مقالات الأعداد السابقة

الحقد داءٌ دفينٌ….!

5288473718b69f5e o

في الآونة الأخيرة قام شابان غيوران على دينهما بهجوم جريء على مكتب صحيفة (شارلي ايبدو) الفرنسية التي أصرّت على الإساءة إلى نبي الرحمة الكريم، وكذلك السخرية من غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. المجلة تثير بتلك الصور الضجة، وما إن تهدأ تلك الضجة حتى تعيد نشرها مرة أخرى، وقد بدأت وقاحتها منذ إقدامها على رسم رسومات مسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم عدة مرات وعلى فترات متلاحقة في الأعوام ما بين 2011 و2014 مما أثار غضب العالم الإسلامي بأكمله.

هاجم المجاهدون مكتبها وقتلوا فيه 12 من المجرمين، وبعد الحادث فوراً عزمت المجلة على إصدار عدد جديد مصورة الرسوم المسيئة مرة أخرى، وطُبع العدد الجديد بملايين النسخ إمعاناً من الصحيفة المذكورة في تجريح مشاعر مليار وستمئة مليون مسلم في أنحاء المعمورة. وهكذا عادة الكفرة، يُكنّون الحقد في صدورهم الحاسدة. وبعد صدور العدد الجديد من المجلة، تداعت المساندات من الحاقدين البريطانيين، حيث وُضِعت صورة غلاف شارلي ايبدو على صفحاتها الأولى، وقدمت للصحيفة المذكورة المساعدات المالية بالملايين.

فهذه مجموعة (ذي غارديان) البريطانية التي منحت مئة ألف جنية بريطاني للصحيفة الحقيرة، وأبدت صحيفة (لوموند) و(ليبراسيون) استعدادهما لتقديم جميع المساعدات الإدارية والمادية من أجل ضمان استمراريتها، كما منحت وزارة الثقافة الفرنسية نحو مليون يورو لصالح الصحيفة حتى تضمن استمرارها، كما قرّرت شركات التوزيع الفرنسية تسخير مئة ألف يورو لصالح الصحيفة، وهناك مبالغ باهضة تبرع بها جوجل العملاق، والجهات الأخرى لهذه الصحيفة الوقحة لأجل تشجيعها وتحفيزها في ذلك السياق المهين.

ما مرت هذه الحادثة، ولن تمر مثل تلك الحوادث البشعة، على الساحة الإيمانية مرور الكرام أبداً، فقد تداعت ردود المسلمين الغاضبة من مسلك الصحيفة الاجرامي المشين، وشهدت عاصمة بلادنا مظاهرات مناهضة للمجلة وتدفق آلاف من المتظاهرين وهم يهتفون: “الموت لفرنسا، الموت للكفرة المجرمين” وأشعلوا الإطارات وهاجموا بالأحجار الشرطة العميلة التي حاولت تفريقهم بالقوة، وقد قُتِل ثلاثة من المتظاهرين بأيدي الشرطة العميلة وأصيب العشرات منهم، حالة بعضهم خطيرة. وهكذا في أكثر البلدان الإسلامية، فقد خرجت الجموع في مظاهرات غاضبة احتجاجا على ما فعلت (شارلي ايبدو) تجاه دين الإسلام ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين جميعاً.

و أصدرت إمارة افغانستان الإسلامية بياناً بتنديد هذا العمل الإجرامي الشنيع، جاء فيه: “نحن ندين ونستنكر بأشد العبارات هذا العمل المقزز، الخارج عن كل القيم الإنسانية، ونعتبر فاعليه، ومن سمح به، ومن ساندهم جميعهم أعداء للبشرية.

إن الإساءة إلى الدين والمقدسات الدينية جريمة غير مغتفرة، وهو عمل ينظر إليه جميع الناس بنظرة الكراهية والإشمئزاز.

نحن على يقين بأن مثل هذا الإقدام الدنيء لن يضر بالمكانة العالية والمقام الرفيع للنبي صلى الله عليه وسلم بصفته منقذ البشرية، بل على العكس، كشف هذا التصرف الدنيء الوجوه الحقيقية لأعداء الإنسانية”.

كما أصدرت هيئة كبار العلماء بياناً بشأن أحداث المجلة، وأوضحت فيه أن بعض الصحف الغربية دأبت على الهجوم الاستفزازي المتواصل على الدين الإسلامي وشخصية الرسول الكريم محمد – صلى الله عليه وسلم – ولا تزال تصر على ذلك، مثل ما حدَث بالدنمارك وما حدث في باريس من صحيفة  “شارلي إيبدو”، التي دأبت على ازدراء الإسلام ومقدساته والإساءة إلى رسوله – عليه الصلاة والسلام – والسخرية منه والاستهزاء به!

