الإمارة الإسلامية، ورسائل الذكرى الأولى لاندحار الغزاة عن أفغانستان
د. نائل بن غازي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، أما بعد/ في تصريح على لسان (الملا عبد الغني برادر آخوند –حفظه الله- نائب رئيس وزراء إمارة أفغانستان الإسلامية للشؤون الاقتصادية) وفيه: “المجتمع الدولي لم يبنِ بلادنا؛ بل قام بتدمير أكثره، ونحن الآن نقوم ببناء بلادنا بأنفسنا، إننا لا نرفض المساعدة من أحد بل ونشكرهم على ذلك. لكننا لا نمد يد الذل والفقر لأحد، لأن بلادنا غنية بثروات طبيعية قلّ أن يوجد لها مثيل في العالم، وإننا –بفضل الله- سنحل جميع مشاكل مواطنينا. وإنني أنادي من هذا المقام جميع المسؤولين بأن يقدموا مصالح الشعب على مصالحهم الشخصية، وأن يسعوا قدر الإمكان في حل مشاكلهم” ا.هــــ
جاء التصريح بهذه اللغة الصادقة خافضة الجناح للأفغانيين، ملؤها عميق النظر، وواسع الإعذار، وشرح الواقع بأيسر عبارة وأوضح تركيب، قد حمل معه رسائل تجلية الحقيقة وبرهان التمايز بين أهداف الغزاة، وغايات الفاتحين. لعل التصريح جاء في وقته ونحن على أعتاب الذكرى الأولى لهزيمة الغزاة، وانكسار حملات الغزو الغربي على البلد الطيب أفغانستان، نتلمس في الذكرى رسائل الإمارة الإسلامية –حفظها الله- بعد عام من التمكين، وإعلان الانتصار المبارك على حشود الغزاة وعلى لسان زعمائه أولاً في قلعة الغطرسة “البيت الأبيض” بعد مسيرة العشرين سنة من الجهاد والنزاع، والمقاومة والقراع، وعلو الإمارة على مشاريع الغزو الممنهج العسكري والسياسي والثقافي والاقتصادي.
إن من أبرز رسائل هذه المدرسة المباركة، والتي تمثل منهاجا يُربى عليه الجيل، ويُتلمسُ آثاره في مسيرة الجهاد، والبحث عن سبل التحرير والتمكين:
■ الرسالة الأولى: إخلاص النية لله والمصابرة على الطريق.
لقد خاضت الإمارة جهادها المبارك ضد جحافل الغزاة على تنوع ألسنتهم وأشكالهم وكُتب له النصر والغلبة والتمكين، لشريف ما حملت من غايات، وخالص ما حوت من نيات، فلم تقاتل لغير الله، ولم تنتصر لغير دين الله تعالى، ولم تتحمل إلا لله، سلاحها الأساس: يقينها بصدق الطريق وصوابية السبيل وزادها فيه: إخلاص النية لله وحده، ووقودها فيه: صبر على لأوائه، ومصابرة على مرّه، ومرابطة على حبس النفس فيه من غير تبديل، فخاضت مع الغزاة معركة الصبر فكان سلاحها الاستراتيجي، تقاتل في الميدان صبراً، ويتلقى عدوها القتل قهراً، تراهن على قلة تحمله، ونفاد صبره، حتى كان لها ما أرادت، فكبت الله عدوه إذ يقاتل في سبيل الشيطان، ونصر الله جنده إذ يخلصون في جهادهم لله وحده.
■ الرسالة الثانية: صدق التوكل وملازمة الإعداد.
إن من دلائل التوفيق في مقارعة الغزاة، ومحاربة احتلالهم، توكل الإمارة الإسلامية –حفظها الله- على الله تعالى، باتخاذ الأسباب الشرعية المبلغة غاية النصر، المتمثلة: بالإعداد توكلاً، فلم تركن لراحة، ولم تستجب لدعة، ولم تعرف ميلاً لشهوة، ولم تستجب لدعوة تخذيل، إنما توسلت لبلوغ الغاية الشريفة السبيل الطاهرة توكلاً على الله، ملبية نداء الحق استسلاماً “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ” [الأنفال: 60] يتلمسون وعد الله بالإحاطة “وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ” [الأنفال: 59]، فكتب الله لهم النصر إذ أحسنوا التوكل عليه، فلم يتركوا سلاحهم، ولم يغفلوا عن معركة الإعداد ومواكبتها لتطور الميدان ولوازمه.
■ الرسالة الثالثة: جهاد واعٍ جمع بين وضوح الراية وسلامة الوسيلة وشريف الهدف.
لم يكن الجهاد الأفغاني جهاداً مرتبطاً بإجرام، أو طالباً لمغانم أرضية، أو ساعياً بإفساد، أو ارتجالياً جاء كردة فعل فحمل معاني الانتقام، إنما جاء الجهاد الأفغاني المبارك يحمل رسالة إسلامية سامية جمعت بين: طهر الوسيلة، وشرعي الغاية، وسلامة القصد، وشريف السلاح، ووضوح الهدف، فلم يتطلخ بدم معصوم، ولم يسعَ لانتقام، ولم يتشوف لإراقة الدماء البريئة، ولم يكن قاطع طريق. رسالته في ذلك: نحن بقية القرون الأولى لا هم لنا إلا تحرير الإنسان من أغلال الاستعباد الغربي، ورفع يده عن مقدرات البلاد، وتعبيد الخلق لله، ليكونوا أحراراً على أرضهم، كراماً تحت سمائها، ينعمون بظلال حكم الشريعة، يرفعون لواءها. فانتصرت الإمارة في معركة المبادئ، كما انتصرت في معركة قعقعة السلاح، فكانت رسالتها للجيل: الجهاد ذو رسالة سامية، نقية طاهرة، لن يعكر طهرها غارات التشويه، ولن يحجب حقيقتها غرابيل الكذب والافتراء، ولن يوقف مسيرتها نحو التمكين صرخات التخذيل والإرجاف.
■ الرسالة الرابعة: لا رأي للحق الضعيف ولا صدى والرأي رأي القاهر الغلاب.
في ذكرى هزيمة التحالف، أثبتت الوقائع أن قادة الإمارة الإسلامية –حفظها الله- قد حطموا منظومة التصور السطحي عنهم، فلم يكونوا مجرد ثائرين تقودهم عاطفة التخلص من ذخيرة السلاح للتنفيس النفسي، وإنما كانوا قادة ميدان بارعين مذهلين فيه كما برعوا في ميادين الحكم والسياسة.
سعت الإمارة لمنع الغزو ورفضت مبرراته، وضيقت على الغزاة مضائق تشريعه، فلما تعينت وقائعه، خاضت الإمارة الإسلامية معركة المصير مع الغزاة وخاطبته باللغة التي يفهم، فاستنزلته ميادين مدروسة، وصادمت إرهابه بالإرهاب، فاستنزفت قوته، وبددت ماله، وهزت اقتصاده، حتى فرضت عليه شروط النصر وأجبرته على تلاوة بيان الهزيمة النكراء.
في رسالة التعليم للجيل وطلاب الحق: أن الرأي رأي القاهر الغلاب، ولا عدل إلا إذا تعادلت القوة؛ وتصادم الإرهاب بالإرهاب.
■ الرسالة الخامسة: لا يضيع حق تحميه قوة وتسعى إليه رماح المجاهدين.
عولت ماكنة الغزو الاجنبي على أفغانستان على تمييع الحق الأفغاني في الحرية والخلاص، وأن الغزاة قوة لا يمكن قهرها، وأنها تمارس الوصاية القاهرة بحد السلاح، وأن الحقوق الأفغانية هي التي تجود بها المنظومة الأمريكية، وأن الأظافر الأفغانية غدت ناعمة لا قوة فيها يمكن أن تمنع التغول الأجنبي على الدين والثقافة والمقدرات، فقابلت الإمارة الإسلامية صلف الغزاة بالثبات، ومقارعته –عسكرياً وثقافياً وسياسياً- صباح مساء، وعلى كل ذرة تراب، فنالت منه في مواقع كثيرة، وقهرت كبره في نوازل كثيرة، وأجبرته على إعادة الحسابات، ومراجعة التقديرات، انتهاءً بترك البلاد وإنزال العلم الاحتلالي، والتسليم لقوة السلاح المؤمن الطامس زيف التغريب، الكانس زبالات المسارعين فيهم، فعاد الحق إلى نصابه، وصوبت رماح المجاهدين مسيرة التغيير، وردتها لأصالة نبعها المستمد من الكتاب والسنة، وحررت العقول من خرافة زخرف الثقافة الغربية، واحتضنت الأرض أبناءها، وسيج حمى حقها قوةُ الحق، ورسالةُ العدل.
■ الرسالة السادسة: ضريبة العز أهون من ضريبة الذل.
عام على إعلان هزيمة الغزاة على أفغانستان، حمل معه رسالة القاعدة الربانية، والسنة الإلهية المطردة التي لا تتغير ولا تتبدل “إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا” [النساء: 104] فقد ذهب ظمأ الإذلال، وثبت أجر الغلبة، ودارت على الباغي دائرة القصاص، ففاز أولياء الله، وهزم أعداء الله، وباء المسارعون فيه بالخيبة، فلم يكن بين الغزو واندحاره إلا ساعة الصبر على ضريبة العز، فراراً من قهر أبدي لضريبة الذل، فليسوا سواءً، من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا استجابة لنداء الحق، فكانت ميتته شهادة، وسجنه محطة إعداد واستراحة مقاتل، فكُتب أجره على كل حاله، وبين من سعى في الغزاة لهثاً خلف لعاعات الدنيا، فانتهى به المطاف قتيلاً لشهوته، أو أسيراً لمطامعه، فلم يصب ما تمنى، ولا حاز ما كان يؤمل، حتى اجتاحته قوافل العز، فتوشح وشاح الذل والهزيمة. ليس الذي يقاتل طمعاً في تثبيت أركان الهوية الإسلامية – وإن لقي في سبيلها ما لاقى حمزة بن عبد المطلب- كالذي ارتضى أن يستجيب لنداءات سلخ الشعب الأفغاني عن دينه وهويته وامتطى لذلك أتون الطمع على ذلة. مضت المطامع واندحر الغزاة وباء المجاهدون بالعز على قمم الحق، ولم يرجع القاعدون والمسارعون في الغزاة إلا بحسرة فوات المشاركة في هذه المسيرة الجهادية المباركة استثقالاً لضريبة العز، وطمعاً في الأدنى على ذل.
■ الرسالة السابعة: جهاد ملؤه الرحمة والعفو.
وضعت الحرب العسكرية أوزارها، وبسطت الإمارة الإسلامية – حفظها الله- نفوذها واستقر لها الأمر، فخاضت معركة نشر هضم الحق على عتبات التسامح والعفو والصفح الجميل، ورفعت لواء المنهج الرباني القويم، فلم تنتصر لذاتها المهضومة المضطهدة على مقصلة الغزاة وأعوانهم مسيرة عشرين سنة من الاحتلال، فصفحت وعفت، وفتحت يدها لكل راغب في المشاركة في مسيرة البناء، ودعت المخالف لكلمة سواء قوامها: تغليب مصالح الشعب الأفغاني على كل مصلحة شخصية، فاستقبلت وفود العائدين من الوزراء السابقين بل والضباط الذين شاركوا في محاربة الإمارة إبان الغزو الأجنبي على البلاد، والتحقيق مع قادتها، في رسالة سامية تعلو بها الرحمة والعفو على معاني الانتقام والتشفي الضيقة، فلم تعرف الإمارة –بعد الفتح المبين- للتنكيل أو القهر، أو التسلط سبيلاً، كأنها برسالة العفو والصفح والرحمة كتاب مفتوح ممهور بوسم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم، وهذه بلدكم تحتاج كل طاقة لاستكمال مسيرة البناء على قاعدة من رحمة القادر، وعفو المتمكن، فلم يكن الجهاد الأول إلا طريقاً لتحرير النفوس قبل تحرير الأرض، ولم تكن الإمارة لتستعبد رعيتها وخاصة شأنها.
■ الرسالة الثامنة: سياسة لا تتنازل عن الثوابت، ولا تعاند الواقع.
ضربت الإمارة الإسلامية أروع الأمثلة السياسية في التعامل مع الواقع معاملة متزنة من غير طغيان جانب المصالح غير المعتبرة أو إهمال الواقع ومعاندة اضطراباته. فوازنت الإمارة الإسلامية بين المؤمل والممكن المتاح، فلم تفرط في الثوابت، ولم تركن لضغط الواقع، ولم تأبه بالضغوطات الساعية للمقايضة على حساب المبادئ والأصول الثابتة التي لا تقبل المقابلة بغيرها. كما أنها كانت واقعية في سياساتها فلم تسرح في فضاءات الخطط غير الواقعية، ولم تعاند الواقع معاندة غير الخبير بسياساته وتحالفاته وتقاطع مصالحه. أتقنت الإمارة إدارة الملفات السياسية الداخلية والخارجية، وفوتت فرص الوقيعة بين مكونات الشعب الأفغاني على أساس عرقي أو طائفي، فأعطت كل ذي حق حقه في حدود الأطر المسموح بها في الشريعة الإسلامية، وهي مع ذلك لم تغفل قضايا الأمة الإسلامية فسجلت حضوراً قوياً، وهي تعرف عن نفسها كجزء مؤثر في المنظومة الدولية لها سياساتها الواضحة ومفارقاتها الجلية، فلم تختلط السبل، ولم تطغَ جلبة الباطل على خصوصية القرار الأفغاني وتميزه، فاستعلت الإمارة الإسلامية بهويتها، ولم تستفزها جولات النصر لإغفال عميق النظر للواقع وسياساته.
■ الرسالة التاسعة: نظافة يد، ودعوة إيثار.
بعد عام من هزيمة المحتل واندحاره، خاضت الإمارة الإسلامية معركة بناء الإنسان والوطن، وتجشمت عناء إدارة بقايا الاقتصاد المنهوب المسلوب، رغم شح الإمكانات، والحصار المضروب على الاقتصاد الأفغاني، وتجميد الأصول الأفغانية في البنك الدولي استجابة للدعوات الغربية المبتزة للإمارة الإسلامية طمعاً في الترويض، وشراء المواقف، فحملت الإمارة الإسلامية أمانة انتشال الشعب الأفغاني من وحل الفقر، وفكت عنه أغلال الإغراق في وحل سياسة تغييب العقل، وتحركت آلة البناء، وشق المشاريع، فاستثمرت المتاح من الإمكانات والثروات الطبيعية، وردت المال المسلوب لخزائن الإمارة كرصيد للشعب الأفغاني، وقدمته في العطية، وهي في كل ذلك لم تخص نفسها ومجاهديها -الذين تحملوا ويلات الحروب وسياسة الإقصاء والملاحقة- بشيء عن الشعب الأفغاني، فلم يتمايز أمراؤها عن الناس باستئثار شيء مخصوص، بل إنك لا تكاد تميز الأمراء عن الناس في مجالسهم، ولم توصد الأبواب دون مظالم الناس وسماع همومهم، فأقامت في الناس سيرة العدل على الكبير والصغير، والمسئول والعامي، فكانت إمارة حق وعدل. الإمارة الإسلامية مدرسة تستحق الدراسة قبل الإشادة، فقد مثلت الصعب في عالم المستحيل، وقدمت أنموذجاً رائعاً في الحكم والسياسة، وحافظت مع ذلك كله على شريف الغاية، وطهارة الوسيلة، فجزى الله أميرها عن المسلمين خيراً، ووفقه وإمارته لما فيه خير البلاد والعباد. والحمد لله رب العالمين.