الإمارة الإسلامية والتصريحات الأخيرة للرئيس بوتين
محمد صادق الرافعي
إنّ مما أصبح عيانًا للجميع هو أنّ أفغانستان اليوم تختلف تمامًا عن أفغانستان الماضية، يحكمها أبناؤها الحقيقيون الذين لم يألوا جهدًا في تطهيرها من دنس الاحتلال والفساد والفوضى، ولم يقصروا ولم يفتروا في بسط العدل والقسط قدر المستطاع، ولاتزال المساعي على قدم وساقٍ، وهم لا يعرفون الكلل والملل، ولا يشعرون بالكسل والفتور، منذ الاحتلال السوفييتي ومرورًا بالحرب الأهلية وانتهاءًا بالاحتلال الأمريكي.
وهم كما برزوا في ميادين النضال بالأمس يبرزون اليوم في الساحة السياسة والدبلوماسية. عادوا لغرض سامٍ جدًا، لمهمة طال بها عهد الأفغان وتشاغلت عنها الحكومات السابقة حتى نسوها؛ جاءوا لقطع دابر من يريد خراب أفغانستان ودمارها ويطمع في خيراتها وثرواتها، بينما الحكومات السابقة العميلة كانت وليدة أغراض الطامعين ورهينة أهدافهم.
الخبر الذي فاجأ العالم بأكمله وجعل السياسيين الغربيين يخوضون في بحر الدهشة والحيرة هو ما تداوله الإعلام على لسان فلاديمير بوتين رئيس جمهورية روسيا الذي أعلن فيه عن اعتزامه لإزالة اسم الإمارة الإسلامية من قائمة بلاده السوداء. مضيفًا: أنّ الإمارة الإسلامية هي واقع أفغانستان اليوم، وأنّها هي الحاكمة عليها، وأنّ بلاده لا ترى خطرًا في سيطرة طالبان على أفغانستان.
وأعلن بوتين أيضًا دعمه لعضوية أفغانستان في منظمة شانغهاي للتعاون. وقال زامير كابولوف، الممثل الخاص للرئيس الروسي لأفغانستان، في مؤتمر صحفي: إن موسكو تدعم عضوية أفغانستان في منظمة شانغهاي للتعاون. وتعتبر هذه المنظمة التي أنشأتها دول إقليمية من بينها روسيا والصين، منظمة مهمة على المستوى الإقليمي في مجال التعاون السياسي والاقتصادي.
إن الإمارة الإسلامية، بصفتها حكومة مستقلة، رحّبت بمحاولة روسيا هذه وترحّب بكل محاولة تصبّ في مصلحة الشعب الأفغاني. كما أعلنت، قديمًا وحديثًا، أنّها ترحّب بأي مبادرة تعود بالنفع لأفغانستان وللمنطقة وللعالم بأكمله.
يأتي هذا في حين أنّ روسيا وقوّاتها العسكرية خاضت حرباً مع أوكرانيا، وحمى بينهما وطيس الحرب وتمادت بها وربما تعقّد الأمر على روسيا وعلى من يتبعها في السياسة، فهي في حاجة ماسة إلى أفغانستان وموقعها السياسي والاستراتيجي. فروسيا في هذه الحرب؛ في حرب مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، والتاريخ يُعيد نفسه! فكما عملت أمريكا في الماضي ضدها؛ فروسيا اليوم تعمل ضد أمريكا، وهذه لعبة سياسية تحيى فيها المنافسات القديمة بين القوى المتنافسة في الحرب الباردة.
هذه التصريحات من الرئيس بوتين تؤكد بأنّ زمان العمل من خلف الكواليس الذي اتّخذته كثير من الدول كسياسة لبلادها بشأن أفغانستان؛ قد انقضى، ولابدّ من مواجهة الواقع وجهًا لوجه والتعامل معه كما هو.
كما تحمل هذه التصريحات رسالة من إحدى الدول الكبرى إلى العالم، خاصة العالم الغربي، بأنّ السياسات التي اُتخذت من قبل الاتحاد السوفييتي أو من التحالف الأمريكي ضد أفغانستان في السنوات الماضية كانت خاطئة وفاشلة، وأنه حان الوقت لاتخاذ السياسة الحقيقية بشأنها. وأنّ العالم لابد له أن ينظر إلى أفغانستان عن كثب، ويحلل ما يجري على ساحتها عن قرب ولا يستمع إلى ما ينشره الإعلام زورًا وكذبًا، وأن لا يتخذ السياسة وفق المعلومات التي يحصل عليها من خلال الإعلام، وهو ما قد يكون خطيرًا لأنّ الاعتماد الصرف على الإعلام في الشؤون الدولية -دون أي تحقق- يمنع من الوقوف على الحقائق الموجودة، ونتيجة لذلك ربما يتم اتخاذ قرار لا يستند إلى الواقع.
إنّ روسيا تخطو خطوات مستقلة ممّا عليه الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى، ولن ترضى أبدًا أن تعود هذه الدولة وتلك الدولة مرة أخرى إلى أسيا الوسطى من خلال توسيع نفوذها في أفغانستان أو من خلال التسلل في البلاد المجاورة لأفغانستان، التي كانت أجزاء للاتحاد السوفييتي سابقا وروسيا حاليًا، وقد ذاقت هي وأفغانستان والدول المجاورة مراراتها وعايشت تجربة مماثلة.
الحال في أفغانستان اليوم تبدّل عما كان علیه قبل سنوات، والإمارة الإسلامية هي الواقع فيها اليوم. والواقع هو الذي عيّن السياسات وغيّر مجرى الاتجاهات والدول. وروسيا أدركت الأمر بالجد وتتبع السياسة الواقعية ووضع مصالحها الوطنية أمامها، وهو ما تعتقد الإمارة الإسلامية أنه عقلاني ومتوقع منها. وأدركت كذلك أنّ الإمارة الإسلامية هي الحكومة المستقلة في أفغانستان اليوم والتي يرأسها أبناؤها الحقيقيون؛ وهذا اعتراف غير رسمي بالحكومة، وسيؤدي إلى الاعتراف الرسمي بإذن الله، كما أنه اعتراف بأنّ السياسات المتخذة ضدها -قبل ذلك- كانت خاطئة لا طائل من ورائها، وأنّ على العالم أن يتعامل معها كدولة رسمية.
إلى جانب ما سبق، فإنّ أفغانستان تتمتع بموقع استراتيجي مهم في المنطقة وفي آسيا الوسطى، التي روسيا جزء لا ینفك منها فتتضرر بأضرارها وتنتفع بمنافعها. وممّا زاد أهمية هذا الأمر؛ هو أنّ أفغانستان تُعدّ قلب آسيا فهي الرابط الذي يربط شرق وغرب وجنوب ووسط آسيا، والجسر الذي يصل آسيا الوسطى بالمياه الدافئة والمحيط الهندي. كما أن التفوق الإقليمي وخلق الأمن الحازم؛ منع الهيمنة الأمريكية والدول التابعة لها على المنطقة. فهل يمكن لدولة التغافل عن أهمية أفغانستان وموقعها السياسي والاستراتيجي وتأثيرها الجذري في السياسة والاقتصاد والأحداث العالمية؟
ومما لا شك فيه أنّ الإمارة الإسلامية منذ استعادتها الحكم، قامت بإرساء الأمن الشامل في البلاد ووُضعت في بوتقة الامتحان ونجحت بحمد الله، وأظهرت للعالم بأنّ أفغانستان صارت آمنة أكثر من أي وقت مضى، ویجب علی العالم بأن يغيّر سياساته تجاه أفغانستان. وموقف روسيا هذا سيكون مبدأ الطريق الذي لابد أن يسلكه العالم -بما فيه الدول والتيارات والجماعات- ويستغل موقعها الاستراتيجي في التجارة والاقتصاد.
هل ينكر أحد أنّ الإمارة الإسلامية، بجهادها المستمرّ، أخرجت أمريكا من أرض أفغانستان، بل وطوت بساط نفوذها من الشرق الأوسط ومن آسيا الوسطى؟
فحقيق بهذه الدول أن تشكر الإمارة الإسلامية وتقوم بخطوات إيجابية نحو السلام والأمن والاستقرار والاعتراف بالحكومة الأفغانية الحالية.
ومع الأسف الشديد، فإنّ هناك فكرة متحيزة مفادها أنّ أمن الدول المجاورة يكون في زعزعة أفغانستان وعدم استقرارها! فكانت السياسات والمواقف تدور على هذا المحور ولا تتخطاه، وكأن وحي نزل في ذلك ولن تتغير أبدًا!
مضت ثلاث سنوات على انتصار الإمارة الإسلامية وتوليها مقاليد الحكم، ولم نجد شيئًا يؤذي أهل الجوار من تدخل أو توغل. ورغم ذلك، نقف بين فينة وأخرى على تصريحات غیر مدروسة مبنية بغير دليل من قبل مسؤولي هذه الدول، ومن العجب العجاب أنهم يسعون إلى اتهام الدول الأخرى للتغطية على سياساتهم الخاطئة الفاشلة. وبدا لافتًا أنّهم يتبعون النهج المتحيز ولا يعيدون النظر فيه، وكأنّ أمامهم خيارٌ صعبٌ لا بديل له.
وممّا لابد أن نذكره في خاتمة هذا المقال أنّ العالم بأكمله من الشرق والغرب يحتاج إلى أفغانستان وإلى موقعها السياسي والاستراتيجي والجغرافي، وهذا شيء واضح للجميع ولا مجاملة فيه. وكل دولة، سواء في المنطقة أو غيرها، تبحث عن موقع لها في أفغانستان سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وللوصول إلى منشودهم في أفغانستان سلكوا الطرق كلها وجرّبوا كافة السبل؛ بدءًا من تحريف الرأي العام والتضليل، مرورًا بالتدخلات الفكرية والثقافية، وانتهاءً بالتدخلات العسكرية؛ كلها لم تجدِ نفعًا لا لأفغانستان ولا للدول الأخرى. وبقي طريق واحد لم يسلكه العالم وربما تجاهله، والذي لن يأتي إلا بالخير والسعادة ولن يعود على الجميع إلا بالسلم والسعة؛ وهو مواجهة الواقع والإقدام نحوه؛ وهذا ما أشار إليه الرئيس بوتين في تصريحاته الأخيرة. ونحن نأمل أن يدرك العالم الأمر، ويأخذ ذلك محمل الجد، ولا يتهرّب منه أكثر من ذلك. وليقف العالم لأول مرة على الجانب الصحيح من التاريخ بشأن أفغانستان.