مقالات الأعداد السابقة

الاستراتيجية النبوية لفتح بيت المقدس

كتبه: ابن الأرض المقدسة؛ جهاد العايش ال عملة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فقد يتعجب البعض من عنوان تلك المقالة (الاستراتيجية النبوية لفتح بيت المقدس) ويتساءل قائلًا: كيف ذلك وبيت المقدس قد فُتِح بعد وفاة النبي ﷺ في خلافة عمر ﵁ عام خمسة عشر من الهجرة؟! والجواب عن هذا السؤال هو موضوع هذه الورقة. فنقول:

إنه منذ العام الأول من البعثة النبوية والنبي ﷺ قد عقد مشروعًا لفتح بيت المقدس، لقد كانت بعثة النبي ﷺ سنة (610م) في وقتٍ كانت المنطقة العربية تعج بالشرك والوثنية والحروب والموبقات، وعلى النطاق العالمي كانت هناك حروب طاحنة ممتدة بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية أعظم قوتين على وجه البسيطة في ذلك الوقت.

وكان بيت المقدس من قبل بعثة النبي ﷺ تحت حكم البيزنطيين؛ وهم النصارى الذين يتبعون الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، والمقسمة على أربعة مراكز روحية للنصارى في العالم -أنطاكية والقدس والقسطنطينية والإسكندرية- وكانت روما هي عاصمة الامبراطورية الرومانية الغربية. وهذا الانقسام نشأ بعد تنصر قسطنطين عام 337م وتنصر أمه هيلانة.

وتأتي البعثة المحمدية (610م) وفي خضم انهماك النبي ﷺ في دعوته لأهل مكة، وما يلاقيه منهم من العنت والصدِّ والتنكيل بمن معه من المؤمنين، كان الصراع بين الإمبراطوريتين قد بلغ ذروته، وكانت أصداء ذلك الصراع حاضرةً بشدة في جزيرة العرب وفي القلب منها؛ مكة.

وفي العام (614م) تصل أخبار انتصار الفرس على الروم، ودخولهم بيت المقدس، وينتشي كفار قريش لذلك الانتصار انتشاءً عظيمًا -إذ هم وأهل فارس عباد وثن- وأخذوا يغيظون المسلمين بذلك ويشمتون فيهم، ويقولون لهم: قد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرنَّ عليكم!

أما النبي ﷺ والمسلمون فقد حزنوا لذلك حزنًا شديدًا، ليس لأنهم والروم أهل كتاب وفقط، بل السبب الأهم والباعث الأكبر على ذلك الحزن والهم، هو أن قبلة المسلمين الأولى (بيت المقدس) والتي كانوا يصلون إليها قد احتلت وصارت بيد الفرس الوثنيين.

وفي خضم أوج نشوة وشماتة كفار قريش، ينزل القرآن صادحًا ومعلنًا بأعلى صوت وأوضحه، وأبين كلام وأفصحه بأن الروم ستنتصر على الفرس وستكون الغلبة لها بعد بضع سنين؛ وذلك قوله ﷿: ﴿الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم: 1-5].

وبالفعل يتحقق موعود الله ﷿ بعد بضع سنين، وفي أقل من عشر سنوات تغزو الرومُ فارسَ في عقر دارها، وتخرجها من بيت المقدس، ويفرح المؤمنون بنصر الله ﷿ وتحقُّقِ موعوده ﷿ وكبت المشركين من أهل فارس وأخوانهم من كفار قريش الذين كانوا بالأمس القريب يشمتون ويغيظون النبي ﷺ والمؤمنين.

والسؤال هنا: ما سر اهتمام القرآن بتلك القضية في بدايات البعثة وإنزال قرآن بخصوصها والتركيز عليها بهذه الصورة؟! وما السر في ارتباط أول نبوءة قرآنية ونبوية ببيت المقدس وكونه حاضرًا في ذلك الحدث الجلل وتلك الحرب الطاحنة بين أعظم إمبراطوريتين آنذاك فارس والروم؟

والجواب: أن الله ﷿ يريد أن يغرس في قلب النبي ﷺ وقلوب المؤمنين من أصحابه الكرام ﵃ -وهم القدوة والأسوة لمن بعدهم- محبة هذه البقعة وتلك القبلة والاهتمام بها منذ اليوم الأول ومنذ اللحظات الأولى من البعثة. وأن لهذا البيت وتلك البقعة منزلة عظيمة فوق منزلتها، ويلقي الضوء حول مركزية هذه البقعة في الصراع منذ القدم.

 

رحلة الإسراء والمعراج ورمزية بيت المقدس

وفي نفس السياق، في العام (621م) الموافق للسنة (12) من البعثة النبوية -أي قبل الهجرة بسنتين- تأتي رحلة الإسراء والمعراج، تلك الرحلة العظيمة العجيبة، تأتي في وقت عصيبٍ شديدٍ على النبي ﷺ بعد موت زوجه خديجة ﵂ وبعد موت عمه أبي طالب، وقد كانا له حضنًا وسكنًا ومأمنًا وملاذًا، وبعد حادثة الطائف الشهيرة وما لاقاه النبي ﷺ من أهلها ومن السفهاء المجرمين فيها، فتأتي معجزة الإسراء والمعراج مسكنة لتلك الآلام ومسلية للنبي ﷺ ومخففة عنه ما لاقاه من قومه وأهل الأرض من التضييق والإيذاء وإيقاع ألوان وصنوف العذاب بأصحابه، فيأتيه ذلك التكريم وتلك المعجزة من السماء، من الله ﷿، وليلتقي بإخوانه الأنبياء الذين سبقوه في ذلك الطريق، ويختار الله ﷿ لتلك المعجزة العظيمة بيت المقدس ليكون منتهى مسراه ﷺ ومنطلق معراجه إلى ربه ﷿، وليكون حلقة الوصل بين الأرض والسماء، ولتكون تلك البقعة موضع صلاة الأنبياء والمرسلين وائتمامهم بسيد الخلق أجمعين محمد ﷺ.

 

وفي هذه الحادثة الجليلة من الدلالات والرسائل الشيء الكثير، نذكر منها:

1- المكانة العظمى والمنزلة الكبيرة لهذه البقعة الشريفة؛ بيت المقدس، التي جمع الله ﷿ لنبيه ﷺ فيها جميع الأنبياء والمرسلين، وهم في عالم البرزخ، في انقطاع عن الزمان، وفي مفاوز وتباعد من المكان، ليجتمعوا سويًّا في تلك البقعة المقدسة، ويؤمهم النبي ﷺ جميعًا.

2- توجيه أنظار النبي ﷺ إلى الشام وبيت المقدس، إلماحٌ واضح لمركزية تلك البقعة الطاهرة وأهميتها البالغة، وما كان كذلك لا يقبل بأي حال من الأحوال أن يكون تحت يد غير المسلمين وجند الله الموحدين.

3- إلماحة خفية إلى عالمية المشروع الإسلامي؛ بخروج نوره من جزيرة العرب وامتداده لخارجها.

وقد فهم النبي ﷺ هذه المعاني وتلك الرسائل، وأن بيت المقدس وتعبيد الطريق لتحريره هي من أعظم مهامه، ولأجل هذا تحددت الاستراتيجية النبوية طويلة المدى -والتي سنتتبعها سريعًا في الصفحات القادمة- من أجل تمهيد الطريق لبيت المقدس وتحريره من البيزنطيين.

وقد سلك النبي ﷺ في سبيل ذلك عددًا من الخطوات والوسائل المتنوعة، كلها يجتمع في خدمة هذه الغاية وتحقيق تلك الاستراتيجية. وبطبيعة الأمر، لم يُغفل النبي ﷺ الوظيفة الرسالية والدعوية؛ إذ هي الأساس والأصل، ولكنه مع ذلك وفي خضم وظيفته الرسالية والدعوية كانت عينه ﷺ تبصر بيت المقدس ويداه ترسم الطريق لفتحه وتحريره.

 

ملامح ووسائل الاستراتيجية النبوية لفتح بيت المقدس

أولًا: الإقطاعات

كانت خطة النبي ﷺ الاستراتيجية فيما يخص الإقطاعات -لما جاءه الصحابة وجاءته الوفود بعد أن فتح ﷺ مكة وصارت له دولة قوية ذات منعة- أن يسلِّم الإقطاعات في المناطق الهامة وتحديدًا باتجاه الشّمال من المدينة المنورة؛ بلاد الشام وبيت المقدس.

والإقطاع بالمفهوم السياسي والعسكري المعاصر أشبه بالحاميات والقواعد العسكرية التي توفر ملاذًا ومأوى وزادًا ونقطة استراحة وانطلاق ونحو ذلك.

 

ومن هذه الإقطاعات:

1- [إقطاع أبي ثعلبة الخشني] قال ﵁: أتيت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله، اكتب لي بأرض كذا وكذا -لأرض بالشام لم يظهر عليها النبي ﷺ حينئذ- فقال النبي ﷺ: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا؟! فقال أبو ثعلبة: والذي نفسي بيده لتظهرن عليها. قال: فكتب له بها. ([1]) وهو إقطاع بالشام قريب من بيت المقدس. وقيل: سكن داريا. وقيل: قرية البلا،ط وله بها ذرية. وقد مات أبو ثعلبة ﵁ بالشام في خلافة معاوية.

2- [إقطاع بني جفال الجذاميين] وكانوا يقطنون الشام. وهذا نص الإقطاع الذي كتبه النبي ﷺ لهم: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي لبني جفال بن ربيعة بن زيد الجذاميين أن لهم إرمًا ([2]) لا يحلها أحدٌ عليها لغلبهم عليها، ولا يحاقُّهم فيها، فمن حاقَّهم فلا حق له، وحقُّهم حقٌ» وكتب الأرقم. ([3])

وهذه المنطقة تقع إلى الجنوب من بيت المقدس، وهذا يعني أن بهذا الإقطاع قد تم تأمين الطريق الى بيت المقدس من الجنوب عبر أيلة والنقب على يد هذه القبيلة الموالية للرسول ﷺ.

3- [إقطاع تميم الداري ﵁] فقد وردت عدة روايات تورد قصة إقطاع النبي ﷺ قرية حبرى وبيت عينون -أو بيت لحم- وأنه ﷺ كتب له بذلك كتابًا؛ فقد روى ابن زنجويه عن الزهري وراشد بن سعد، قالا: قام تميم الداري -وهو تميم بن أوس رجل من لخم- فقال: يا رسول الله، إن لي جيرة من الروم بفلسطين لهم قرية يُقال لها حبرى، وأخرى يُقال لها بيت عينون، فإنْ الله فتح عليك الشام فهبهما لي، فقال: هما لك، قال: فاكتب لي بذلك كتابا فكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله، لتميم ابن أوس الداري أن له قرية حبرى وبيت عينون قريتها كلها سهلها وجبلها وماءها وحرثها وأنباطها وبقرها، ولعقبه من بعده، لا يحاقه فيها أحد، ولا يلجه عليهم أحد بظلم، فمن ظلمهم أو أخذ منهم شيئًا، فعليه لعنة من الله والملائكة والناس أجمعين» وكتب علي. ([4])

وكان هذا الإقطاع داخل الأرض المقدسة في المنطقة المعروفة اليوم بالخليل وبيت عينون. وبهذا يكون هذا الإقطاع هو الأقرب والمحطة الأخيرة إلى بيت المقدس –إذ يبعد عنه (30 كم) فقط- وهو بمثابة إعلان مبدئي عن السلطة السياسية للمنطقة، من خلال أكبر قبيلة هناك.

لقد كانت هذا الإقطاعات –كما مر- أشبه بما اصطلح عليه اليوم بـ«القواعد العسكرية أو الحاميات» للدول الكبرى التي تنشر قواتها العسكرية في مناطق مختلفة من دول العالم لتحمي مصالحها.

