الثبات.. طريق النّصر والتمكين
أبو غلام الله
إنّ الثبات صفة من صفات المؤمنين، يأمرهم بها ربهم ويحثهم عليها، ولقد خاطب رب العزة المؤمنين بالثبات عند ملاقاة الأعداء، على أن يستعينوا بذكره حتى يحقق لهم النصر والفلاح.
وعلى العاقل أن ينظر إلى حال الثابتين على مبادئهم سواء أكانوا منّا – أهل الحق – أم كانوا من أهل الباطل والعقائد الضالة، فإنّهم يصلون إلى أهدافهم ولو بعد حين، لكن بعد ثبات عظيم وتضحيات كثيرة. ألم تر إلى الأحزاب الشيوعية كيف ثبتت على باطلها حتى تولت الحكم في بلاد كثيرة في أروبا وآسيا وغيرها، وكذلك أهل الحق يصلون إلى مرادهم من زمان الرسل والأنبياء حتى يومنا هذا، لكن لا بد من ثبات عظيم وصبر جميل.
قال تعالى: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا). {النساء: 104}.
ينبغي للمجاهد أن لا يستبطئ النّصر، فيقول متى نصر الله؟ ها نحن نجاهد وتأخّر عنا نصر الله. بل عليه أن يتدبّر في القرآن العظيم. فالقرآن العظيم مصدر تثبيت وهداية؛ وذلك لما فيه من قصص الأنبياء مع أقوامهم، ولما فيه من ذكر مآل الصالحين، ومصير الكافرين والجاحدين والمعاندين، ولما فيه – أيضًا- من ذكر تثبيت الله لرسله وأوليائه بأساليبَ متعددة. فالقارئ للقرآن العظيم بتدبر وإيمان، يرزقه الله تعالى الثبات ويهديه طريق الرشاد، وهاك أخي المجاهد بعضًا من تلك الآيات الكريمات:
قال الله تعالى:
1 – (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴿۱۲﴾) سورة الأنفال.
2 – (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴿۱۴۶﴾) سورة آل عمران.
3 – (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴿۱۴۹﴾ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴿۱۵۰﴾) سورة آل عمران.
4 – (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿۱۲۰﴾) سورة هود.
5 – (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴿۳۲﴾) سورة الفرقان.
6 – (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿۴۳﴾) سورة الزخرف.
7 – (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴿۳۵﴾) سورة محمد.
كان صلاح الدين الأيوبي محاصرًا الصليبيين في عكّا ثلاث سنين متصلة، في أحوال عصيبة، وقوارعَ مخيفة، وكان وزيره القاضي الفاضل مرافقًا ابن صلاح الدين الوالي على مصر من قبل أبيه، فافتقد صلاح الدين أهم عضد له ونصير ألا وهو القاضي الفاضل- كما هو معروف من سيرتهما – لكن القاضي الفاضل كان يُرسل لصلاح الدين رسائل رائعة من مصر يثبته ويقوي عزمه، وكان صلاح الدين يبثه همومه وآلامه، وكانت تلك الرسائل من أجمل وأحسن وأبلغ رسائل التثبيت، وإليك أخي المجاهد بعضها:
كان صلاح الدين رحمه الله تعالى قد استبطأ النّصر، فأرسل إليه القاضي الفاضل رحمه الله تعالى قائلًا:
«إنما أُتينا من قِبَل أنفسنا، ولو صدقناه لعجل لنا عواقب صدقنا، ولو أطعناه لما عاقبنا بعدوّنا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به، فلا يستخصم أحد إلا عمله، ولا يلم إلا نفسه، ولا يرج إلا ربه، ولا تنتظر العساكر أن تكثر، ولا الأموال أن تحضر، ولا فلان الذي يُعتقد عليه أن يقاتل، ولا فلان الذي ينتظر أنه يسير، فكل هذه مشاغل عن الله ليس النصر بها ولا نأمن أن يكلنا الله إليها، والنصر به واللطف منه، والعادة الجميلة له، ونستغفر الله سبحانه من ذنوبنا فلولا أنها مَسَدُّ طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل، ولكن في الطريق عائق، خار الله لمولانا في القضاء السابق واللاحق»
ومن كتاب آخر: (و عسكرنا لا يشكو – والحمد لله – منه خوراً، وإنما يشكو منه ضجراً، والقوى البشرية لا بد أن يكون لها حدّ، والأقدار الإلهية لها قصد، وكل ذي قصد خادم قصدها، وواقف عند حدها، وإنما ذكر المملوك هذا ليرفع المولى من خاطره مقت المتقاعس من رجاله كما يثبت فيه شكر المسارع من أبطاله، قال تعالى: (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر).
(يا مولانا: أليس الله تعالى اطلع على قلوب أهل الأرض فلم يؤهل ولم يستصلح ولم يختر ولم يُسهل ولم يستعمل ولم يستخدم في إقامة دينه وإعلاء كلمته وتمهيدسلطانه وحماية شعاره وحفظ قبلة موحديه إلا أنت، هذا وفي الأرض من هو للنبوة قرابة، ومَن له المملكة وراثة، ومن له في المال كثرة، ومن له في العدد ثروة، فأقعدهم وأقامك وكسَّلهم ونشَّطك، وقبضهم وبسطك، وحبب الدنيا إليهم وبغَّضها إليك، وصعبها عليهم وهونها عليك، وأمسك أيديهم وأطلق يدك، وأغمد سيوفهم وجرّد سيفك، وأشقاهم وأنعم عليك، وثبطهم وسيرك: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عُدة ولكن كرِه الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين).
نعم وأخرى أهم من الأولى أنه لما اجتمعت كلمة الكفر من أقطار الأرض وأطراف الدنيا ما تأخر منهم متأخر ولا استبعد المسافة بينك وبينهم مستبعد، وخرجوا من ذات أنفسهم الخبيثة، لا أموال تنفق فيهم، ولا ملوك تحكم عليهم، ولا عصا تسوقهم،ولا سيف يزعجهم، مُهطعين إلى الداعي، ساعين في أثر الساعي، وهم من كل حَدَب ينسلون، ومن كل بر وبحر يقبلون، كنت يا مولانا – كما قيل – أبقاك الله:
ولست بملك هازم لنظيره **** ولكنك الإسلام للشرك هازم
هذا وليس لك من المسلمين كافة مساعدة إلا بدعوة ولا مجاهد معك إلا بلسانه، ولا خارج معك إلا بهمّ، ولا خارج بين يديك إلا بالأجرة، ولا قانع منك إلا بزيادة، تشتري منهم الخطوات شبراً بذراع، وذراعاً بباع، تدعوهم إلى الله وكأنما تدعوهم إلى نفسك، وتسالهم الفريضة كأنك تكلفهم النافلة، وتعرض عليهم الجنة وكأنك تريد أن تستأثر بها دونهم).
والآراء تختلف بحضرتك، والمشورات تتنوع بمجلسك، فقائل: لم لا نتباعد عن المنزلة، وآخر: لم لا نميل إلى المصالحة، ومتندم على فائت ما كان فيه حظ، ومشير بمستقبل ما يلوح فيه رشد، ومشير بالتخلي عن عكا، وما كأنها طليعة الجيش ولا خَرَزة السلك إن وهت تداعى السلك، فألهمك الله قتل الكافر، وخلاف المخذّل، والتجلد وتحت قدمك الجمر، وأفرشك الطمأنينة وتحت جنبك الوعر.
ولكن مولانا صفيحة وجهه كضوء شهاب القابس المتنور
قليل التشكي للمهم نصيبه كثير الهوى شتى النّوى والمسالك
لا شبهة أن المملوك قد أطال، ولكن قد اتسع المجال، وما مراده إلا أن يشكر الله على ما اختاره له ويسره عليه، وحببه إليه، فرب ممتحن بنعمة، ورب منعَم عليه بمشقة، وكم مغبوط بنعمة هي داؤه، ومرحوم من بلوى هي دواؤه، ويريد المملوك بهذا أن لايتغير لمولانا – أبقاه الله – وجه عن بشاشة، ولا صدر عن سَعة، ولا لسان عن حسنة، ولا تُرى منه ضجرة، ولا تُسمع منه نهره، فالشدة تذهب ويبقى ذكرها، والأزمة تنفرج ويبقى أجرها، وكما لم يُحدث استمرار النعم لمولانا – عز نصره – بطراً فلا تُحدث له ساعات الامتحان ضجراً، والمملوك يستحسن بيتي حاتم، ومولانا – أبقاه الله وخلد سلطانه وملكه- يحفظهما:
شربنا بكأس الفقر يومًا وبالغنى وما منهما إلا سقانا به الدهر
فما زادنا بغيًا على ذي قرابة غنانا ولا أزري بأحسابنا الفقر
والمملوك بأن يسمع أن مولانا – عز نصره – على ما يعهده من سعة صدر أسرُّ منه بما يسمعه من بشائر نصره، وياليتني كنت معهم، وماذا كانت تصنع الأيام إما شيباً من مشاهدة الحروب، فقد شبنا والله من سماع الأخبار، أو غُرماً يمكن خُلفه من الوفر فقد غرمنا والله في بُعد مولانا ما لا خُلف له من العمر، أو مرض جسم فخيره ما كان الطبيب حاضره، ولقد مرضنا أشد المرض لفراقه غير أن التجلد ساتره.
ومن كتاب آخر: ولا بد أن تنفذ مشيئة الله في خلقه، لا رادَّ لحكمه، فلا يتسخط مولانا بشيء من قدره، فلأن يجري القضاء وهو راض مأجور خير من أن يجري وهو ساخط موزور، من شكا بثه وحزنه إلى الله شكا إلى مشتكى واستغاث بقادر، ومن دعا ربه خفياً استجاب له استجابة ظاهرة، فلتكن شكوى مولانا إلى الله خفية عنا، ولا يقطع الظهور التي لا تشد إلا به، ولا يُضيّق صدوراً لا تنفرج إلا منه، وما شرد الكرى، وأطال على الأفكار ليل السُّرى إلا ضائقة القوت بعكا، ولم يبق إلا ضعف نعم المعين عليه ترويح النفس وإعفاؤها من الفكر، فقد علم مولانا بالمباشرة أنه لا يُدبر الدهر إلا برب الدهر، ولا ينفذ الأمر إلا بصاحب الأمر، وأنه لا يقلّ الهم إن كثر الفكر.
قد قلت للرجل المقسَّم أمرُه **** فوض إليه تنم قرير العين
وكل مقترح يجاب إليه إلا ثغراً يصير نصرانياً بعد أن أسلم، أو بلداً يخرس فيه المنبر بعد أن تكلم، يا مولانا: هذه الليالي التي رابطت فيها والناس كارهون، وسهرت فيها والعيون هاجعة، وهذه الأيام التي ينادي فيها: ياخيل الله اركبي، وهذه الساعات التي تزرع الشيب في الرؤوس هي نعمة الله عليك، وغراسك في الجنة: ( يوم تجدُ كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً )، وهي مُجَوِّزاتك على الصراط، وهي مثقلات الميزان، وهي درجات الرضوان، فاشكر الله عليها كما تشكره على الفتوحات الجليلة، واعلم أن مثوبة الصبر فوق مثوبة الشكر
من ربط جأش أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: (لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت)، وبهذه العزائم سبقونا وتركونا لا نطمع في اللحاق بالغبار، وامتدت خطاهم
ونعوذ بالله من العثار، ما استعمل الله في القيام بالحق إلا خير الخلق، وقد عرف ما جرى في سير الأولين، وفي أنباء النبيين، وأن الله تعالى حرض نبيه صلى الله عليه وسلم على أن يهتدي بهداهم، ويسلك سبيلهم، ويقتدي بأولي العزم منهم.
و ما ابتلى الله سبحانه من عباده إلا مَن يعلم أنه يصبر، وأمور الدنيا ينسخ بعضها بعضاً وكأنَّ ما قد كان لم يكن، ويذهب التعب ويبقى الأجر، وإنما يقظات العين كالحلم، وأهم الوصايا أن لا يحمل المولى هماً يضعف جسمه، ويضر مزاجه، والأمَّه بنيان وهو – أبقاه الله تعالى – قاعدته، والله يثبت تلك القاعدة القائمة في نصرة الحق.
و مما يستحسن من وصايا الفرس: إن نزل بك مافيه حيلة فلا تعجز، وإن نزل بك ماليس لك فيه حيلة – والعياذ بالله – فلا تجزع، ورب واقع في أمر لو اشتغل عن حمل الهم به بالتدبير فيه مع مقدور الله لانصرف همه، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله.
هذا سلطان هو – بحول الله – أوثق منه بسلطانه، قاتلت الملوك بطمعها وقاتل هذا بإيمانه، وإذا نظر الله إلى قلب مولانا لم يجد فيه ثقة بغيره، ولا تعويلاً على قوة إلا على قوته فهنالك الفرج ميعاده، واللطف ميقاته، فلا يقنط من روح الله، ولا يقل متى نصر الله، وليصبر فإنما خلق للصبر، بل ليشكر فالشكر في موضع الصبر أعلى درجات الشكر، وليقل لمن ابتلَى: أنت المعافي، وليرض عن الله سبحانه فإن الراضي عن الله هو المسلم الراضي).
وكتب السلطان إلى القاضي الفاضل كتاباً من بلاد الفرنج يخبره عما لاح له من أمارات النصر ويقول: ما أخاف إلا من ذنوبنا أن يأخذنا الله بها.
فكتب إليه الفاضل: فأما قول المولى: إننا نخاف أن نؤخذ بذنوبنا، فالذنوب كانت مثبته قبل هذا المقام وفيه محيت، والآثام كانت مكتوبة ثم عفي عنها بهذه الساعات وعَفيت، فيكفي مستغفراً لسان السيف الأحمر في الجهاد، ويكفي قارعاً لأبواب الجنة صوت مقارعة الأضداد، ولعَين الله موقفك، وفي سبيل الله مقامك ومنصرفك، وطوبى لقدم سعت في منهاجك، وطوبى لنفس بين يديك قَتلت وقُتلت، وإن الخواطر تشكر الله فيك وعن شكرها لك قد شُغلت.