الدروس الحسان من انتصار الطالبان (5)
محمد بن عبد الله الحصم
(الدرس الخامس: الطالبان وأسباب النصر)
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد وعد الله المؤمنين بالنصر وبشّرهم به في آيات كثيرة:
قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإنّ جندنا لهم الغالبون}.
وقال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}.
وقال تعالى: {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}.
فالنصر للمؤمنين وعد من الله وبشارة، ولكنه ليس وعدًا مطلقًا بل مقيّد بأسباب وشروط من أخذ بها تحقق له هذا الوعد وحصلت له هذه البشارة، ومن أخلّ بها أو بشيء منها لم يكن موعودًا بالنصر، ووكّله الله إلى نفسه.
وأسباب النّصر بيّنها الله في كتابه كما بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، وأعظم هذه الأسباب على الإطلاق هو تحقيق التوحيد لله جل وعلا قال تعالى :﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَیَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِینَهُمُ ٱلَّذِی ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنࣰاۚ یَعۡبُدُونَنِی لَا یُشۡرِكُونَ بِی شَیۡءࣰاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُو۟لَٰۤئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥﴾
أي أنّ هذا الوعد بالنّصر والتمكين مقيّد بحال كونهم موحّدين لله غير مشركين به، فالتّوحيد أعظم سبب لولاية الله تعالى، ولهذا فأهله أسعد الناس بتأييد الله ونصره.
وفي المقابل فالشركُ أعظم الذنوب وأظهرها محادة لله تعالى، وأهله أبعد الناس عن الله، وقد كتب الله عليهم الذلة والهوان والخذلان بسبب شركهم: {إن الذين يحادّون الله وسوله أولئك في الأذلين}.
والتوحيد وإن كان أعظم سبب للنصر فليس كافيًا وحده، بل هناك أسباب أخرى لا بدّ من استكمالها والإتيان بها ليتحقق لهم وعد الله بالنّصر بيّنها الله سبحانه بقوله: ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا لَقِیتُمۡ فِئَةࣰ فَٱثۡبُتُوا۟ وَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَثِیرࣰا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٤٥ وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُوا۟ فَتَفۡشَلُوا۟ وَتَذۡهَبَ رِیحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِینَ ٤٦ ﴾
قال العلامة ابن القيّم رحمه الله في ختام كتابه القيم الفروسية: ونختم هذا الكتاب بآية من كتاب الله تعالى جمع فيها تدبير الحروف بأحسن تدبير وهي قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال 45].
فأمر المجاهدين [فيها] بخمسة أشياء ما اجتمعت في فئة قطّ إلا نصرت وإن قلت وكثر عدوّها:
أحدها: الثبات.
الثاني: كثرة ذكره سبحانه وتعالى.
الثالث: طاعته وطاعة رسوله.
الرابع: اتفاق الكلمة وعدم التنازع الذي يوجب الفشل والوهن وهو جند يقوي به المتنازعون عدوهم عليهم، فإنهم في اجتماعهم كالحزمة من السهام لا يستطيع أحد كسرها، فإذا فرقها وصار كل منهم وحده كسرها كلها.
الخامس: ملاك ذلك كله وقوامه وأساسه وهو الصبر.
فهذه خمسة أشياء تبتني عليها قبة النصر، ومتى زالت أو بعضها زال من النصر بحسب ما نقص منها، وإذا اجتمعت قوى بعضها بعضًا وصار لها أثر عظيم في النصر، ولما اجتمعت في الصحابة لم تقم لهم أمة من الأمم وفتحوا الدنيا ودانت لهم العباد والبلاد، ولما تفرقت فيمن بعدهم وضعفت؛ آل الأمر إلى ما آل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والله المستعان وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل. اهـ
ومن أجمع الآيات في بيان أسباب النصر قوله تعالى: ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تَنصُرُوا۟ ٱللَّهَ یَنصُرۡكُمۡ وَیُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧﴾ فالله سبحانه في هذه الآية اشترط علينا أن ننصره لينصرنا ويثبتنا، فما معنى نصرة العبد لربه؟!
قال العلماء: نصرة العبد لربه هي نصرة دينه وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن أقمنا ديننا وكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم نصرنا ربنا فحقق لنا وعده، والجزاء من جنس العمل.
وفي ٍآية يبين الله عز وجل معنى نصرتنا له فيقول: ﴿وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ ٤٠ ٱلَّذِینَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُوا۟ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡا۟ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١﴾.
فالذين ينصرهم الله ويمكنهم هم الذين يقيمون دينه ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. والحديث عن أسباب النصر وضرب الأمثلة فيه وذكر تقرير العلماء له يطول، وحسبنا ما تقدم ففيه كفاية إن شاء الله.
وإذا نظرنا إلى واقع الإمارة الإسلامية وجدنا توافر هذه الشروط كلها فيها، فقد رفعوا شعار الإسلام والتوحيد، وقامت حركتهم على هذا الشرع المطهر، واجتهدوا في إقامة الشريعة حسب الاستطاعة والقدرة، ومن أعظم ما ميزهم الله به أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهم مع ذلك صبروا ثابتين على مبادئهم وتمسكوا بثوابتهم واستمروا عشرين عامًا وقدّموا شهداء كثيرين، وما زادهم ذلك إلا ثباتًا وصبرًا فنصرهم الله على أعتى قوة في العالم. فنسأل الله لهم التوفيق والثبات.