .
فصل الدين عن السياسة:
وقع فصل بين الدين والسياسة عملياً، فإن هؤلاء لم يكونوا من العلم والدين بمكان يستغنون به عن غيرهم من العلماء وأهل الدين فاستبدوا بالحكم والسياسة، واستعانوا- إذا أرادوا واقتضت المصالح- بالفقهاء ورجال الدين كمشيرين متخصصين، واستخدموهم في مصالحهم واستغنوا عنهم إذا شاؤوا، وعصروهم متى شاءوا، فتحررت السياسة من رقابة الدين، وأصبحت قيصرية أو كسروية مستبدة، وملكاً عضوضاً، وأصبحت السياسة كجمل هائج حبله على غاربه، وأصبح رجال الدين والعلم بين معرضة للخلافة وخارج عليها، وحائد منعزل اشتغل بخاصة نفسه وأغمض العين عما يقع ويجري حوله، يائساً من الإصلاح، ومنتقد يتلهف ويتنفس الصعداء مما يرى ولا يملك من الأمر شيئاً، ومتعاون مع الحكومة لمصلحة دينية أو شخصية، ولكلٍّ ما نوى، وحينئذ انفصل الدين والسياسة، وعادا كما كانا قبل عهد الخلافة الراشدة أصبح الدين مقصوص الجناح مكتوف الأيدي، وأصبحت السياسة مطلقة اليد حرة التصرف نافذة الكلمة صاحبة الأمر والنهي، ومن ثمَّ أصبح رجال العلم والدين طبقة متميزة، ورجال الدنيا طبقة متميزة، والشقة بينهما شاسعة، وفي بعض الأحيان بينهما عداء وتنافس.
النزعات الجاهلية في رجال الحكومة:
ولم يكن رجال الحكومة حتى الخلفاء أمثلة كاملة في الدين والأخلاق، بل كان في كثير منهم عروق للجاهلية ونزعاتها، فسرت روحهم ونفسيتهم في الحياة العامة والاجتماع، وأصبحوا أسوة للناس في أخلاقهم وعوائدهم وميولهم، وزالت رقابة الدين والأخلاق وارتفعت الحسبة وفقدت حركة الأمر المعروف والنهي عن المنكر سلطانها، لأنها لا تستند إلى قوة ولا تحميها حكومة، وإنما يقوم بها متطوعون لا قوة لديهم ولا عقاب، والدواعي إلى خلافها متوافرة قوية، فتنفست الجاهلية في بلاد الإسلام ورفعت رأسها، وأخلد الناس إلى الترف والنعيم وإلى الملاهي والملاعب، وانغمسوا في الملذات والشهوات واستهتروا استهتاراً، ونظرة في كتاب الأغاني وكتاب الحيوان للجاحظ تُريك ما كان هنالك من رغبة جامحة إلى اللهو، وتهافت على الملاهي والملذات، ونهمة للجياة الدنيا وأسبابها، وبهذه السيرة، وبهذه الأخلاق المنحطة، ومع هذا الانهماك في الملاهي لا تستطيع أمة أ تؤدي رسالة الإسلام، وأن تقوم في الدنيا مقام خلفاء الأنبياء، وتذكر بالله والآخرة وتحض على التقوى والدين، وأن تكون أسوة للناس في أخلاقها، بل لا تستطيع أن تتمتع بالحياة والحرية زمناً طويلاً: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً }.
سوء تمثيلهم للإسلام:
وكان هؤلاء في كل ما يأتون ويذرون ممثلين لأنفسهم وسياستهم فقط، لا يمثلون الإسلام، ولا سياسته الشرعية، لا قانونه الحربي، ولا نظامه المدني، ولا تعاليمه الأخلاقية إلا في النادر ففقدت رسالة الإسلام تأثيرها وقوتها في قلوب غير المسلمين وضعفت ثقتهم به. وفي لفظ مؤرخ أوربي- بدأ الإسلام بالانحطاط، لأن البشرية بدأت تشك في صدق القائمين بتمثيل الديانة الجديدة.
التخلص من أنواع الأثرة:
لقد أتى على العالم العربي عهد في التاريخ كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد – وهو شخص الخليفة أو الملك – أو حول حفنة من الرجال – هم الوزراء وأبناء الملك – وكانت البلاد تعتبر ملكاً شخصياً لذلك الفرد السعيد والأمة كلها فوجاً من المماليك والعبيد، ويتحكم في أموالهم وأملاكهم ونفوسهم وأغراضهم، ولم تكن الأمة التي كانت يحكم عليها إلا ظلاً لشخصه ولم تكن حياته إلا امتداداً لحياته.
لقد كانت الحياة تدور حول هذا الفرد بتاريخها وعلومها وآدابها وشعرها وانتاجها، فإذا استعرض أحد تاريخ هذا العهد أو أدب تلك الفترة من الزمان وجد هذه الشخصية تسيطر على الأمة أو المجتمع، كما تسيطر شجرة باسقة على الحشائش والشجيرات التي تنبت في ظلها وتمنعها من الشمس والهواء، كذلك تضمحل هذه الأمة في شخص هذا الفرد وتذوب فيه وتصبح أمة هزيلة لا شخصية لها ولا إرادة، ولا حرية لها ولا كرامة.
وكان هذا الفرد هو الذي تدور لأجله عجلة الحياة، فلأجله يتعب الفلاح ويشتغل التاجر ويجتهد الصانع، ويؤلف المؤلف وينظم الشاعر، ولأجله تلد الأمهات، وفي سبيله يموت الرجال وتقاتل الجيوش، بل ولأجله تلفظ الأرض خزائنها ويقذف البحر نفائسه وتستخرج كنوز الأرض خيراتها.
وكانت الأمة – وهي صاحبة الإنتاج وصاحبة الفضل في هذه الرفاهية كلها- تعيش عيش الصعاليك، أو الأرقاء المماليك، وقد تسعد بفتات مائدة الملك وبما يفضل عن حاشيته فتشكر، وقد تُحرم ذلك أيضاً فتصبر، وقد تموت فيها الإنسانية فلا تنكر شيئاً بل تتسابق في التزلف وانتهاز الفرص.
هذا هو العهد الذي ازدهر في الشرق طويلاً وترك رواسب في حياة هذه الأمة ونفوسها وفي أدبها وشعرها، وأخلاقها واجتماعاتها، وخلّف آثاراً باقية في المكتبة العربية، ومن هذه الآثار الناطقة كتاب (ألف ليلة وليلة) الذي يصور ذلك العهد تصويراً بارعاً، يوم كان الخليفة في بغداد أو الملك في دمشق أو القاهرة، هو كل شيء، وبطل رواية الحياة ومركز الدائرة إن هذا العهد الذي يمثله كتاب (ألف ليلة وليلة) بأساطيره وقصصه، وكتاب الأغاني بتاريخه وأدبه، لم يكن عهداً إسلامياً، ولا عهداً طبيعياً معقولاً، فلا يرضاه الإسلام ولا يقرّه العقل، بل إنما جاء الإسلام بهدمه والقضاء عليه، فقد كان هذا هو العهد الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم فسماه الجاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه – ككسرى وقيصر – وعلى أثرتهم وترفهم أشد الإنكار.
إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان وفي أي زمان ولا سبيل إليه إلا إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها أم مصابة في عقلها أو فاقد الوعي والشعور أو ميتة النفس والروح.
إن هذا الوضع لا يقره عقل، ومن الذي يسوّغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع الطعام والشراب ويموت آلاف جوعاً ومسبغة، ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك أو أبناء ملك بالمال عيث المجانين، والناس لا يجدون من القوت ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر جسمهم، ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة – وهي الكثرة – الإنتاج وحده والكدح في الحياة والعمل المضني الذي لا نهاية له، وحظ طبقة – وهي لا تجاوز عدد الأصابع – إلا التلهي بثمرات تعب الطبقة الأولى من غير شكر وتقدير وفي غير عقل ووعي، ومن الذي يسوغ أن يشقى أهل الصناعة وأهل الذكاء وأهل الاجتهاد وأهل المواهب وأهل الصلاح، وينعم رجال لا يحسنون غير التبذير ولا يعرفون صناعة غير صناعة الفجور وشرب الخمور ؟! ومن الذي يسوغ أن تُجفى أهل الكفاية وأهل النبوغ وأهلا الأمانة ويقصوا كالمنبوذين ويجتمع حول ملك أو أمير فوج من خساس النفوس وسخفاء العقول وفاقدي الضمائر ممن لا همَّ لهم إلا ابتزاز الأموال وإرضاء الشهوات، ولا يحسنون فناً من فنون الدنيا غير التملق والإطراء والمؤامرة ضد الأبرياء، ولا يتصفون بشيء غير فقدان الشعور وقلة الحياء.
إنه وضع شاذ لا ينبغي أن يبقى يوماً فضلاً عن أن يبقى أعواماً.
إنه إن سبق في عهد من عهود التاريخ وبقي مدة طويلة فقد كان ذلك على غفلة من الأمة أو على الرغم منها، وبسبب ضعف الإسلام وقوة الجاهلية، ولكنه خليق بأن ينهار ويتداعى كلما أشرقت شمس الإسلام واستيقظ الوعي وهبت الأمة تحاسب نفسها وأفرادها.
فالذين لا يزالون يعيشون في عالم (ألف ليلة وليلة) إنما يعيشون في عالم الأحلام، إنما يعيشون في بيت أوهن من بيت العنكبوت، إنما يعيشون في بيت مهدد بالأخطار لا يدرون متى يكبس، ولا يدرون متى تعمل فيه معاول الهدم، وإن سلموا من كل هذا فلا يدرون متى يخر عليهم السقف من فوقهم فإنه بيت قائم على غير أساس متين وعلى غير دعائم قوية.
ألا إن عهد ألف ليلة وليلة قد مضى فلا يخدعنّ أقوام أنفسهم ولا يربطوا نفوسهم يعجلة قد تكسرت وتحطمت، إن الملوكية مصباح – إن جاز هذا التعبير – قد نفذ زيته واحترقت فتيلته، فهو إلا إنطفاء عاجل ولو لم تهب عاصفة.
إنه لا مجل في الإسلام لأي نوع من أنواع الأثرة، إنه لا محل فيه للأثرة الفردية أو العائلية التي نراها في بعض الأمم الشرقية والأقطار الإسلامية ولا محل فيه للأثرة المنظمة التي نراها في أوربا وأمريكا وفي روسيا، فهي في أوربا أثرة حزب من الأحزاب، وفي أمريكا أثرة الرأسماليين، وفي روسيا قلة آمنت بالشيوعية المتطرفة وفرضت نفسها على الكثرة وهي تعامل العمال والمعتقلين بقسوة نادرة ووحشية ربما لا يوجد لها نظير في تاريخ السخرة الظالمة.
إن الأثرة يجمع أنواعها ستنتهي وإن الإنسانية ستثور عليها وتنتقم منها انتقاماً شديداً، إنه لا مستقبل في العالم إلا للإسلام السمح العادل الوسط وإن طال أجل هذه (الأثرات) وأرخي لها العنان وتمادت في غيها وطغيانها مدة من الزمان.
إن الأثرة – فردية كانت أو عائلية أو حزبية أو طبقية – غير طبيعية في حياة الأمة وإنها تتخلص منها في أول فرصة إنه لا محل لها في الإسلام ولا محل لها في مجتمع واع بلغ الرشد ولا أمل في استمرارها ؛ فخير للمسلمين وخير للعرب وخير لقادتهم وولاة أمورهم أن يخلصوا أنفسهم منها ويقطعوا صلتهم بها قبل أن تغرق فيغرقوا معها.
إيجاد الوعي في الأمة:
إن أخوف ما يخاف على أمة ويعرضها لكل خطر ويجعلها فريسة للمنافقين ولعبة للعابثين هو فقدان الوعي في هذه الأمة، وافتتانها بكل دعوة واندفاعها إلى كل موجة وخضوعها لكل متسلط وسكونها على كل فظيعة وتحملها لكل ضيم، وأن لا تعقل الأمور ولا تضعها في مواضعها لكل ضيم، وأن لا تعقل الأمور ولا تضعها في مواضعها ولا تميز بين الصديق والعدو وبين الناصح والغاش وأن تلدغ من جحر مرة بعد مرة ولا تنصحها الحوادث، ولا تروعها التجارب، ولا تنتفع بالكوارث، ولا تزال تولي قيادها من جربت عليه الغش والخديعة والخيانة والأثرة والأنانية، ولا تزال تضع ثقتها فيه وتمكنه من نفسها وأموالها وأعراضها ومفاتيح ملكها وتنسى سريعاً ما لاقت على يده الخسائر والنكبات فيجترئ بذلك السياسيون المحترفون، والقادة الخائنون ويأمنون سخط الأمة ومحاسبتها ويتمادون في غيهم ويسترسلون في خياناتهم وعبثهم ثقة ببلاهة الأمة وسذاجة الشعب وفقدان الوعي.
إن الشعوب الإسلامية والبلاد العربية – مع الأسف – ضعيفة الوعي – إذا تحرجنا أن نقول: فاقدة الوعي – فهي لا تعرف صديقها من عدوها ولا تزال تعاملها معاملة سواء أو تعامل العدو أحسن مما تعامل الصديق الناصح وقد يكون الصديق في تعب وجهاد معها طول حياته بخلاف العدو، ولا تزال تلدغ من جحر واحد ألف مرة ولا تعتبر بالحوادث والتجارب، وهي ضعيفة الذاكرة سريعة النسيان تنسى ماضي الزعماء والقادة، وتنسى الحوادث القريبة والبعيدة، وهي ضعيفة في الوعي الاجتماعي وأضعف في الوعي السياسي، وذلك ما جر عليها وبلاً عظيماً وشقاء كبيراً وسلط عليها القيادة الزائفة وفضحها في كل معركة.
إن الأمم الأوربية – برغم إفلاسها في الروح والأخلاق وبرغم عيوبها الكثيرة التي بحثنا عنها في هذا الكتاب – قوية الوعي المدني والسياسي – قد بلغت سن الرشد في السياسة، وأصبحت تعرف نفعها من ضررها، وتميز بين الناصح والخادع، وبين المخلص والمنافق، وبين الكفؤ والعاجز، فلا تولي قيادها إلا الأكفاء الأقوياء الأمناء، ثم لا توليهم أمورهم إلا على حذر، فإذا رأت منهم عجزاً أو خيانة أو رأت أنهم مثلوا دورهم وانتهوا من أمرهم استغنت عنهم وأبدلت بهم رجالاً أقوى منهم وأعظم كفاءة وأجدر بالموقف، ولم يمنعها من إقالتهم أو إقصائهم من الحكم ماضيهم الرائع وأعمالهم الجليلة وانتصارهم في حرب، أو نجاحهم في قضية وبذلك أمنت السياسيين المحترفين، والقيادة الضعيفة أو الخائنة، وخوف ذلك الزعماء ورجال الحكم وكانوا حذرين ساهرين يخافون رقابة الأمة وعقابها وبطش الرأي العام.
فمن أعظم ما تخدم به هذه الأمة وتؤمن من المهازل والمآسي التي لا تكاد تنتهي هو إيجاد الوعي في طبقاتها ودهمائها وتربية الجماهير التربية العقلية والمدنية والسياسية، ولا يخفى أن الوعي غير فشو التعليم وزوال الأمية وإن كانت هذه الأخيرة من أنجح وسائلها، وليعرف الزعماء السياسيون والقادة أن الأمة التي يعوزها الوعي غير جديرة بالثقة ولا تبعث حالتها على الارتياح وإن أطرت الزعامة والزعماء وقدستهم فإنها – ما دامت ضعيفة الوعي – عرضة لكل دعاية وتهريج وسخرية كريشة في فلاة تلعب بها الرياح ولا نستقر في مكان.