
الجهاد تزكية وإحسان
إن تزكية النفوس وتربيتها تربية ربانية دينية،كانت من أهمّ وظائف الأنبياء في كل عصر ومصر، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة:151).
والمجاهد في سبيل الله كذلك يحتاج إلى كبح هوى النفس، وإلى تزكية النفس الأمّارة بالسوء، وإلى تربية إيمانية مقتبسة من نور مشكاة النبوة التي ليس على وجه الأرض نور يستضاء به سواها، وبما أنّ جهادنا عقيدة وسلوك وتربية، يلزم المجاهد أن يسلك في حياته الجهادية مسالك التزكية والإحسان؛ لأن تزكية النفوس للمؤمن المجاهد كالماء للسمك، وهي معقل المجاهد ومفزعه، والجهاد في سبيل الله ترياق لسموم النفس وأمراض القلب، ومكائد الشيطان ليس لها ترياق آخر يماثل الجهاد في سبيل الله في القوة والتأثير.
فالمجاهد المخلص إذا جاهد في سبيل الله بجدّ وإخلاص وأمانة بلغ الغاية من تهذيب الأخلاق وتزكية النفس، وإذا أخذ بعروة الجهاد فقد سعد وتزكى، وإذا أخذ بها مجتمع كان مجتمعاً مثالياً.
والحقيقة التي لايختلف عليها اثنان، أنّ دعوته صلى الله عليه وسلم لم تكن مقصورة على معرفة الله المعرفة الصحيحة الكاملة، ولاعلى العقائد الصحيحة الثابتة، ولا على العبادات القلبية والبدنية والمالية؛ بل مع ذلك كله كان الجهاد من خصائص دينه، وأركان دعوته، وأحب الأعمال إليه. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الأنفال: 39).
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ وَلَكِنْ لَا أَجِدُ حَمُولَةً وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ وَيَشُقُّ عَلَيَّ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَلَوَدِدْتُ أَنِّي قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقُتِلْتُ ثُمَّ أُحْيِيتُ ثُمَّ قُتِلْتُ ثُمَّ أُحْيِيتُ) رواه البخاري 36.
وقال: (مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ). رواه البخاري
وقال: (لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ يَعْنِي سَوْطَهُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا). رواه البخاري
وقال: (إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ). رواه مسلم
وقال: (مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ). رواه البخاري
وقال: (لايجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف امرئ مسلم). رواه الطبراني في الأوسط.
وقال: (رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا). رواه البخاري
أجل؛ أيها القارئ الكريم إن فيما سردنا من آيات وأحاديث في فضل الجهاد ودوره في تربية المجاهد وتكوين الفرد المثالي لكفاية وغنىً لكل مسلم ناصح لنفسه، بيد أني أريد أن أختم هذه السطور بوصايا وتجارب لفقيد الدعوة الإسلامية الإمام سيد أبي الحسن علي الندوي رحمه الله لتكون زاداً في حياتنا وذخراً بعد مماتنا:
1 – تصحيح العقيدة وعرضها على القرآن الكريم، لأنه المرآة الوضيئة التي يرى فيها كل إنسان وجهه وملامحه.
2 – لنعتنِ بالعبادات المشروعة وأركان الإسلام العملية الأربعة ظاهراً وباطناً وقالباً وروحاً ونترسم في ذلك بقدر الإمكان آثار خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 – رعاية حقوق العباد؛ فإن من الثابت أن الله تعالى يعفو عن التفريط في حقوقه لكن التفريط والخيانة في حقوق العباد والإخلال فيها إنما يوكل في الدنيا والآخرة إلى أصحاب هذه الحقوق من الناس.
4 – الإقبال على تهذيب الأخلاق وتزكية النفس وتخليتها عن الرذائل، وتحليتها بالفضائل؛ لأن الأخلاق الرذيلة هي الحجب الصفيقة التي تمنع من الانتفاع بالتعليمات النبوية والانصباغ بصبغة الله.
5 – وبعد هذا كله نلتفت إلى السيرة النبوية العطرة في كل الحياة، وفي الغدوات والروحات، وفي الأخلاق والمعاملات، ولنتخذها نبراساً للحياة وقدوة في الأعمال والحركات.
6 – نعيّن حزباً من القرآن الكريم نحافظ عليه بقدر الإمكان ولانتركه إلا مضطرين لعلة، أو بسبب قاصر ونعتبر من أسعد أوقاتنا وأصفاها حين نقرأ كلام الله.
7 – لابد أن نعيّن أذكاراً نلهج بها ونتخذها ورداً نحافظ عليه، زيادة على الأذكار التي تقترن بأوقات خاصة ومناجات خاصة.
8 – الاشتغال بمطالعة كتب سير الصالحين وربانيين من الأمة وأئمة العلم والدين المخلصين الزاهدين الذين اتفقت الأمة على حسن عقيدتهم وكمال اتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم.
9 – وليكن في حياتنا وفيما نهتم به نصيب للدعوة إلى الله تعالى، الغاية التي بعث لهما الرسل وأنزلت لها الكتب، وأخرجت لها هذه الأمة، فقد قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} آل عمران: 110.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104).
وليس للدعوة إلى الله وضع خاص ومجال محدود ومنهج مقرر رتيب لا يجوز العدول عنه.
10 – الاحتساب، ولقد كان الفارق الكبير بين الصحابة رضي الله عنهم والربانيين من هذه الأمة وبين عامة الناس الاحتساب واستحضار الفضائل. لذلك ينبغي أن لانعمل عملاً إلا وأن نصحح النية فيه قبل عمله، فتقوم به إيماناً واحتساباً بدل أن نعمله عادة أو كرغبة نفسية أو ضرورة طبيعية حتى الرزق الحلال ووسائل الكسب والمعيشة من وظيفة أو تجارة أو فلاحة أو مهن وصنائع.
11 – توثيق الصلة القلبية بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم والزيادة في حبه والحرص على الاقتداء به وذلك يمكن بكثرة الاشتغال بالحديث الشريف ومذاكرته ثم بكتب الشمائل والسيرة الموثوق بها، فمن أحب شيئاً أكثر ذكره، ومن أكثر ذكر شخص وتتبع دقائق أموره أحبه وكذلك الاطلاع على أخبار من عرفوا بالحب العميق والشغف العظيم بشخصه الرسول صلى الله عليه وسلم، فالاطلاع على أحوال المحبين وأقوالهم وشعرهم يورث الحب ويغذيه وينميه إذا كان موجوداً.
12 – وأخيراً إن من أعظم الأشياء تأثيراً في ترفيق القلب هو استحضار قصر الحياة وفناء مافي الدنيا وذكر الموت، وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أكثروا ذكر هازم اللذات) يعني الموت.
وليكن لنا حظ في مراقبة الموت والاهتمام الزائد بحسن الخاتمة؛ فإن العبرة بالخواتيم.