نعم، نحن كمسلمين نؤمن بجميع الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ونكنّ لهم أجلّ وأكمل المودة والاحترام، كما قال تعالى على لسان المؤمنين: (لا نُفَرِّق بَيْن أحدٍ من رُسُلِه) [البقرة/285]. والإيمان بكتب الله ورسله بدون تفرقة بين أحد من رسله هو المقتضى الطبيعي الذي ينبثق من الإيمان بالله في الصورة التي يرسمها الإسلام.

فالإيمان بالله يقتضي الاعتقاد بصحة كل ما جاء من عند الله، وصدق كل الرسل الذين يبعثهم الله، ووحدة الأصل الذي تقوم عليه رسالتهم، وتتضمنه الكتب التي نزلت عليهم. ومن ثَمّ لا تقوم التفرقة بين الرسل في ضمير المسلم. فكلهم جاءوا من عند الله بالإسلام في صورة من صوره المناسبة لحال القوم الذين أرسل إليهم؛ حتى انتهى الأمر إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وهكذا تتلقى الأمة المسلمة تراث الرسالة كله؛ وتقوم على دين الله في الأرض، وهي الوارثة له كله؛ فهم الحراس على أعز رصيد عرفته البشرية في تاريخها الطويل. وهم المختارون لحمل راية الله في الأرض، يواجهون بها رايات الجاهلية المختلفة الشارات، من قومية، ووطنية، وجنسية، وعنصرية، وصهيونية، وصليبية، واستعمارية، وإلحادية، وكفرية. إلى آخر شارات الجاهلية التي يرفعها الجاهليون في الأرض، على اختلاف الأسماء والمصطلحات واختلاف الزمان والمكان.

كان من سماحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان له غلام يهودي يخدُمه، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يَعُودُهُ، فقعد عند رأسه.

حقاً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يستعمل غلامًا يهوديًّا في الخدمة، ولا يمتنع عن ذلك؛ ليجعل الحياة مع أصحاب الديانات الأخرى في داخل المدينة المنورة حياة طبيعية. ثم يمرض هذا الغلام، فيذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليعوده في بيته! يجب أن ندرك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو أعلى سلطة في المدينة المنورة، والغلام اليهودي لا يعدو أن يكون خادماً، وعلى غير مِلَّة الإسلام! أيحدث في بقعة من بقاع الأرض أن يزور رئيسٌ خادماً له إذا مرض؟ وخاصة إذا كان على غير دينه؟!

إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل في حياته ما يَتَعَجَّبُ منه كثير من الناس، وهو السماح لنصارى نجران أن يؤدوا صلواتهم داخل المسجد النبوي الشريف! يقول ابن سيد الناس -رحمه الله- في عيون الأثر: «وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دَعُوهُمْ)، فَصَلَّوْا إلى المشرق».

إنهم لا يدخلون المسجد النبوي فقط، بل يصلون فيه، وفي هذا ما لا يخفى على أحد من البرِّ والتسامح لهذا الدين القويم ورسوله الكريم إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين.

بخلاف هذا البر والتسامح، هناك عداوة الكفار للمسلمين وهي قضية مقررة محسومة، وعقيدة راسخة معلومة عندهم، بيّنها الله في القرآن الكريم، وشهد بها التاريخ والواقع الأليم، وتتعدى ذلك من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، ويقومون أعداء الدين بمحاربته وتشويه سمعته والنيل منه عبر وسائل الإعلام والمؤتمرات والندوات، وستستمر إلى يوم القيامة، ومنذ ذلك الحين هم يكيدون للمسلمين كيداً، سلكوا في ذلك جميع السبل والوسائل، ونفذوا من أجله مخططات الأواخر والأوائل، فمرة مكر وخديعة، ومرة غصب واستعمار، ومرة استخفاف وازدراء تحت كل ستار، فكل ما يريدونه من الأعمال المنكرة، يسمّونه حرية، ومدنية وديمقراطية، وما لا يريدونه يسمونه تخلف وهمجية، وإرهاب ورجعية. قاتلهم الله أنّى يؤفكون.

عداوة الكفار للإسلام والمسلمين سُنّة متوارثة بينهم، يشجعون كل من أهان الإسلام وشعائره ورموزه، ففي صيف 2007 التقى الرئيس الأمريكي وقتها جورج بوش في المكتب البيضاوي عشرة من المذيعين الأمريكيين المعروفين بهجومهم على الإسلام، وكان نيل بورتز من أبرز المشاركين في اللقاء مع بوش -وهو مذيع مشهور بعدائه للإسلام والمسلمين-، وبعد اجتماع البيت الأبيض بأيام، شنّ المذكورهجوماً عنيفاً، وغير مهذب، وبلا مبرر على المسلمين، واصفاً إياهم بالـ”الصراصير”، لأنهم يصومون في نهار رمضان، ويأكلون في الليل في برنامج إذاعي يقدمه، وكان قد وصف الإسلام قبلها بأنه “فيروس مميت، ينتشر في جميع أنحاء أوروبا والعالم الغربي”، مضيفاً: “سوف ننتظر طويلاً جداً حتى نطوّر لقاحاً لنكافحه به”.

كما شنّ الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي حرباً ضروساً على الحجاب حين كان وزيراً للداخلية، مما أدى في نهاية المطاف لحرمان طالبات فرنسيات مسلمات من حقهن في التعليم تحت ذريعة أن علمانية الدولة تتناقض مع الرموز الدينية، في حين كان الطلاب ولعقود يتمتعون بحقهم في ارتداء الصلبان.

وفي 16/6/2007م، منحت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية سلمان رشدي صاحب كتاب “آيات شيطانية” المسيء بشدة للإسلام لقب (سير) أي الفارس، في إطار منحها سنوياً أوسمة لمجموعة من الشخصيات تقديراً لإنجازاتها.

وفي صيف 2010 قامت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بتكريم الرسام الدانماركي “كيرت فيسترغارد” صاحب الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بتسليمه جائزة حرية الصحافة في ختام ندوة دولية حول وسائل الإعلام في برلين، قائلة: “إن مهمة فيسترغارد هي الرسم”، مشددة على أن “أوروبا هي المكان الذي يسمح فيه لرسام كاريكاتير برسم شيء كهذا”، مضيفة: “إننا نتحدث هنا عن حرية التعبير وحرية الصحافة”. فيسترغارد حصل على جائزة التقدير “لالتزامه الراسخ بحرية الصحافة والرأي وشجاعته في الدفاع عن القيم الديمقراطية على رغم من التهديدات بأعمال العنف والموت”.

هذه نماذج لمواقف من شخصيات غربية رسمية تظهر بوضوح جانباً من الأجواء الموبوءة والتي حفّزت وشجّعت عديدين على الإساءة إلى الإسلام وحرماته.

ومن صفحات التاريخ نقرأ الجرائم الشنيعة، والعظائم الفظيعة، التي ارتكبها النصارى في الأندلس، أجبروا المسلمين على التنصر، وحولوا مساجدهم إلى كنائس، وأتلفوا الكتب الدينية والمصاحف.

 

إن الحقود وإن تقادم عهده              فالحقد باق في الصدور مغيب

 

إن أعداء الإسلام على مرّ التاريخ بذلوا أقصى جهودهم في سبيل محو دين الله وإطفاء نوره. وقد وقفوا -بكل ما تحمله صدورهم من الحقد الأعمى- في وجه هذا الدين ورسوله الكريم وقفة العداء والكيد، وحاربوه بشتى الوسائل والطرق حرباً شعواء لم تضع أوزارها حتى اليوم، ولازالوا يواصلون الليل بالنهار في سبيل تشويهه، ظناً منهم أن هذا سيوقف سيل الإسلام المتواصل.

  يقول أحد المستشرقين: “إن أوروبا لا تستطيع أن تنسى ذلك الفزع الذي ظلت تحس به عدة قرون والإسلام يجتاح الإمبراطورية الرومانية من الشرق والغرب والجنوب”. وقال آخر محذراً قومه من عودة الجهاد إلى نفوس المسلمين: “إن الشعلة التي أوقدها محمد ـ ونحن نقول: – صلى الله عليه وسلم – في قلوب أتباعه لهي شعلة غير قابلة للانطفاء”.

إنهم يمكرون ويكيدون محاولين القضاء على هذا الدين القويم، ولكنهم فشلوا في تحقيق هذه الأمنية التعيسة فشلاً ذريعاً، لأن نور الله لا يمكن أن تطفئه الأفواه، ولا أن يطمسه بطش النار والحديد. لقد جرى قدر الله أن يظهر هذا الدين القويم فكان من الحتم أن يكون، وهذا تحقيق وعد الله، وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها ظاهراً على الدين كله بإذن الله تحقيقاً لوعد الله الذي لا تقف له جهود العبيد المهازيل مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل.

ولله در الشاعر حيث قال :

 

الحقد داء دفين ليس يحمله           إلا جهول مليء النفس بالعلل!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى