مقالات الأعداد السابقة

الإمارة مغرم وليست بمغنم

عبدالله

 

إنّ المجاهد الذي جاهد الأمريكان وناضل أخبث الأعداء طيلة السنوات الماضية، وتحمّل العناء والتعب والتضحيات الجسام، لم يفعل كل ذلك لأجل منصب أو رئاسة أو جاهٍ، وإنّما فعل ذلك وخرج من بيته لأجل أن يرضي الله سبحانه وتعالى ولإعلاء كلمته، ودحر المحتلين الغاشمين الذين عاثوا في بلاده، وقتلوا المستضعفين وهتكوا الأعراض.

فلا ينبغي – أخي المجاهد- أن تغيّر نيتك وتلوّثها بحطام الدنيا لأجل منصب أصله من النّصب والتعب، مع ما يخفى عليك ممّا فيه من شرّ العاقبة وسوء المنقلب إن لم تعدل، وما تكسب به من كثرة الأعداء والحسّاد، وما اشتملت عليه بواطنهم من الضغائن والأحقاد، وشماتتهم بك عند زواله، وتلهُّفك حزنًا على ما فات من إقباله، وزوال أكثر حشمك وخدمك، وإعراض من كان يُسرُّ بتقبيل قدمك.

فحذار أخي المجاهد من أن يكون نصيبك من جهادك “لا أجر له”. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلًا قال: يا رسول الله! رجلٌ يريد الجهاد وهو يبتغي عرضًا من عرض الدنيا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا أجر له”. فأعظم ذلك النّاسُ، وقالوا للرجل: عُد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعلك لم تُفهمه السؤال! فقال: يا رسول الله! رجلٌ يبتغي الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغي عرضًا من عرض الدنيا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا أجر له”. فأعاد الرجل سؤاله، وأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم جوابه. [سنن أبي داود].

ولأحد شيوخ المجاهدين رسالة قيّمة يوضّح فيها للأمراء مقصود الإمارة في الإسلام، وبيّن أنّ الإمارة مغرم وليست بمغنم، وأنّ الصالحين كانوا يسألون الله منها السلامة والعافية، قال عليه الصلاة والسلام: (إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وماهي، أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل).

لأنها تحرك الصفات الباطنة؛ وتغلب على النفس حب الجاه؛ ولذة الاستيلاء؛ ونفاذ الأمر؛ وهو أعظم ملاذ الدنيا؛ فإذا كانت محبوبة؛ كان الوالي ساعيا في حظ نفسه؛ متبعا لهواه؛ ويقدم على ما يريد؛ وإن كان باطلا؛ وعند ذلك يهلك؛ ومن ثم أخرج ابن عوف عن المقداد قال: استعملني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على عمل؛ فلما رجعت قال: “كيف وجدت الإمارة؟”؛ قلت: ما ظننت إلا أن الناس كلهم خول؛ والله لا ألي على عمل أبدا.

واعلم أخي المجاهد إن فوّضت إليك إمارة ومسؤولية في منطقة ما، بأنك في موطنٍ خطِرٍ عظيم، ومحل تهابه أكابر الأئمّة وأجلّ العلماء ألا وهو الإمارة، والتي يعدها البعض مغنما، وهي – والله – شرّ مغرم إلا لمن قام بحقها وأدى واجبها وقليلٌ ما هم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة) رواه البخاري.

إنّ هذه الإمارة أمانة، وتأدية الأمانة يكون بأخذها بحقها كما أوجب الله تعالى، وأنّ من أبواب خيانة هذه الأمانة هو استغلال صلاحيات الإمارة للتكبر في الأرض وظلم الخلق وقهرهم والعلو عليهم.

إذًاً فهي أمانة تمامًا كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27)}، ولا خيانة أعظم من اتخاذ هذا المنصب – الذي اؤتمن عليه العبد- مطيةً لتحقيق الرغبات وتحصيل الأهواء فتسفك لأجل ذلك الدماء المحرمة، ويُقهر الناس ظلمًا وعدوانًا بالضرب والسجن والنفي والهجران والمطاردات والملاحقات والتضييق، وتستحل أعراض المسلمين بالغيبة والنميمة والطعن والتهم، وتُملأُ البطون بلحومهم في المجالس تفكهًا وتندرًا وإرضاءً للأمراء أو مجاملة للجماعة.

ومن ضيّع هذه الأمانة أو جعلها حظًا لنفسه، فإنها ستكون عليه يوم القيامة خزيًا وندامة، ولن ينفعه يومئذٍ – وهو واقف بين يدي ربه وحيدًا- تعظيمُ الناس، ولا مدحهم، ولا توقيرهم، ولا ثناؤهم، ولن ينجيه أنْ كان ينادى في الدنيا (أمير صاحب)، أو (حاجي صاحب)، أو (البطل المقدام)، ولن يجد في ذلك الموطن من يظلل عليه، أو يفتح له باب سيارته، أو يُمهّد له الفراش، أو يقدّمه في كل شيء بل: {كل نفس بما كسبت رهينة} المدثر:38، {بل الإنسان على نفسه بصيرة} القيامة:14.

ورُب ملك في الدنيا معظم بين أصحابه وأتباعه قد بسط سلطانه، وكثر أعوانه، وملأ خزائنه ينادي في ذلك اليوم العصيب: {ما أغنى عني ماليه*هلك عني سلطانيه}، ولن ينفع المرء يومئذ جماعة ولا حركة ولا دولة.

إذًاً فلتعلم أخي المجاهد! أنّ الشقاء كل الشقاء هو أن يعمر المرء دنياه بخراب آخرته، وأشقى منه من يعمّر دنيا غيره بتخريب أخراه، كما قال إسماعيل بن أبي أويس: سمعتُ خالي مالك بن أنس يقول: قال لي ربيعة الرأي -وكان أستاذ مالك-: يا مالك: من السّفَلة؟ قال: قلت: من أكل بدينه، قال: فقال لي: من سفلة السفلة؟ قال: قلتُ: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى