
الإمارة الإسلامية وفقه الممكن
الشيخ نائل بن غازي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ ثم أما بعد..
إن كمال الدين وتمام النعمة به من أجل نعم الله تعالى على عباده، قال تعالى ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فاستقرت الشريعة تامةً، قد جمعت: تبيان كل شيء، ودلالة كل خير، وأمارة كل هدى وتيسير، وتنظيم النسبة بين الميسور والمعسور.
فقد جاءت الشريعة الغراء بنفي الحرج عن العباد، وجعلت للضرورة أحكامها، وجعلت التكليف فيها منوطاً بالقدرة، وجعلت المشقّة جالبة للتيسير، فقال الله ﴿ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال تعالى ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]. وإن الكيانات الإسلامية مأمورةٌ بمقتضى قواعد الشريعة أن تفعل مقدورها، ويكون – حينئذٍ – فرضَها وواجبها، ولا تكلف فوق طاقتها، فإذا أمكنها فعل بعض الواجبات دون بعض، فإنها تؤمر بما تقدر عليه، وما عجزت عنها يبقى ساقطاً، ولا تُكلف بترك الكل لسبب البعض والعجز عنه، فالميسور لا يسقط بالمعسور.
وإنه من نافلة القول عند الحديث عن مرحلة المخاض التي عاشتها الإمارة الإسلامية على مدى عشرين سنة من مدافعة الاحتلال الدولي لأفغانستان، إلى حين إجلائه بالمواجهة العسكرية المتواصلة: أن الإمارة تحتاج – وجوباً – بعد كل تلك السنوات التي عصفت بالبلاد والشعب الأفغاني، إلى ما يعزز صمودها، ويساهم في بناء مؤسسات الدولة بناءً متينًا، ويساعد في التغلب على أتون الفتن الداخلية المستمرة، ويضبط حدود نطاق حكمها مع جيرانها، ويعيد الإمارة لصدارة المشهد الدبلوماسي، واستحقاق التمثيل الشرعي الوحيد للشعب الأفغاني في المحافل الدولية، وكل ذلك من ضرورات الاعتراف بالإمارة الإسلامية ككيان مستقل له هويته ونظامه في المنظومة الدولية، وما ينبني عليه من تشكيل ملامح سياساتها الداخلية والخارجية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وليس ذلك بالأمر باليسير أو الهيّن، ولا يُتحصلُ ذلك في يوم وليلة، لاسيما والشعب الأفغاني قد تعرض في سنوات الغزو لحملات تغريب مركزة ممنهجة قادتها ماكنات الغزو الإعلامية والثقافية الاحتلالية، وأعانها عليها أعوان الاحتلال من ضعاف الدين والنفس، لهدف مسخ الشعب الأفغاني عن هويته الإسلامية، وغرس بذور الفساد في نسيجه الاجتماعي وتجذره، وسقيه بماء التبعية للغرب.
فاحتاجت الإمارة الإسلامية لقوةٍ مضاعفةٍ للارتقاء بالشعب الأفغاني من حضيض ما وُضع فيه –مكراً- لينهض والإمارة الإسلامية للرسالة العالمية: في تحكيم الشريعة، وإرساء العدل، ومناصرة المظلوم، وتبني قضايا المسلمين.
وإلى حين الوصول إلى الغاية المنشودة، فإن الإمارة الإسلامية لازالت تكافح في حدود فقه الممكن، وتوازن بين المواقف والتصريحات بحدود المأذون به شرعاً من خلال الفهم الدقيق الراسخ للثوابت والمتغيرات، والعلاقة الدقيقة بينهما.
فتقاتل مجتهدةً في ميدانيْ: البناء بعد التحرير، ومواجهة سياسات محاولات العزلة الدولية المضروبة عليها، لغرض الابتزاز، وكسب المواقف، وإلزام التنازل، وضرورة التفريط.
فتختار الإمارة الإسلامية الخطاب الدبلوماسي الواقعي المناسب، الذي لا يخالف الشريعة الإسلامية، ولا يتجاوز حدود قدرة تحمل تبعاته في مرحلة البناء على اعتبار أنه غاية الميسور الآني، ولا يحمل إشارات الضعف أو الانكسار الموهمة بجدوى سياسة ممارسة الضغوط الدولية الرامية لسلخها عن مبادئها، وتلك لعمري من دلائل رسوخ قادتها وعلمائها.
فمما لاشك فيه، أن ظروف كل معركة هي من تحدد كلياتها وجزئياتها، فما يكون في ميدان كلياً، قد يضحي في ميدان آخر جزئيا تابعاً. إن الإمارة الإسلامية تدركُ أنّ العمل الدبلوماسي السياسي يمثل ميداناً جزئياً داخل إطار العمل الجهادي الموسع في مرحلة احتلال البلاد، وهو يمثل الواجب الممكن –في حينه- الذي لا يقابله واجب. وتعلم يقيناً أن العمل الجهادي يتحول بداهةً إلى ميدان جزئي في الإطار الدبلوماسي السياسي الموسع عند الجَلاء وتمام نعمة النصر، ولكلٍّ خطابه الذي يناسبه، ولكلٍّ فقهه الممكن.
وإن المعركة الدبلوماسية، لا تقل ضراوةً عن المعركة العسكرية؛ بل هي شقها الأصعب على الإطلاق، وإن ثبات الإمارة على الثوابت الشرعية، والحفاظ على قدسيتها من غير قبول حتى مجرد المساومة عليها يمثل انتصاراً حقيقياً صعباً، خطّه الأبرز: الانتصار على نظرية التفريط والمساومة كأحد شرائط الاعتراف الدولي.
فلم تلتفت الإمارة الإسلامية لدعاوى الترهيب المادي والمعنوي الداعية لوجوب تغيير سياستها الثابتة مقابل الوجود والاعتراف، وشقت الإمارة الإسلامية طريقها باتزان معهود موافقٍ حدود الاستطاعة المكلف بها بعيدٍ عن الاندفاع.
تدرك حجم المكر الكبير، وتتعامل مع الواقع بتعقيداته وتحالفاته المضطربة، وتعمل في إطار فقه الممكن. وبناءً عليه: يقع لها من الاجتهاد ما فيه ترك بعض الأمور المختارة، والصبر على بعض المفاسد خشية أن يعقبها مفاسد أعظم، وخوض بعض فصول معركة الأصول في غير ميدان الحديد، وكل ذلك في إطار حدود التكليف بالممكن المستطاع، لا من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:” فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.
فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبالغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب؛ والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداءً؛ بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع” ا.هــ
ربما ليس بمقدور الإمارة الإسلامية أن تغزو العالم للتغيير الآن، وإنما غاية الممكن أن تقدم نموذجاً للحكم الواعي الرشيد الذي يجمع بين قوة الحسم، ومرونة التفاوض، وواقعية الطرح، ونقاء السياسة، وثبات الأصول، ما يُقطع به وَهْم نظرية الفشل المضروبة على كل التجارب الإسلامية والتي يقتات بها الطغيان، وذلك من الجهاد الواجب في مكانه وميدانه، وهو فرضها الممكن.
ربما ليس بمقدور الإمارة الإسلامية أن تجيش الجيوش الآن لرفع الظلم عن كل مكلوم في أي بلد، وإنما غاية الممكن أن تحيي قضية المكلومين في كل محفل دولي، وكل مسار دبلوماسي، وتتبنى قضيتهم ولاءً وحباً، في عالم يقف مع الظالم يشير ويبارك، ويعين ويشارك، وكان ذلك فرضها الممكن الواجب.
فمن تأمل هذا التقرير، وتبصّر حدود الفهم فيه، ووقف على دقيق الموازنة لمواقف الإمارة الإسلامية، أدرك عميق فقه اختياراتها السياسية المجافية: للمواقف العاطفية، أو الاندفاعات النفسية، أو الاختيارات الارتجالية القلقة التي لا تؤيدها سنة صحيحة، أو فهم راسخ، ولا تميز بين الأصول الثابتة والاجتهادات السياسية المبنية على فقه الممكن من غير تفريط أو تغليب جانب الهوى قصداً.