الافتتاحية: الحرب الخاسرة
على استحياء ومضض، يعترف الاحتلال الأمريكي في أفغانستان بأنه فقد حوالي 2,386 من جنوده قتلى، و 20,049 آخرين جرحى، في المعارك المشتعلة على أرض أفغانستان منذ أكتوبر عام 2001م. هذا عدا عن التكلفة المالية الباهضة التي أنفقها والتي تقدر بترليون دولار، وعدا عن أعداد القتلى والجرحى في صفوف دول التحالف الأخرى التي تُشارك في احتلال أفغانستان.
سقوط هذا العدد الضخم من القتلى والجرحى في صفوف الجيش الذي يُوصف بأنه الأقوى على مستوى العالم، واشتعال الجبهات القتالية ضد جنوده على مدى عقد ونصف من الزمان، والتباين الواضح بين ميزاني القوى المادية بين معسكري الصراع (معسكر الاحتلال ومعسكر الشعب الأفغاني المجاهد)، وإنفاق مبلغ مهول من الدولارات لإخضاع بلد طحنته الحروب لا يمتلك ربع إمكانات أصغر دولة من دول التحالف؛ ألا يشير كل ذلك إلى مدى عبثية وفشل واعتباط هذه الحرب التي ابتدأها ساسة أمريكا على بلد فقير كأفغانستان؟!
إنه لمن المضحك، بعد مضي أكثر من 15 عاماً، أن يستمر الاحتلال الأمريكي بخداع نفسه وشعبه بالتفتيش عن بصيص أمل داخل الهوّة السحيقة التي أسقط نفسه فيها بعدوانه على أرض الأفغان، وبالطمع في أن يحظى بشبه نصر أو حتى بنصف هزيمة من خلال الاستمرار في احتلال البلاد أو زيادة أعداد جنوده المحتلين فيها.
إن المخرج الوحيد -والوحيد فقط- أمام الاحتلال الأمريكي من المأزق الذي خلقه لنفسه في أفغانستان هو الفرار من البلاد والنجاة بمن تبقى من جنوده وآلياته وطائراته، أما المُضي قُدُماً في السياسة المتعجرفة بخنق أنفاس الشعوب وتدنيس أرضها ونهب خيراتها وإرهابها بالعصا الغليظة، فمحالٌ أن يصل بالمحتلين إلى أن يكون لهم موطئ إصبع (ولا نقول موطئ قدم) في أفغانستان.
وبما أن قيادة سياسية جديدة تولّت الأمور في أمريكا برئاسة دونالد ترامب، فالمفترض منها أن لا تسير على ذات الطريق الذي بدأه (جورج بوش) وأكمله (باراك أوباما)، وأن لا تكرر نفس السياسات الخاطئة التي لم تؤدي إلا لزيادة تكاليف الحرب على حساب دافعي الضرائب الأمريكيين وزيادة أعداد قتلى وجرحى الجيش الأمريكي دون تحقيق أية مكتسبات حقيقية على أرض الواقع.
وقديماً قيل: “الغباء هو فعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات مع انتظار نتائج مختلفة!”. وإن الحقائق الملموسة على أرض أفغانستان لتبرهن على صدق هذه المقولة، فالسيناريو “الأوبامي” الذي ظل يدور في حلقة مفرغة بزيادة أعداد جنود الاحتلال والإبقاء على عدد منهم في البلاد، أتاح للمجاهدين فرصة أكبر لتمريغ أنف الاحتلال في الأوحال والطين واقتناص أكبر عدد ممكن من جنوده المجرمين بمختلف عمليات المقاومة.
ثم أليست السنين الخمسة عشر من الحرب المستعرة؛ جديرة بأن يكشف الاحتلال الأمريكي لمواطنيه أوراقه علانية، فيوضح لهم مالذي حققه في أفغانستان في هذه السنوات الطوال، ومالعائد الذي جناه من ورائها، ولأجل ماذا يبقى مزيداً من الأعوام في هذه البلاد التي تلفظه جماداتها وحيواناتها قبل أناسيّها؟!
لقد تضاءلت المساحة الإخبارية المخصصة لتطورات الأوضاع على الساحة الأفغانية شيئاً فشيئاً على وسائل الإعلام العالمية بمرور الأعوام، لا لأن المقاومة اضمحلّت وانتهت، بل هي -ولله الحمد- في تطور مبهر واشتعال دائم لا ينطفئ، ولا لأن الاحتلال لا يرتكب مجازر بشعة بحق الشعب الأفغاني، بل مجازره أفظع وأبشع من أن تُحصى، ولكن لأن الاحتلال يفرض سياسة التكتيم على ما يحصل في هذه البقعة المنيرة من العالم الإسلامي، فكل ما يحصل على مسرح أفغانستان من انتصارات للمقاومة وخسائر للاحتلال وحكومته العميلة أو من جرائم يرتكبها الجنود المحتلين بحق المواطنين الأفغان، كل ذلك يعدّه الاحتلال سوءة يجب عليه سترها ومواراتها حتى لا يكون عرضة للمساءلة والمحاسبة من قبل الرأي العام.
إن كل ما ذكرناه آنفاً يقودنا إلى حقيقة واحدة لا مناص من التسليم بها، وهي أن حرب أمريكا على أفغانستان وُلدت خاسرة، واستمرت خاسرة، وستنتهي -عما قريب بإذن الله- خاسرة.