
الافتتاحية: الولايات المتحدة بين اندحار وهجوم
الشعب الأفغاني بقيادة الإمارة الاسلامية، منشغل الآن بدفن الامبريالية الأمريكية في ثرى أفغانستان بجانب سابقاتها من امبراطوريات الغزو البائد للبلد.
استعراض القوة الجنوني الذي رافق الاحتلال الأمريكي لم يكسر إرادة المقاومة لدى الأفغان، ولم يجد الخوف أو الإحباط طريقه إلى أرواح المجاهدين، ولا إلى عزيمة الإمارة الإسلامية التي قامت على سواعد فقراء أفغانستان في ثورة إسلامية ضد الطواغيت من عملاء المستعمر الذين حكموا كابول، ونشروا الخراب والقتل في أفغانستان بعد أن سرقوا ثمرة جهاد الشعب الأفغاني ضد السوفييت.
لم تستسلم الامبراطورية الأمريكية المندحرة لقدَرها الذي جرى على أيدي مجاهدي الإمارة، فالغطرسة الأمريكية والاغترار بالقوة منعاها من الاتعاظ بالاتحاد السوفيتي الذي تهاوى بعد أن مُنّي بالهزيمة النكراء وغادر المسرح الدولي غير مأسوف عليه. وبدلاً من الاتعاظ والاعتبار، خاضت الامبريالية الأمريكية التي تتقهر في كافة الميادين داخلياً ودولياً، خاضت قتالاً ضارياً على مساحة واسعة من العالم ضد عدوين أساسين:
الأول: هو الإسلام، مُمثلاً في الشعوب الإسلامية جميعها، خاصة تلك التي مازالت تمتلك بعض الحرية للعمل من أجل دينها، أو تلك التي تمتلك أراضي ومناطق تحتوي ثروات كبيرة أو مخزونات طاقة أو مواقع استراتيجية حاكمة.
الثاني: هو نظام عالمي قيد التشكيل، وفيه تنتقل مركزية العالم صوب قارة آسيا حيث يتنامى الثقل الاقتصادي والسكاني، وحيث للمسلمين فرصة كبيرة ونادرة للعب دور فاعل يكونون فيه كتلة حضارية، ومخزوناً معنوياً وروحياً يحتاجه العالم بشدة. حيث أن غياب الدور المعنوي الرسالي للمسلمين كان سبباً في شقاء الإنسانية لعدة قرون، بل وكان سبباً في شقاء المسلمين أنفسهم بعد أن أضاعوا رسالتهم فضاعت قيمتهم في العالم وتمزقوا إلى كيانات شتى، وهاهم يتقاتلون الآن ليتحوّلوا إلى قبائل وطوائف يُفني بعضها بعضاً بوحشية تفتقدها وحوش الغابات.
لقد غرقت المنطقة العربية في صراعات داخلية، ضاعت فيها الشعوب، وضلّت الأفهام والأقدام، وعميت الأبصارعن فلسطين، وتحالف العرب مع عدوهم ليقاتلوا أنفسهم ويدمّروا بلادهم، ويستقدموا جيوش الاستعمار القديم والجديد ويمدونها بالرجال والأموال، ويستعينون بها لقتل أنفسهم وتخريب ديارهم. وذلك جزء هام من برنامج حرب الاستنزاف الذي تديرها الولايات المتحدة في أهم مناطق نفوذها، وسر قوتها في العالم، وهي المنطقة العربية. وثمّة فصول أخرى من حرب الاستنزاف تديرها القوة الأمريكية، فصول تمتد من أوكرانيا الأوروبية وصولاً إلى غرب أفريقيا المسلمة وشرقها الصومالي العربي، وصولاً إلى نقطة البداية في أفغانستان.
ورغم هزيمتها في أفغانستان وتراجع قيمتها الدولية، فإن أمريكا تدير حرباً هجومية في بلاد العرب. وفي ذلك توضيح للفرق بين حالتين إسلاميتين يصعب المقارنة بينهما، حالة ترفض الإحتلال وتقاومه وتهزمه، وحالة أخرى تستدعيه وتتحالف معه وتنتحر تحت قدميه.
اندحار هنا وهجوم هناك، يمكن فهم ذلك عندما ننظر إلى حالة إسلامية مجاهدة يحتضنها شعبها ويضخ فيها من دمه وماله وأرواح شبابه، ثم نقارنها بحالة إسلامية أخرى تتاجر بالإسلام، وتستبيح دماء المسلمين في مقابل الدولار واليورو. لقد قهر مجاهدوا أفغانستان أمثال ذلك الإنحراف المتسربل بالإسلام، ولم يتركوه ليستحكم ويستقر ويستبد، بل حاصروه في كابل، وهم يدكّون مواقعه أينما حاول الفرار، إلى أن يرحل مع رعاته الأمريكين المتبقّين في البلد. فإما أن يرحل المحتلون مصطحبين معهم العملاء بأشكالهم القبيحة المزيفة، أو أن يدفعوا عن أنفسهم الموت إن استطاعوا. فالمحتل الذي لم يبادر بالفرار من أفغانستان لم يتبقَ أمامه سوى أحد خيارين هما: إما القتل أو الأسر. وليسأل الأمريكيون إخوانهم الإنجليز عن خبرتهم في غزو أفغانستان.