مقالات الأعداد السابقة

الدروس الحسان من انتصار الطالبان (8)

محمد بن عبد الله الحصم

 

الدرس الثامن: فقه الطالبان في مفاوضة الأمريكان

الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:

فإن الطالبان في مفاوضتهم للأمريكان لم يتجاوزوا شرع ربهم الرحمن القائل: “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم”.

فكما أن الجهاد والقتال شرع منزل، فكذلك السلم والهدنة مع الكفار شرع منزل، وليس معنى كونه محتلا أنه لا يُفاوض، فالنبي صلى الله عليه وسلم فاوض كفار مكة وهم قد ضيقوا على النبي وأصحابه في البلد الحرام حتى اضطروهم للهجرة إلى خارج مكة، وهم أهل البيت الحرام، أما كفار مكة فقد كانوا يصدون عن المسجد الحرام وليسوا أولياءه، فقد صدوا النبي وصحبه عن مكة في الحديبية، في السنة السادسة من الهجرة، والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أولى بالحرم منهم، ولم يمنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من مفاوضتهم، وعقد الصلح معهم، وقال مقولته المشهورة: “والله ما سألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها”. قال ذلك عليه الصلاة والسلام لما تعثرت ناقته القصواء، فقال الناس: خلأت القصواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل. فقال صلى الله عليه وسلم هذه المقولة ثم زجر الناقة فوثبت.

قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد عند ذكر ما يستفاد من صلح الحديبية: “ومنها: ‌أن ‌المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمرا يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى، أجيبوا إليه وأعطوه وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مُرض له، أجيب إلى ذلك كائنا من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس”. اهـ

فعقد النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين هدنة وصلحا عُرِفَ بعدُ بصلح الحديبية، أقرهم فيها في مكة، وهادنهم عشر سنين، على ترك القتال مقابل الأمن المتبادل لكل طرف وحلفائه، ووفى بعهده النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نقضوا هم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بسنتين، وذلك عندما ساعدت قريش بكرا حليفهم وأمدتهم بالسلاح على خزاعة حليف النبي صلى الله عليه وسلم، فانتقض بذلك عهدهم فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثامنة من الهجرة وفتح مكة عنوة.

نعم، هكذا تكون السياسة الشرعية، قتال في وقته وسلم في حله، فالقتال ليس خيارا وحيدا، وليس مطلوبا لذاته، فإذا تحقق المطلوب دونه فلا داعي له، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقاتل قوما حتى يدعوهم ويبيّن لهم الحق الذي جاء به، فإن هم استجابوا لدعوته قبل منهم وكفّ عنهم، فإن أبوا الإسلام يعرض عليهم عقد الذمة، فإن أجابوا قبِل منهم وكفّ عنهم، فإن أبوا استعان بالله وقاتلهم حتى يرضخوا لحكم الإسلام ويدخلوا تحت سلطانه، فالشاهد من هذا أنَّ القتال في الإسلام وسيلة لإقرار الحق، وليس مقصودا لذاته، والله أعلم.

والطالبان قد أبهروا العالم في مفاوضاتهم مع الأمريكان كما أبهروهم بجهادهم، فكانوا أبطالا في الحرب دهاة في السياسة، قد أخذوا بالدين كله فوفقهم الله وهداهم ونصرهم وأظهر أمرهم.

فنسأل الله أن يزيدهم توفيقا وتسديدا، وأن يعيذهم من شر أنفسهم، ومن شر الشيطان وكيده، ومن شر المنافقين ومكرهم، ومن شر المرجفين وتخذيلهم، إن الله ولي ذلك والقادر عليه، وهو مولانا وحسبنا نعم المولى ونعم الوكيل.

وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة وهدى، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى