
الإمام سعدالدين التفتازاني رحمه الله
إعداد: أبو سعيد راشد
كان الشيخ سعد الدين في ابتداء طلبه بعيد الفهم جدا، ولم يكن في جماعة العضد أبلَدَ منه، ومع ذلك فكان كثير الاجتهاد، ولم يُؤَيِّسْهُ جمودُ فهمِه من الطلب، وكان العضد يضرب به المثل بين جماعته في البَلادة.
فاتفق أن أتاه إلى خَلْوته (أي: موضع خلوته) رجلٌ لا يعرفه، فقال له: قم يا سعد الدين لنذهب إلى السير! فقال: ما للسير خُلِقْتُ، أنا لا أفهم شيئا مع المطالعة! فكيف إذا ذهبتُ إلى السير، ولم أُطالع، فذهب وعاد، وقال له: قم بنا إلى السير! فأجابه بالجواب الأول، ولم يذهب معه فذهب الرجل وعاد وقال له مثل ما قال أولا، فقال: ما رأيتُ أَبْلَدَ منك! ألم أقل لك ما للسير خلقت!
فقال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك!! فقام منزعجا، ولم ينتعل بل خرج حافيا، حتى وصل به إلى مكان خارج البلد، به شُجَيْراتٌ فرأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه تحت تلك الشجيرات، فتبسم له وقال له: نرسل إليك المرة بعد المرة، ولم تأتِ، فقال: يا رسول الله ما عَلِمْتُ أنك الْمُرْسِلُ، وأنت أعلم بما اعتذرتُ به من سوء فهمي وقلة حفظي، وأشكو إليك ذلك!
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: افتح فمك! وتَفَلَ له فيه، ودعا له، ثم أمره بالعود إلى منزله وبشره بالفتح، فعاد وقد تضلع علما، ونورا.
فلما كان من الغد أتى إلى مجلس العضد وجلس مكانَه، فأوردَ في أثناء جلوسه أشياءً ظَنَّ رِفْقَتُه من الطلبة أنها لا معنى لها، لِمَا يَعْهَدون (يعرفون) منه، فلما سمعها العضد بكى، وقال أمرك يا سعد الدين إلي، فإنك اليوم غيرُك فيما مضى، ثم قام من مجلسه وأجلسه فيه، وفَخُمَ أمره من يومئذ. (شذرات الذهب لابن العماد، سنة 791هـ: 6/319).
كان رحمه الله إماما، مِن تركمانستان، حنفي المذهب، وله معرفة بالمذهب الشافعي أيضا، انتهت إليه رئاسة الحنفية في زمانه.
ولد في تفتازان قرية من قرى “نسا” (ومدينة ” نسا”: هي عشق آباد عاصمة تركمانستان) عاش في هراة من أفغانستان، ونيسابور (من إيران) وسمرقند وخوارزم (من أوزبكستان) وتوفي في سمرقند (من أوزبكستان) ونقل جثمانه إلى سرخس (وسرَخْس: مدينة في حدود تركمانستان على الضفة الشمالية من نهر هريرود، على الحدود مع إيران، ولما احتلها الروس، بنت إيرانُ على نفس الحدود مدينة على الضفة الجنوبية من “هريرود” وسماها سرخس، (ويكبيديا، الموسوعة الحرة: س ر خ س).
قال الحموي: نَسا بالفتح: بلدة قديمة بخراسان بين سَرَخْس ومرْوَ (سرخس ومرو كلتاهما في تركمانستان)، بينها وبين سَرَخْس يومان، وبينها وبين مرو خمسة أيام، وبين أبيورد يوم، وبين نيسابور ستة أو سبعة، معجم البلدان:5/281)
في هراة مسجد باسم التفتازاني، يقال إنه كان يدرّسُ فيه، ولا زال أحفاده في هراة علماء مُفْتُوْن.
من شيوخه: 1 – عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي المتوفى سنة 756 هـ. 2 – قطب الدين محمود بن محمد نظام الدين الرازي التحتاني– المتوفى سنة 766 هـ. 3 – بهاء الدين السمرقندي الحنفي.
الزركلي: مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازانى، سعد الدين: من أئمة العربية والبيان والمنطق. ولد بتفتازان (من بلاد خراسان) وأقام بسرخس، أبعده تيمورلنك إلى سمرقند، فتوفى فيها، ودفن في سرخس. كانت في لسانه لكنة. (الأعلام :7/219 ).
الشوكاني: الإمام الكبير صاحب التصانيف المشهورة، أخذ عن أكابر أهل العلم في عصره كالعضد وطبقته، وفاق في النحو والصرف والمنطق والمعانى والبيان والأصول والتفسير والكلام وكثير من العلوم، وطار صيته واشتهر ذكره، ورحل إليه الطلبة وشرع في التصنيف، وهو في ست عشرة سنة.
(البدر الطالع:2/296).
العكري: سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله، هكذا أثبته السيوطي في طبقات النحاة بلفظ مسعود، وهو المشهور، والذي أثبته ابن حجر في كتابيه: الدررِ الكامنة وأنباءِ الغمر (2/77) بلفظ محمود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، الإمام، العلامة، عالم النحو والتصريف والمعاني والبيان والأصلين والمنطق وغيرهما.
قال ابن حجر: ولد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة بتفتازان بفتح الفوقيتين والزاي وسكون الفاء وبالنون قرية بنواحي “نسا” وأخذ عن القطب والعضد، وتقدم في الفنون واشتهر ذكره، وطار صيته، وانتفع الناس بتصانيفه، وكان في لسانه لكنة، وانتهت إليه معرفة العلم بالمشرق.
من شعره:
إذا خاضَ في بحرِ التفكرِ خاطري *** على دُرَّةٍ مِنْ مُعْضَلَاتِ المطالبِ
حَقَّرْتُ ملوكَ الأرضِ في نَيْلِ مَا حَوَوْا *** ونِلْتُ الْمُنَى بالكُتُبِ لا بالكتائبِ
(الْمُنَى: جمع الْمُنْيَة، وهي الأُمْنِية والبُغية)
ومنه أيضا:
فَرِّقْ فِرَقَ الدرس وحَصِّلْ *** مالا فالعمر مضى ولم نَنَلْ آمالا
لا يَنْفَعُكَ القِياسُ والعكسُ ولا *** افعنلل يفعنلل افعنلالا
ومنه:
طَوَيْتُ بإحراز العلوم وكسبها *** رداءَ شبابي والجنونُ فنونٌ
فلما تَحَصَّلْتُ العلومَ ونِلْتُها *** تَبَيَّنَ لِيْ أَنَّ الفنونُ جُنونٌ
وتوفي رحمه الله بسمرقند، (شذرات الذهب لعبد الحي بن أحمد العكري الحنبلي 1032هـ – 1089هـ، حوادث سنة 791هـ: 6/319).
تصانيفه:
الزركلي: 1 – تهذيب المنطق –ط، 2 – المطول – ط، في البلاغة، 3 – المختصر – ط) اختصر به شرح تلخيص المفتاح، 4 – مقاصد الطالبين – ط، في الكلام، 5 – شرح مقاصد الطالبين – ط، 6 – النعم السوابغ – ط، في شرح الكلم النوابغ للزمخشري، 7 – إرشاد الهادى – خ، في النحو، 8 – (شرح العقائد النسفية – ط) 9 – حاشية على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب – ط، في الأصول، 10 – التلويح إلى كشف غوامض التنقيح – ط، 11 – شرح التصريف العزي – ط، في الصرف، وهو أول ما صنف من الكتب، وكان عمره ست عشرة سنة، 12 – شرح الشمسية – ط، في المنطق، 13 – حاشية الكشاف – خ، لم تتم، و 14 – شرح الأربعين النووية – ط، (الأعلام :7/219)، 15 – الفتاوى الحنفية: كتاب في الفقه الحنفي على غرار نور الإيضاح، مخطوط، عندي نسخة منه.
مواضع تجوال الإمام:
الشوكاني: صنف الزنجانيه وفرغ منها في شعبان سنة 738 هـ، وفرغ من شرح التلخيص الكبير في صفر سنة 748 بهراة. ومن مختصره سنة 756 ومن شرح التوضيح في ذى القعدة سنة 758 هـ بكلستان. ومن شرح العقائد في شعبان سنة 768هـ، ومن حاشية العضد في ذى الحجه سنة 770هـ، ومن رسالة الإرشاد سنة 774 كلها بخوارزم (ومدينة خوارزم: تقع في أوزبكستان، هدمها المغول، وبُنِيتْ مكانها خيوه (أطلس الفتوحات ص 163). ومن المقاصد وشرحه في ذي القعدة سنة 784هـ بسمرقند (مدينة في أوزبكستان)، ومن تهذيب الكلام في رجب منها، ومن شرح المفتاح في شوال سنة 789 هـ بسمرقند أيضا. وشرع في فتاوى الحنفية يوم الأحد التاسع من ذي القعدة سنة 769 بهراة. وفي تأليف مفتاح الفقه سنة 772هـ وفي شرح تلخيص المفتاح سنة 786 هـ كليهما بسرخس. ومن حاشية الكشاف في ثامن ربيع الآخر سنة 789هـ بظاهر سمرقند. هكذا ذكر ملازادة تاريخ ما فرغ منه من مؤلفاته، وما شرع فيه ولم يكمل.
وتوفى يوم الأثنين الثاني والعشرين من شهر محرم سنة 792 اثنتين وتسعين وسبعمائة بسمرقند، ونقل إلى سرخس، ودفن بها يوم الأربعاء التاسع من جمادى الأولى.
وكان (التفتازاني رحمه الله) قد اتصل بالسلطان الكبير الطاغية الشهير تيمورلنك المتقدم ذكره وجرت بينه وبين السيد الشريف الجرجاني مناظرة في مجلس السلطان في مسئلة كون ارادة الإنتقام سببا للغضب أو الغضب سببا لإرادة الإنتقام فصاحب الترجمة يقول بالأول والشريف يقول بالثاني، قال الشيخ منصور الكازروني: والحق في جانب الشريف.
وجرت بينهما أيضا المناظرة المشهورة في قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} ويقال بأنه حكم بأن الحق في ذلك مع الشريف فاغتم صاحب الترجمة ومات كمدا، والله أعلم، (البدر الطالع لمحمد بن علي الشوكاني:2/296).
ابن حجر: التفتازاني العلامة الكبير صاحب شرحَيِّ التلخيصِ وشرح العقائد في أصول الدين، وشرح الشمسية في المنطق وشرح التصريف العزي ويقال أنه أول تصانيفه والإرشاد في النحو اختصر فيه الحاجبية والمقاصد في أصول الدين وشرحها والتلويح في أصول فقه الحنفية ،قد انتهت إليه معرفة علوم البلاغة والمعقول بالمشرق بل بسائر الأمصار لم يكن له نظير في معرفة هذه العلوم،وذكر لي شهاب الدين ابن عربشاه الدمشقي الحنفي أن الشيخ علاء الدين كان يذكر أن الشيخ سعد الدين توفي سنة 791هـ عن ثمانين سنة (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة للعسقلاني: 2/139).
العكري: وكان سبب موته ما ذكره في شقائق النعمان في ترجمة ابن الجزري: أن تيمور”لنك” جمع بينه وبين السيد الشريف، فأمر التيمور بتقديم السيد على السعد، وقال: لو فرضنا أنكما سيان في الفضل، فله شرف النسب، فاغتم لذلك العلامة التفتازاني، وحزن حزنا شديدا، فما لبث حتى مات. رحمه الله تعالى، وقد وقع ذلك بعد مباحثتهما عنده وكان الحكم بينهما نعمان الدين الخوارزمي المعتزلي فرجح كلام السيد الشريف على كلام العلامة التفتازاني (شذرات الذهب:6/319).
وقولهم: إنه مات بهذا السبب- ليس بشيء، وهل يحتاج رجل بلغ إلى الثمانين من عمره إلى غير القدر والأجل، إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، رحمه الله، فقد خدم التراث، وقبول كتبه علامة قبوله عند الله سبحانه وتعالى، رحمه الله رحمةً واسعةً.