
الافتاحية: الجيش الحضاري!
يرتكب المحتلون وعملاؤهم -بشكل يومي- في أفغانستان مجازر مروّعة ومظالم بشعة بحق الشعب الأفغاني؛ دون أي رادع أخلاقي أو قانوني أو ديني. ويتّفق المراقبون والمحلّلون على أن وتيرة الاعتداءات الدموية التي ترتكبها قوات الاحتلال بالقصف والمداهمات الليلية؛ آخذة في الصعود خلال السنوات القليلة الماضية، وأن عدد ضحايا التقنية العسكرية الأمريكية المُستخدمة على رؤوس العُزّل والمدنيين الأفغان آخذ في الارتفاع.
آخر ضحايا الاحتلال الأمريكي كانت عائلة مكوّنة من رجل يُدعى (عبدالهادي آخندزاده) وزوجته وابنتهما الرضيعة بمديرية “ده يك” بولاية غزني، عندما قصفت منزلهم طائرات الاحتلال في السابع عشر من شهر سبتمبر المنصرم؛ مما أدى إلى استشهادهم جميعاً.
وما مأساة آل (عبدالهادي) إلا قصة قصيرة ضمن رواية مأساوية طويلة متجددة كتب فصولها الاحتلال الأمريكي منذ اعتدائه على أفغانستان، ولم يضع لها نقطة النهاية حتى اليوم.
هذه الجريمة وغيرها من الجرائم البشعة يرتكبها “الجيش الحضاري”، جيش الدولة ذات الحضارة العمرانية والتخلّف “الإنساني”، جيش الدولة ذات النهضة العلمية والإنحطاط “القيمي”، الجيش الذي أمِن العقوبة، فأساء الأدب!
خاصة إذا علمنا أن الاتفاقية الأمنية التي وقعتها الحكومة العميلة مع أمريكا تحمي الجيش الأمريكي من مجرد المساءلة -فضلاً عن المحاكمة- على الجرائم التي يرتكبها بحق المدنيين الأفغان، إذ تنص الاتفاقية في أحد بنودها (المادة رقم 13) على أن منتسبي القوات الأميركية يتمتعون بحصانة قضائية كاملة في أفغانستان، وأن هؤلاء لن يحاكموا وفق القانون الأفغاني على أية جريمة يرتكبونها ضد أي أحد داخل الأراضي الأفغانية، ولا يحق للجهات الأمنية الأفغانية إلقاء القبض على أي أحد من منتسبي القوات الأميركية تحت أية ظروف، وإذا حصل ذلك وأُلقي القبض على أحد من هؤلاء تحت أية ظروف أو لأي سبب يسلمه للجهات الأميركية بأسرع ما يمكن، كما أنه لا يسلم أي أحد من أفراد القوات الأميركية إلى أية محكمة جنائية عالمية أو إلى جهة أو دولة أخرى من غير موافقة صريحة من أميركا.
ولكنّ الثابت والأكيد هو أن الجيش الأمريكي فاقد للشرف وللقيم وللأخلاق وللإنسانية (حتى قبل إقرار هذه الاتفاقية التي خرجت من مطبخه والتي تُطلق يده في الإفساد والطغيان؛ والتي أمِن بها من العقوبة)، ولا أدلّ على ذلك من الفعلة المقزّزة التي تترفّع عن فعل مثلها أخس الحيوانات، والتي قام فيها عدد من جنود جيش الاحتلال الأمريكي بالتبول على جثث شهداء أفغان في يوليو 2011م (أي قبل توقيع الاتفاقية بثلاث سنوات).
كما يستعصي على الأذهان نسيان حوادث حرق نسخ من المصحف الشريف على أيدي جنود “الجيش الحضاري” أو نسيان مجزرة قندهار التي وقعت في مارس 2012م (قبل توقيع الاتفاقية بسنتين) والتي قام فيها جنود في “الجيش الحضاري” بقتل 19 من المدنيين الأفغان وإضرام النار بجثثهم، فاستشهد نتيجة ذلك 9 أطفال و6 نساء و4 مسنّين، 11 منهم من عائلة واحدة.
هذه وغيرها من الانتهاكات البشعة يستعصي على الأذهان إلقائها في يمّ النسيان.
والعجيب أن مثل هذه الفعال الخسيسة والدنيئة لا تخرج إلا من مدّعي “الحضارة” و”التمدّن” و”التطوّر” من ذوي العيون الزرق.
وما أصدق قول الشيخ علي الطنطاوي في وصف هؤلاء، إذ يقول في كتابه هتاف المجد (ص107-108): “إن الإنكليزي أو الفرنسي (ونقول: الأمريكي)، لا يتأخر عن شكرك إن ناولته المملحة على المائدة، ولا يُقصّر في الاعتذار إليك إن داس على رجلك خطأً في الطريق، وإن رأى كلباً مريضاً تألم عليه وحمله إلى الطبيب، وهو أنيق نظيف مهذب اللفظ لا يستهين بذرة من هذه الآداب .
ولكنه لا يجد مانعاً يمنع رئيس وزرائه أن يأمر فيصب النار الحامية على البلد الآمن، فيقتل الشيوخ والنساء والأطفال، ويدمر ويخرب ويذبح الأبرياء، ويفعل مالا تفعله الذئاب ذوات الظفر والناب، ويَدّعي أنه هو المتمدن!
أهذه هي المدنيّة؟ إن كانت هذه المدنيّة وهؤلاء هم المتمدنين فلعنة الله على المدنيّة وعلى أهلها”.