الدروس الحسان من انتصار الطالبان (7)
الدرس السابع: كيف تمكن الطالبان من القضاء على الفوضى الفكرية؟
محمد بن عبد الله الحصم
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فمن المعلوم أن ساحات الجهاد يتدفق إليها المجاهدون من كل حدب وصوب، وهذا يقضي اختلافا في الأفكار، والعقائد، والسلوك بين هؤلاء القادمين من شتى بقاع الأرض، وأيضا حركة الطالبان حركة جبهوية، يختلف أفرادها كاختلاف القادمين إليها، وهم لا شك يختلفون في تصورهم للجهاد وحقيقة هذا الدين، ويختلف عندهم تقدير المصالح والمفاسد في الحرب والهدنة، وكيفية تحكيم الشرع بين الناس، وهذا لو تُرِك لأدى هذا إلى فوضى فكرية، وربما يصل الأمر إلى ما لا تحمد عقباه من الاقتتال الداخلي والفوضى، فلابد من مرجعية يثق بها الجميع ولا تتهم في صدقها، وتكون ملزمة للجميع، ومن غير العلماء الربانيون يثق فيهم الناس؟!
فكانت طالبان لا يحكمها مستبد، والقادة منها يتشاورون، وشوراهم ملزمة، وفيهم صرامة على تنفيذ مشورة العلماء، وطاعة ولي الأمر حيث تجب طاعته، حتى إنهم منعاً للفوضى الفكرية منعوا الحزبيين من العمل الحزبي وأغلقوا جمعياتهم ومؤسساتهم – وليس كل الجمعيات فقط الحزبية منها – أو ذات المنحى السياسي، وكانوا حتى في القتال لا تطلق رصاصة إلا بعلمهم وموافقتهم، والعرب لم يكن لهم إلا جزء يسير جدا من خط النار، ولم يكونوا يطلقوا رصاصة إلا بعلم الطالبان وموافقتهم، فلم يكن أحد يخرج عن طاعتهم، ولم يعلنوا الحرب على العالم، كما يريد البعض ويشترط في بيعته لهم محاربة غير المسلمين من نواكشوط إلى جاكرتا.
وعجبي من قوم لا طاقة لهم بقتال من يليهم يقفزون إلى أعتى قوة العالم – حلف الناتو- ليدخلوهم إلى ساحتهم، والمبررات واهية يكفي مخالفتها لقوله تعالى : ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قَٰتِلُوا۟ ٱلَّذِینَ یَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ وَلۡیَجِدُوا۟ فِیكُمۡ غِلۡظَةࣰۚ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِینَ ١٢٣﴾. قال سيد قطب رحمه الله مبينا حقيقة هذا الدين: وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد أساسي: “إن هذا الدين منهج إلهي للحياة البشرية. يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية؛ وفي حدود الواقع المادي حينما يتسلم مقاليدهم. ويسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود طاقتهم البشرية، وبقدر ما يبذلونه من هذه الطاقة.” اهـ
إذا عرفت هذا فتدبر تشريع الجهاد والتدرج فيه، وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتل في مكة وهو يرى بعض أصحابه يقتل بين يديه، ولم يكن يملك لهم إلا أن يقول صلى الله عليه وسلم: “صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة”، وفي الصحيح عن خباب ابن الأرت قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا. قال: “كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون».
وكذا في العهد المدني في حال نشوء الدولة لم يشرع إلا قتال الدفع وقتال من يقاتلوننا فحسب، ثم بعد اكتمال الدولة ونضجها شرع القتال ابتداء.
ومن تدبر فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، كيف تخندق ولم يخرج لعدوه، وقد هم بإعطاء غطفان نصف ثمار المدينة، ليتركوا الأحزاب، وخير أصحاب الأرض فيما هَمَّ به فأبوا.
ومن اطلع على صلح الحديبية الذي سماه الله فتحا رغم ما فيه من شروط مجحفة للمسلمين، من تدبر وعرف هذا وتـأمله علم حقيقة هذا الدين وأنه دين واقعي، وأن القتال ليس خيارا وحيدا فالله شرع الهدنة والصلح مع الكفار والمشركين، فكما أن الأمر بالجهاد شرع منزل كذلك الهدنة والصلح شرع منزل.
نعم لا تشرع الهدنة على التأبيد، كما لا يهادن الكفار إذا ظهر أن المسلمين قادرون على الحسم كما قال تعالى:” ﴿فَلَا تَهِنُوا۟ وَتَدۡعُوۤا۟ إِلَى ٱلسَّلۡمِ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمۡ وَلَن یَتِرَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ ٣٥﴾.
إذن عاد الأمر للاعتبار، والمصلحة والمفسدة، وليس ذلك لتقدير أي أحد بل لعلماء الجهاد، وأهل الحل والعقد، وأهل البلد الذين سيتحملون عواقب مثل هذه القرارات.
ولقد فهم الطالبان، هذه الحقيقة ولم يصدر عنهم خلاف هذا الأمر ثبتهم الله وسددهم، فقاتلوا وصبروا، وفاوضوا وصالحوا، فكانوا موفقين في مفاوضاتهم كما في جهادهم.