الإمارة الإسلامية والوقوف في وجه التدخلات الأجنبية
صادق رحمتى
لم یعد بالمقدور إنکار حقيقة أن دول العالم كانت على مدى العقود الأربعة الأخيرة تتدخل في أفغانستان بشكل أو بآخر، مباشرة أو عن طريق عملائها وعناصرها، مستغلة الأزمات والاضطرابات السياسية والأمنية، وعدم وجود دولة مستقلة فیها. عمل مشين لا يمكن تبريره تحت أي ذرائع، والذي أظهر لنا أن المحاولات التي قامت بها هذه الدول، رغم الادعاءات الكاذبة المزخرفة، لم تكن أبداً لصالح الشعب الأفغاني ولا للمنطقة، بل أصبحت هذه التدخلات نفسها سببا رئيسيا للحروب والنزاعات في تلك المدة، وحصيلتها أن لا تنعم أفغانستان بالأمن الحقيقي وأن تتخلف عن عجلة التقدم والازدهار، رغم امتلاكها مقومات قيّمة في مجال التقدم.
ثم إن موقف هذه الدول لا يــزال أشــد وأعتى، ولا تزال ترفض الاعتراف بالإمارة الإسلامية كحكومة رسمية للبلاد، وتــأبــى انهيار غزوها الفكري في أرض الأفغان، بعد انهيار قواتها العسكرية، فهي لم تستسغ بعد انهزامها المرير. تتكلم برفق وهــدوء مع الإمارة الإسلامية في الظاهر، بينما تمسك عصاها الغليظة بيدها في الباطن. وموقف دول الجوار لا يختلف كثيرًا عن موقف دول العالم، ولكنه اختلاف في الشكل لا في المضمون، فهي -كبقية دول العالم- اتخذت موقفاً معادياً تجاه أفغانستان.
واستنادا إلى ما سبق، نجد الیوم أن هذه الدول -بما فیها الدول المجاورة- تتشدق مرة بعد أخرى بأن الإمارة الإسلامية لا يُعترف بها حتى تكون شاملة تشمل جميع الأقوام في أفغانستان. وتفسيرها للشمول أن يسهم كل واحد منهم في الحكم، سواء كان صالحاً أم فاسداً، وسواء صب هذا الأمر في مصالح البلاد أو لا، والجميع بدورهم يسعون في تضخيم هذا الأمر وتفخيمه، ويكبّرونه حسب ما تقتضيه منافعهم بصورة أو بأخرى. وهذه المشكلة (التدخلات الخارجية) لا يزال الشعب الأفغاني يعاني منها، ويكابد آثارها السلبية بأشكال مختلفة كالتخلف عن ركب التطور والتقنية، والفقر، والبطالة، والإجلاء والترحيل والاغتراب في أرجاء العالم، وتحديات أخرى. أضف إلى ذلك الحرمان من التعليم والارتقاء في مدارج العلوم والفنون وامتلاك حياة طيبة كسائر الشعوب.
ومسألة الحكومة الشاملة -بالتعريف الغربي- تُطرح على مستوى واسع وكأنها هي مشكلة أفغانستان الرئيسية، وبها تحل كافة المشاكل الموجودة في البلاد، وبها تسد منافذ جميع الخسائر والسلبيات. وكلما سنحت لأحد فرصة الحديث في شؤون أفغانستان، طفق يتطرق إلى موضوع الشمول المزيف المزور الذي لم يعد على شعب أفغانستان سوى بالأزمات والاضطرابات في مختلف المجالات.
إن إمارة أفغانستان الإسلامية ترفض التدخل في شؤون الآخرين بكل أشكاله وصوره، وتعتقد أن ذلك سبب رئيسي للأزمات التي تعانيها الدول والشعوب، وأن أفغانستان هي الأكثر تضررا منه في المنطقة، وترفص ذلك لاعتبارات، منها:
■ أولا: الأمر الذي تدعيه هذه الدول؛ تدخل بیّن في شؤون بلادنا، وهو محظور عقليا ودوليا، وجميع الدول -بما فيها هذه الدول- ترفض ذلك على بلادها، بل وتحذّر الجميع من إلقاء أي كلمة تحمل هذا المعنى فضلا عن أن يصرّحوا بها على مرأى ومسمع من الناس، ویعتبر هذا الأمر لديها من الخطوط الحمراء.
■ ثانيا: إن أفغانستان في العقدين الأخيرين، خبرت هذا الشمول ولا تزال تتجرع مرارته وتصطلي بنتائجه، بأشكال مختلفة. ثم أليس الشمول الذي تتحدثون عنه، قد أدى في أفغانستان إلى أن تواجد فيها رئيسا جمهورية في آن واحد، تحالفا في عاصمة واحدة على اكتساب أكبر منصب في البلاد، أحدهما في وادٍ والآخر في وادٍ؟ أينسى الشعب الأفغاني هذا المشهد الشائن الذي تحدى الديمقراطية الغربية بكل رموزها وأشكالها بما فيها هذا الشمول؟ هل تتحملون في بلادكم مشهدا مثل هذا المشهد؟ كلا وأبدا، الحقيقة أنكم لا تريدون الشمول، بل تريدون التناحر والتنافر وانعدام الأمن والاستقرار.
■ ثالثا: قضية الأقوام في أفغانستان التي تطرحونها بين فترة وأخرى، ليست شيئا جديدا أو طارئًا، بل كانت واقعا مُعاشا ولا يزال كذلك، أليست هذه الأقوام قبل عقود تتعايش في أفغانستان دون أي مشكلة، تحت قيادة واحدة، تعايشا سلميا لا يشوبه أي تحدٍ، بعيداً عما نجده اليوم.
■ رابعا: إن تنوع النسيج القومي ليس مقصورا على أفغانستان، بل هناك العديد من الدول يتعدد فيها النسيج القومي والمذهبي والعرقي؛ كإيران وباكستان، الدول المجاورة لأفغانستان، أو كالولايات المتحدة الأمريكية، حيث تواجدت فيها العرقيات والقوميات بأعداد كثيرة، ولم تعتبر مشكلة هناك، أما في أفغانستان فهي تعد مشكلة کبیرة ليس لحلها سبيل! وكأنها المشكلة الوحيدة التي لو حلت لأصبح كل شيء في أفغانستان على ما يرام!
■ خامسا: إن هذه الدول لا تريد أبداً دولة مستقلة تحت قيادة واحدة في أفغانستان، بل تريد أن تكون أفغانستان مقسمة بين القوميات، يشيع فيها التناحر والتنازع، لتبقى أفغانستان متخلفة خربة وتكون لكل هذه الدول مقرّ يستقرّون فيه لفرض سيطرتهم وبث سمومهم القاتلة، كما فُعِل بالعراق؛ قسموها حسب المذهبيات والقوميات، أو كما وقع في لبنان؛ قسموها بين المسيحية والشيعة والسنة، فهل نرى فيهما اليوم نعمة الاستقرار والهدوء وتطور الاقتصاد؟ وهل نمر مرور الكرام على ما حدث ويحدث في السودان وليبيا؛ كلما حان موعد الانتخابات فيهما، أخذت هذه الدول جانب الحزب الذي يمثلها ويراعي مصالحها، وربما تطول سلسلة الانتخابات دون نتيجة، ولا يطال شعوب تلك البلاد إلا الضرر.
لكن يبقى التساؤل المطروح: لماذا أفغانستان؟
والجواب كالآتي:
۱- إن الأمن والاستقرار في أفغانستان ليس من صالح هذه الدول. فأفغانستان تمتلك مقومات تجعلها -عند استتباب الأمن الدائم- قوة اقتصادية مصدرة في المنطقة والعالم، بدل أن تبقى بلادا مستهلكة للسلع الخارجية بأسعار مضاعفة، الأمر الذي يهدد منافع هذه الدول ومواردها اللاشرعية، وبالتالي سد جميع منافذ التدخلات والإملاءات الخارجية.
۲- لمناهضة قوة الإسلام التي تتنامى، ودعائمه موجودة في بلد كأفغانسنان، فشعبها شعب مؤمن لايزال متمسكاً بتقاليده الدينية والوطنية، ولم يتغير رغم هجمات القوى المختلفة على مر التاريخ.
٣- هناك العديد من الدول تتحرى دائماً فجوات خالية من أي استقلال سياسي لبسط نفوذها السياسي، واستغلال الاضطرابات لتنتعش سوق الأسلحة والتهريب، بالإضافة إلى نهب الثروات وسلب الخيرات. ومع الأسف قد تم سلب موارد أفغانستان في العقود الأربعة الأخيرة بشكل هائل.
٤- للتأثير الفكري والثقافي على الشعب الأفغاني. ولا يخفى أن التغلب على الفكر والثقافة هي بَوابة التغلب العسكري والسياسي والاقتصادي. ولهذه الدول يد طويلة في هذا الإطار.
٥- في بعض هذه الدول تكون هذه الادعاءات -أي ادعاءات عدم شمولية الحكومة في أفغانستان- نوع من الستار على الجرائم التي ترتكبها بشأن حقوق شعبها الأساسية، وسعيا منها إلى إخفاء هذه الانتهاكات وراء مثل هذه الادعاءات، حتى تنحرف الأذهان والرأي العام عن قضاياهم الداخلية.
٦- لبعض هذه الدول مصالح خفية تاتي من خلالها لبث سمومها المهلكة في أوساط الشعوب وفرض سيطرتها الفكرية والثقافية، وذلك من خلال الزج بشخصيات مزدوجة، موالية لها على الهيئة الحاكمة، لبث الأنشطة الإرهابية والمناهضة للأمن.
لتعلم دول الجوار والمنطقة بأن أفغانستان تسير في الإتجاه الصحيح، وبإمكانها -بإذن الله- أن تتغلب على كافة الصعوبات دون أي دعم من هذا وذاك، وأنها لا تحتاج إلى مساعدة أي بلد خارج الإطار المحدد في عالم الدبلوماسية والتعامل، وأن الشعب الأفغاني اكتسب تجاربا قيمة من ماضيه، وإنه متيقض ومدرك إدراكا دقيقاً لاحتياجاته وتطلعاته.
دعوا أفغانستان تتنفس بعد الأزمات التي وطأت عزتها، وكسرت شوكتها، وحطّمت مكانتها. ذروها تنتعش وتزدهر بعد فترة طويلة وصعبة، ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم ما أخذ أعداءها من خزي وذلة، وما أمريكا وحلفائها وعملائها عنكم ببعيد.
وإذا كان هذا الشمول هام إلى هذه الدرجة فلم لا تطبقونه أنتم؟ أليس المصباح الذي يحتاج إليه البيت، حرام للمسجد؟ لماذا لا تطبقون هذا الشمول في بلادكم، ممَ تخافون؟
نحن بدأنا نهجا وفــق إيماننا ورؤيتنا، ونعتقد بأن توسيع وتعميق الأواصر بين أفغانستان ودول الجوار، بمختلف العلاقات الثنائية، ومتعددة الأطراف، على صعيد العالم الاسلامي، وخارج إطار المنطقة، سيترك آثارا إيجابية لجميع الدول، ويعود بالنفع والازدهار على الجميع.
الغریب أن هذه التدخلات تأتي من قبل تلك الدول الغارقة في هذا التوصيف (عدم شمولية الحكم)، ونفس التهمة موجهة إليها، وليس لديها إستراتيجية لحلها! وغالب هذه الدول تحكم عليها قيادة واحدة؛ رجل واحد أو سلالة واحدة، ولم نجد لها شمولاً لا في الحكم ولا بث العدالة الاجتماعية، ولا في مكافحة العنصرية القومية والمذهبية، ولا تسمح لأحد أن يمسّ القيادة بكلمة أو خطاب أو يذكرها بسوء أو نقد، فهل من المعقول لهذه الدول أن تتدخل في أمور غيرها قبل حل الموضوع في بلادها؟!
إن من دول العالم ودول الجوار دولاً ليست شاملة، ومنها من يهضم حقوق الإنسان، ففي بعض الدول المجاورة تعقدت الأمور في قضية الشمول حتى أصبحت أزمة لا تملك سبل حلها، أوليس من المناسب أن يكون تركيزها على حل مشكلاتها الداخلية؟
والأسوأ من كل هذا، أن هذه الدول غضت الطرف عن جميع التغييرات الإيجابية التي حدثت في البلاد، وتجاهلت الإنجازات التي حققتها الإمارة الإسلامية في وقت قصير، رغم قلة ذات اليد ورغم الحصار. لعلّها بذلك ترید طمس الحقائق وتحریف الوقائع، ولا يهمها الإيجابيات التي تحققت على ساحة أفغانستان من الأمن الشامل الذي تنتفع به هذه الدول دون بذل مجهود أو طاقة أو مال في سبيل تحققه.
إيجابيات جعلت جميع الدول تقف على أصابع قدميها توتراً، وربما إعجاباً؛ فوسائل إعلامها لم تترك حصاة إلا وقلبتها وتفحّصتها بحثا وتنقيبا للتقليل مما تم إنجازه في أفغانستان من الإيجابيات التي أتت وتاتي خلاف التوقعات، فنأت عن الحقيقة، تجاهلاً أو ربما بغضاء، في حين أن الكثير منها التزم الصمت، ورجح السكوت.
لقد حانت الإلتفاتة إلى الواقع المعاش في أفغانستان، وأن السياسة المزدوجة الماضية والسياسة المعادية المتناقضة حالياً لن تغنيان عن الواقع شيئا. وعلى جميع الدول، خاصة الدول المجاورة، اتخاذ سياسة واضحة عادلة ملائمة للواقع الموجود في أفغانستان. فإن قضية دول الجوار تختلف عن الدول الأخرى لأن لها حق الجوار، والتوقعات منها أكثر للمنافع المشتركة والحدود المشتركة، سياسة مبنية على حسن الجوار وضمان أمن المنطقة وازدهارها، وحمايتها من التطرف وسائر التحديات والأزمات.
كما أن سياسة الإمارة الإسلامية تجاه دول المنطقة والعالم سياسة واضحة ليلها كنهارها، بعيدة عن الإزدواجية والتناقض والغموض، وهي تعتقد بأن السبيل الأكثر تأثيراً في التصدي للتطرف، هو احترام وحدة أراضي جميع الدول، وعدم التدخل في شؤونها.
وأرى أن الشعب الأفغاني وحّده الإسلام، ثم تقاليده المتقاربة المتناسقة، التي جعلت منه أمة واحدة بحيث لو دخلت قرية أو بلدة في أفغانستان، وفيها أخلاط من الناس، لا يمكنك التمييز بين البشتون أو الطاجيك أو البلوش أو الأوزبك أو غير ذلك، فإن المذهب واحد والتقاليد واحدة، والأزياء ونوع اللِبسة واحد، فالاختلاف في اللغة ليس بشيء في أفغانستان، وإنما كبّره الأعداء وعظّمه خاصة في نصف القرن الأخير.
إن أبناء أفغانستان دفعوا تكاليف باهظة في سبيل الدفاع عن الوطن وهويته، بدءاً من الاحتلال السوفييتي للبلاد عام 1979، مروراً بالحرب الأهلية، وانتهاء بالغزو الأمريكي الذي امتد بين عامي 2001 – 2021، لكي يضعوا نقطة النهاية لأي تدخل أجنبي، بكل أشكاله وصوره، وقد ربحوا معركة السيادة والكرامة، والحفاظ على القرار الوطني والمستقبل، بينما يعيش رعايا كثير من الدول وسط الخراب الذي عمّهم وكدّر عيشهم.
ولذلك ينبغي لدول العالم، وخاصة الدول المجاورة، التركيز على حل القضايا الداخلية، والبحث عن سبل حل مشكلاتها السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعية. فبفضل الله ومنته شعب أفغانستان شعب متيقظ مؤمن، يتغلب على مشكلاته دون أي تدخل من قبل الأجانب، ولا يحتاج إلى التحنن والترحم، وإلى دموع التماسيح.