وبهذا يكون النبي ﷺ قد كوَّن له أحلافًا على طول الطريق من المدينة إلى بيت المقدس، وأنه ﷺ بدأ –من خلال هذه الإقطاعات- يحاصر، وبشكل ناعم، بيت المقدس تمهيدًا لفتحه وتحريره.

 

ثانيا: المراسلات الدبلوماسية

[كتاب النبي ﷺ إلى هرقل]

وكان ذلك الكتاب في العام (6 هـ – 627م) بعد صلح الحديبية، وبعد انتصار الروم على الفرس وهيمنتهم على بيت المقدس وبلاد الشام ونواحي مصر والمناطق الشمالية.

وهذا نص الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى؛ أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلِم تسلَم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64]» ([5])

وتكمن أهمية ذلك الكتاب –الذي وقع بعد صلح الحديبية وقبل غزوة مؤتة- أنه يحمل لهجة تحذيرية كما هو واضح جلي من لغة الخطاب (أسلم تسلم)، (من محمد رسول الله إلى هرقل) فالخطاب النبوي يحمل كل معاني الندية والقوة، وإعلام ببروز قوة جديدة في المنطقة تحسن المناورة والسياسة والعمل العسكري، وتستطيع أن تقف للإمبراطورية الرومانية.

فالكتاب وبشكل واضح يمكن النظر إليه على أنه تحذير دبلوماسي لهرقل عظيم الروم ومن معركة تبدو وشيكة داخل المناطق البيزنطية في أرض الشام. وهذا ما أدركه هرقل –ذلك القائد المحنك العاقل- لما قرأ الرسالة وسمع من أبي سفيان، فقال قولته الشهيرة عن النبي ﷺ: «سيملك موضع قدميَّ هاتين».

 

ثالثا: المعاهدات السياسية

هذه أيضًا من ضمن الطرق والوسائل التي مهَّد بها النبي ﷺ الطريق لبيت المقدس، فقد أبرم النبي ﷺ عددًا من المعاهدات واتفاقات الصلح تأمينًا لحدود الدولة الإسلامية وطرق القوافل التجارية والعسكرية. وقد أُبرِمت غالب تلك العقود في الفترة الأخيرة من حياة النبي ﷺ -وفي وقت قصير- بعد غزوة تبوك، ولهذا كانت متشابهة في أغلبها.

ومن هذه العهود:

1- [العهد إلى أهل أيلة] -وهم بنو ضمرة- مع ملكهم يُحنَّة بن رُؤبة.

إذ ورد في السير أنه لما انتهى رسول الله ﷺ إلى تبوك، أتاه ‌يحنة بن رؤبة -صاحب ‌أيلة- فصالح رسول الله ﷺ وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح، فأعطوه الجزية، فكتب رسول الله ﷺ لهم كتابًا، فهو عندهم. فكتب ليحنة بن رؤبة: «بسم الله الرحمن الرحيم: هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة ابن رؤبة وأهل أيلة -أساقفتهم وسائرهم في البر والبحر- لهم ذمة الله، وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يُمنعوا ماءً يردونه، ولا طريقًا يريدونه، من بر أو بحر»([6])

وكانت هذه أول معاهدة سياسية للنبي ﷺ خارج حدود دولته في المدينة. وهي من الجهة الجنوبية من بيت المقدس، والطريق الموصل إلى النقب -وهي ما تعرف اليوم بالعقبة من مناطق المملكة الأردنية الهاشمية- وهو ميناء تاريخي. وكانت الاتفاقية -كما مر نصها آنفًا- تنص على أن يفتحوا الطريق وموانئهم للمسلمين أن يمروا بها بأمان ولا يمنعوا عنهم طعامًا ولا ماء. وهذه تعتبر آخر نقطة ساحلية من بيت المقدس يمكن أن يتزودوا منها بكل شيء.

2- [معاهدة النبي ﷺ ليهود مَقْنا] و«مقنا» قرب أيلة على البحر الأحمر –آخر الحجاز وأول الشام- تبعد عن العقبة (129كم)؛ فهي ذات موقع مهم على ساحل خليج العقبة مرورًا إلى بيت المقدس، وكانت الاتفاقية -بعد ما أعطاهم النبي ﷺ الأمان- أن يوفروا الطعام واللباس لجيش المسلمين؛ قال الواقدي: وكتب ﷺ لأهل ‌مقنا أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم ربع غزولهم وربع ثمارهم. ([7])

3- [معاهدة النبي ﷺ ليهود أذرُح] وأذرح هذه تقع اليوم ضمن الحدود الأردنية -وتدعى بنفس الاسم- ضمن محافظة معان؛ تبعد عنها (21 كم) شمال غرب، وهي المحطة الأخيرة التي تفصل الشام عن الجزيرة. وتكمن أهميتها في قربها من الطريق الواصل بين الجزيرة والشام، وهي أقرب المدن إلى بيت المقدس من الجهة الجنوبية الشرقية.

قال الواقدي: نسخت كتاب ‌أذرح وإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي ﷺ لأهل ‌أذرح، أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين من ‌المخافة والتعزير إذا خشوا على المسلمين وهم آمنون، حتى يحدث إليهم محمد قبل خروجه». ([8])

فامتازت هذه المعاهدة عن غيرها من المعاهدات بما فيها من حق لجوء المسلمين إليهم إن لزم الأمر؛ أي أنها كانت بمثابة المأوى للمسلمين.

 

رابعًا: التحركات العسكرية

ابتداء من العام (6هـ) تحولت بوصلة العمل العسكري النبوي من جنوب المدينة إلى شمالها، فقد ارتفع عدد الغزوات والسرايا الشمالية (23)، بينما كان في الجنوب (16)، و(6) باتجاهات أخرى.

وفي هذا العام (6هـ) -وتحديدًا بعد غزوة الخندق- اعتمد النبي ﷺ استراتيجية جديدة في غزواته وسراياه، وقد أعلنها ﷺ واضحةً صريحةً بقوله ﷺ: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا) ومنذ ذلك الحين كانت المرة الأولى التي يرسل فيها النبي ﷺ سرايا من أصحابه باتجاه الشمال؛ نذكر منها:

1- [سرية حِسْمَى] كانت أول سرية باتجاه الشمال بقيادة زيد بن حارثة ﵁ في العام 6هـ إلى حدود الشام على الطريق الواصل بين الشام والجزيرة، وكانت بعد رسالة النبي ﷺ إلى هرقل.

2- [سرية أم القرى] إلى منطقة تعرف بأم القرى جهة الشمال الغربي من المدينة بقيادة زيد بن حارثة ﵁.

3- [سرية فدك] وهي مدينة قرب خيبر ويسكنها يهود وكانت في العام (6هـ) وأمّر عليها النبي ﷺ عليَّ بن أبي طالب ﵁.

4- [سرية أم قرفة] قرب وادي القرى، قادها زيد بن حارثة ﵁ في رمضان عام (6هـ)، ومعظم سكانها من اليهود. إذ قد انتبه الرسول ﷺ لخطر اليهود الكبير -إثر تحالفهم مع المشركين يوم الخندق- فكانت تلك السرية لتأمين ذلك الخطر العظيم.

5- [غزوة خيبر] (عام 7هـ) وهذه قادها النبي ﷺ بنفسه، وكانت الإجراء العملي لفتح الطريق إلى الشام. لذا لم تعرف أسباب هذه الغزوة سوى ما ذكرنا، وقد تكون من أسبابها معاقبة يهود خيبر على هجومهم على دولة النبي ﷺ يوم الأحزاب/الخندق.

6- [سرية فدك الثانية وسرية الجناب] بقيادة بشير بن سعد ﵁ سنة (7هـ).

7- [سرية ذات أطلاح] في العام (8 هـ) شارك فيها (15) صحابيًّا تحت إمرة كعب بن عمير الغفاري ﵁، وهي أول سرية في فلسطين وهي تحت حكم البيزنطيين؛ وذلك لدعوة الناس للإسلام وكسب ود القبائل العربية هناك، ولكن لم يقبل منهم أحد الإسلام وقاموا عليهم واستشهدوا جميعًا ﵃.

8- [سرية مؤتة] (عام 8هـ) تحت قيادة زيد بن حارثة ﵁ -ومن بعده جعفر بن أبي طالب، ومن بعده عبد الله بن رواحة ﵃- وهي معلومة مشهورة. وكان من أسبابها إرادة النبي ﷺ فتح الطريق إلى الشام من جهة تبوك وتأمينه، وردًّا على قتل شرحبيل بن عمرو الغساني للحارث بن عمرو ﵁ رسول رسول الله ﷺ.

9- [سرية الجناب الثانية] (9هـ) لم نقف في كتب التاريخ والسير على ذكر سببها أو نتائجها، لكن يمكن أن نقول: إنها كانت تحضيرًا لما بعدها والتأكد من ولاء أهلها؛ خاصة أنهم كانوا حلفاء البيزنطيين.

10- [غزوة تبوك] أهم وأكبر غزوة في حياة النبي ﷺ؛ فهي الأكبر من حيث عدد الرجال، والأبعد مسافة، وفي شدة الحرب وبعد أن طاب الثمر.

وكان هدف النبي ﷺ هو فتح الطريق إلى بيت المقدس؛ وقد شاور ﷺ أصحابه بالتقدم والتوغل أكثر –بعد أن وصل ولم يجد أحدًا من جيش الروم- فكانت مشورة أصحابه ﵃ بالرجوع إلى المدينة، وأن الغرض من الغزوة قد تحقق من إرهاب البيزنطيين، وتأمين الطريق من خلال العهود التي اتخذها مع باقي القبائل.

ويبدو أنه ﷺ حين وصل تبوك، أدرك -بوحي من الله ﷿- أنه لن يفتح بيت المقدس، وهذا ما قاله النبي ﷺ لعوف بن مالك؛ فعند البخاري من حديث عوف بن مالك ﵁ قال: أتيت النبي في غزوة تبوك في قبة من ادم فقال الرسول ﷺ: اعدد ستًّا بين يدي الساعة: (موتي ثم فتح بيت المقدس..) [الحديث] ([9])

11- [بعث أسامة] وهي آخر حملة عسكرية عقدها النبي ﷺ في حياته بعد عودته من حجة الوداع عام (11هـ) لكن حال دونها اشتداد المرض بالنبي ﷺ ووفاته.

ومما يدل على أهميتها وعظيم أمرها أن النبي ﷺ أوصى بها قبل موته مؤكدًا عليها؛ قائلًا وهو في شدة المرض وسياقة الموت: (أنفذوا جيش أسامة).

وقد أراد بها النبي ﷺ غزو الروم وإثارة الرعب فيهم، والانتقام لما حدث للمسلمين في مؤتة، ولقتلهم بعض من أسلم منهم كفروة الجذامي ﵁ الذي كان عاملًا للروم على فلسطين وما حولها، فأسلَم وكتب إلى رسول الله ﷺ بإسلامه، وبلغ ملك الروم إسلام ‌فروة فدعاه، فقال له: ارجع عن دينك نُمْلكك، قال: لا أفارق دين محمّد وإنّك تعلم أنّ عيسى قد بشَّر به ولكنك تضنّ بملكك، فحبسه ثم أخرجه فقتله وصَلَبه. ([10])

 

نخلص من ذلك كله:

أن النبي ﷺ مات عام (11هـ) وقد حقق مشروع تحرير بيت المقدس وبقي فقط الخطوة الأخيرة، بعد أن تمهدت وتحققت كل الطرق والمحطات عن طريق الاتفاقات والإقطاعات والرسائل والغزوات والسرايا، كل هذا المشروع مهد له النبي ﷺ ولم يكن بينه وبين فتح المقدس إلا خطوة واحدة، وهذا ما يفسر سرعة فتحه بعد موته ﷺ؛ غذ فتح في عهد عمر ﵁ عام 15 هـ أي بعد موت النبي ﷺ بأربع سنوات فقط.

وهنا فائدة ولفتة عظيمة ينبغي أن ينتبه لها القادة والمصلحون، وهي أن الإنجازات العظيمة الكبيرة تمر بمراحل طويلة، وليس معنى أن التاريخ والناس بشكل عام يركّزون على الخطوة الأخيرة والنتيجة النهائية أن الخطوات الأولية الممهدة ليست إنجازًا أو مهمة، بل من تأمل عَلِم عِلمَ اليقين أن النهاية الكبيرة ما كانت لتتحقق إن لم يسبقها خطوات ومقدمات وتضحيات كبيرة وعظيمة وطويلة، فرجل كصلاح الدين الأيوبي ﵀ الذي تحرر على يده بيت المقدس؛ ما كان ليحقق هذا الإنجاز والنصر العظيم لولا أن هيّأ الله ﷿ له رجلًا مثل نور الدين زنكي الذي ظل طيلة عشرين سنة يمهّد الطريق ويقوم على إصلاح المجتمع وإغلاق دور الخنا وكسر الخمور ونشر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلما جاء بعده صلاح الدين وجد جنودًا صالحين استطاع بهم أن يحقق ذلك الإنجاز وذلك الفتح العظيم.

وعليه: فالقادة الحقيقيون لا يتعجّلون النصر قبل أوانه، بل يشتغلون في تهيئته وتمهيد الطريق له وأخذ الأسباب الممكنة والمتاحة للوصول للنتيجة في وقتها الصالح لها، فالقائد الحق الحكيم لا ينتزع النصر انتزاعًا تعجلًا ومخالفة للسنن الربانية والكونية، بل يظل يخطط ويمهّد السبل ويتحرك في حدود قوته والمتاح الممكن حتى يتحقق في النهاية الهدف المنشود، سواء تحقق ذلك على يديه، أو على يد من يجيء بعده، كما هو الحال فيما فعله النبي ﷺ من تمهيد الطريق لفتح بيت المقدس ثم جاء بعده عمر ﵁ وأكمل المحطة الأخيرة وفتح الله على يديه.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

_____________________________

[1] أخرجه أحمد (29/ 273).

[2] قال ياقوت الحموي في معجم البلدان» (1/ 154): إِرَمٌ -بالكسر ثم الفتح- والإرم في أصل اللغة حجارة تنصب في المفازة علَمًا، والجمع آرام وأروم -مثل ضلع وأضلاع وضلوع-، وهو اسم علَم لجبلٍ من جبال حِسْمى من ديار جذام بين أيلة وتيه بني إسرائيل، وهو جبلٌ عالٍ عظيمُ العلو، يزعم أهل البادية أنّ فيه كرومًا وصنوبرا.

[3]انظر: إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين لابن طولون الدمشقي (ص: 148-149)، معجم البلدان لياقوت الحموي (1/155)، مرويات الوثائق المكتوبة من النبي § وإليه جمعًا ودراسة لمحمد بن عبد الله الصبحي (ص: 482-483).

[4] انظر: مرويات الوثائق المكتوبة من النبي § وإليه جمعًا ودراسة (ص: 530-531).

([5]) البخاري (7)، مسلم (1773).

([6]) انظر: دلائل النبوة للبيهقي (5/247-248)، سيرة ابن هشام (2/ 525).

([7]) «مغازي الواقدي» (3/ 1032)، وانظر نص المعاهدة بصورة أكثر تفصيلًا في الطبقات الكبرى لابن سعد (1/239-240)، فتوح البلدان للبلاذري (ص: 67).

([8]) مغازي الواقدي (3/ 1032)، وانظر أيضًا: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/251)، دلائل النبوة للبيهقي (5/248).

([9]) صحيح البخاري (3176).

([10]) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 243)، سيرة ابن هشام (2/591-592).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى