مقالات الأعداد السابقة

الحور العين

إعداد: عبدالله

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه واقتفا أثره إلى يوم الدين، أما بعد:

لا ترى مجاهداً إلا وتجده مشتاقاً إلى الحور العين. ونعرف جميعاً أنّ من عمل صالحاً جازاه الله عز وجل بالأجر والثواب العظيم في الجنة، ففيها كل ما تشتهي النفس من طعام وشراب ولبس وحرير، وجعل الحور العين من نصيب الصالحين من الرجال. فمن هن الحور العين؟ وما مقدار جمالهن في الجنة؟

قال تعالى: “فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ”. سورة الرحمن

وقال تعالى: ” وحور عين، كأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جِزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”. سورة الواقعة

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قال الله عز وجل: أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فاقرءوا إن شئتم: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍن [السجدة]} [رواه البخاري ومسلم وغيرهما].

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده وجعلها مقرًا لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص.
وإن سألت: عن أرضها وتربتها، فهي المسك والزعفران.
وإن سألت: عن سقفها، فهو عرش الرحمن.
وإن سألت: عن بلاطها، فهو المسك الأذفر.
وإن سألت: عن حصبائها، فهو اللؤلؤ والجوهر.
وإن سألت: عن بنائها، فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، لا من الحطب والخشب.
وإن سألت: عن أشجارها، فما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب.
وإن سألت: عن ثمرها، فأمثال القلال، ألين من الزبد وأحلى من العسل.
وإن سألت: عن ورقها، فأحسن ما يكون من رقائق الحلل.
وإن سألت: عن أنهارها، فأنهارها من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى.
وإن سألت: عن طعامهم، ففاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون.
وإن سألت: عن شرابهم، فالتسنيم والزنجبيل والكافور.
وإن سألت: عن آنيتهم، فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير.
وإن سألت: عن سعة أبوابها، فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام.
وإن سألت: عن تصفيق الرياح لأشجارها، فإنها تستفز بالطرب من يسمعها.
وإن سألت: عن ظلها ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مئة عام لا يقطعها.
وإن سألت: عن خيامها وقبابها، فالخيمة من درة مجوفة طولها ستون ميلاً من تلك الخيام.
وإن سألت: عن علاليها وجواسقها فهي غرف من فوقها غرف مبنية، تجري من تحتها الأنهار.
وإن سألت: عن ارتفاعها فانظر إلى الكواكب الطاع، أو الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار.
وإن سألت: عن لباس أهلها، فهو الحرير والذهب.
وإن سألت: عن فرشها، فبطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرتب.
وإن سألت: عن أرائكها، فهي الأسرة عليها البشخانات، وهي الحجال مزررة بأزرار الذهب، فما لها من فروج ولا خلال.
وإن سألت: عن أسنانهم، فأبناء ثلاثة وثلاثين، على صورة آدم عليه السلام، أبي البشر.
وإن سألت: عن وجوه أهلها وحسنهم، فعلى صورة القمر.
وإن سألت: عن سماعهم، فغناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيين، وأعلى منهما سماع خطاب رب العالمين.
وإن سألت: عن مطاياهم التي يتزاورون عليها، فنجائب أنشأها الله مما شاء، تسير بهم حيث شاؤوا من الجنان.
وإن سألت: عن حليهم وشارتهم، فأساور الذهب واللؤلؤ على الرؤوس ملابس التيجان.
وإن سألت: عن غلمانهم، فولدان مخلدون، كأنهم لؤلؤ مكنون.
وإن سألت: عن عرائسهم وأزواجهم، فهن الكواعب الأتراب، اللائي جرى في أعضائهن ماء الشباب، فللورد والتفاح ما لبسته الخدود، وللرمان ما تضمنته النهود، وللؤلؤ المنظوم ما حوته الثغور، وللدقة و اللطافة ما دارت عليه الخصور.

 

تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت. إذا قابلت حبها فقل ما تشاء في تقابل النيرين، وإذا حادثته فما ظنك بمحادثة الحبين؟ وإن ضمها إليه فما ظنك بتعانق الغصنين؟

يرى وجهه في صحن خدها كما يرى في المرآة التي جلاها صيقلها. ويرى مخ ساقها من وراء اللحم ولا يستره جلدها ولا عظمها ولا حللها. لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين الأرض والسماء ريحاً، ولاستنطقت أفواه الخلائق تهليلا وتكبيرا وتسبيحا، ولتزخرف لها ما بين الخافقين، ولا غمضت عن غيرها كل عين، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن من على ظهرها بالله الحي القيوم. ونصيفها على رأسها خير من الدينا وما فيها. ووصالها أشهى إليه من جميع أمانيها. لا تزداد على طول الأحقاب إلا حسناً وجمالاً، ولا يزداد لها طول المدى إلا محبة ووصالاً. مبرأة من الحبل والولادة والحيض والنفاس، مطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس. لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، ولا يخلق ثوب جمالها، ولا يمل طيب وصالها. قد قصرت طرفها على زوجها، فلا تطمح لأحد سواه، وقصر طرفه عليها فهي غاية أمنيته وهواه. إن نظر إليها سرته، وإن أمرها بطاعته أطاعته، وإن غاب عنها حفظته، فهو معها في غاية الأماني والأمان. هذا ولم يطمثها قبله أنس ولا جان. كلما نظر إليها ملأت قلبه سروراً، وكلما حدثته ملأت أذنه لؤلؤاً منظورماً ومنثوراً. وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نوراً.

وإن سألت عن السن فأتراب في أعدل سن الشباب. وإن سألت عن الحسن فهل رأيت الشمس والقمر؟ وإن سألت عن الحدق فأحسن سواد في أصفى بياض في أحسن حور. وإن سألت عن القدود فهل رأيت أحسن الأغصان؟ وإن سألت عن النهود فهن الكواعب نهودهن كألطف الرمان. وإن سألت عن اللون فكأنه الياقوت والمرجان. وإن سألت عن حسن الخلق فهن الخيرات الحسان اللاتي جمع لهن بين الحسن والإحسان، فأعطين جمال الباطن والظاهر، فهن أفراح النفوس، قرة النواظر. وإن سألت عن حسن العشرة ولذة ما هنالك فهن العرب المتحببات إلى الأزواج بلطافة التبعل التي تمتزج بالروح أي امتزاج. فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنة من ضحكها؟ وإذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت هذه الشمس متنقلة في بروج فلكها. وإذا حاضرت زوجها فيا حسن تلك المحاضرة. وإن خاصرته فيا لذة تلك المعانقة والمخاصرة. [حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: 278-280].

فالحور العين من أجمل ما خلقه الله للرجال الصابرين في الدنيا؛ لما تمتاز به من شدة سواد العين وبياض البشرة، وكما أنه لم يطأهن أياً من الرجال سواء من الإنس والجن. ومن صفات الحور العين أنها لا تنظر إلى الرجال غير زوجها الذي خصصت من أجله. وكل رجل يدخل الجنة له زوجتان من الحور العين. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ لا تَبَاغُضَ بَيْنَهُمْ وَلا تَحَاسُدَ، لِكُلِّ امْرِئٍ زَوْجَتَانِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ يُرَى مُخُّ سُوقِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ الْعَظْمِ وَاللَّحْمِ” رواه البخاري برقم 3014. وقال تعالى: “بِيضٌ مكنون كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ” سورة الواقعة، وهذا الأمر يدل على بياض ونضارة بشرتها الجميلة بياض في صفاء ناعم، ومكنون بمعنى الشيء الثمين والغالي.

كما أن الرجل يجامع زوجاته من الحور العين وكذلك زوجاته من النساء في الدنيا إذا دخلن معه الجنة، ومن الحديث الذي يدل على ذلك: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يُعْطَى الْمُؤْمِنُ فِي الْجَنَّةِ قُوَّةَ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْجِمَاعِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يُطِيقُ ذَلِكَ قَالَ يُعْطَى قُوَّةَ مِائَةٍ” رواه الترمذي برقم 2459.

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ أَزْوَاجَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُغَنِّينَ أَزْوَاجَهُنَّ بِأَحْسَنِ أَصْوَاتٍ سَمِعَهَا أَحَدٌ قَطُّ، إِنَّ مِمَّا يُغَنِّينَ: نَحْنُ الْخَيْرَاتُ الْحِسَانُ، أَزْوَاجُ قَوْمٍ كِرَامٍ، يَنْظُرْنَ بِقَرْنِ أَعْيَانٍ، وَإِنَّ مِمَّا يُغَنِّينَ بِهِ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلا يَمُتْنَهْ، نَحْنُ الآمِنَاتُ فَلا يَخَفْنَهْ، نَحْنُ الْمُقِيمَاتُ فَلا يَظْعَنَّهُ.

ومن هنا نرى الصالحين والمجاهدين المخلصين يشتاقون الحور العين، ويبذلون الغالي والنفيس ليرزقهم الله سبحانه وتعالى الشهادة في سبيله، لينالوا ما وعدهم الله ورسوله في الآخرة.

يقول ابن قيم رحمه الله: والصالحون في هذه الدار بعدما علموا بما جاء في كتاب ربهم وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم في شأنهن، يكونون في أشد الشوق والحب لهن مما له أكبر الأثر في اقبالهم على طاعة مولاهم وأن يُقِر أعينهم بهنّ.
قال ربيعة بن كلثوم: نظر إلينا الحسن ونحن حوله شباب فقال: يا معشر الشباب أَما تشتاقون إلى الحور العين؟

وقال لي ابن ابي الحواري: حدثني الحضرميُ قال: نمت أنا وأبو حمزة على سطح، فجعلتُ أنظر إليه يتقلب على فراشه إلى الصباح، فقلت يا أبا حمزة ما رقدت الليلة، فقال إني لمّا اضطجعتُ تمثلت لي حوراء حتى كأني أحسست بجلدها وقد مس جلدي، قال: فحدثت به أبا سلمان فقال: هذا رجلٌ كان مشتاقاً.
وقال عطاء السلمي لمالك بن دينار: يا أبا يحيى شوّقنا، قال: يا عطاء، إن في الجنة حوراء يتباهى أهل الجنة بحسنها، لولا أن الله تعالى كتب على أهل الجنة أن لا يموتوا، لماتوا من حسنها، فلم يزل عطاء كمداً من قول مالك أربعين يوماً. (ذكره القرطبي في التذكرة ص556).

 

أختم هنا بشيءٍ من أبيات ابن قيم الجوزية رحمه الله من النونية الشافية الكافية، يقول فيها رحمه الله:

لو كنت تدري من خطبت ومن طلبت بذلت ما تحوي من الأثمان
أو كنت تدري أين مسكنهـا جعلت السعي منك لها على الأجفان
ولقد وصفت طريق مسكنها فإن رمت الوصال فلا تكن بالواني
أسرع وحث السير جهدك إنما مسراك هذا ساعة لزمان
فاعشق وحدث بالوصال النفس وابذل مهرها ما دمت ذا إمكان
واجعل صيامك قبل لقياها ويو م الوصل يوم الفطر من رمضان
لا يلهينك منزلٌ لعبت به أيدي البلى مذ سالف الأزمان
فلقد ترحل عنه كل مسرة وتبدلت بالهم والأحزان
سجن يضيق بصاحـب الإيمان لكن جنة المأوى لذي الكفران
سكانها أهل الجهالة والبطـ ـالة والسفاهة أنجس السكان
درجاتها مائة وما بين اثنتين فذاك في التحقيق للحسبان
مثل الذي بين السماء وبين ها ذي الأرض قول الصادق البرهان
لكنَّ عاليها هو الفردوس مس قوفٌ بعرش الخالق الرحمن
أبوابها حقاً ثمانية أتت في النص وهي لصاحب الإحسان
ولسوف يدعى المرء من أبوابها جمعاً إذا وفى حلى الإيمان
منهم أبو بكر هـو الصديق ذا ك خليفة المبعوث بالقرآن
هذا وفتح الباب ليـس بممكنٍ إلا بمفتاحٍ على أسنان
مفتاحه بشهادة الإخلاص والتـ توحيد تلك شهادة الإيمان
أسنانه الأعمال وهي شرائع ال إسلام والمفتاح بالأسنان
هذا ومن يدخل فليس بداخلٍ إلا بتوقيعٍ من الرحمن
لا تلغين هذا المثال فكم بـه من حل إشكال لذي العرفان
وكذاك يكتب للفتى لدخوله من قبل توقيعان مشهوران

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى