السيرة الذاتية للقائد الشهيد المولوي محمود رحمه الله تعالى
الحمد لله بمحامده كلها ما علمنا وما لم نعلم. الحمد لله حمداً یوافي نِعَمه، ویكافئ مزیده. الحمد لله علی نعمائه.
والصلاة والسلام علی خیرته من خلقه، وصفوته من أنبیائه، محمد المبعوث رحمةً للعالمین، وعلی آله الطیبین الطاهرین، وعلی صحابته، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الملوان.
إنّ أفغانستان هي البلد الذي ظلّ في تاریخ الإسلام معدن الفروسیة، وعرین الأسود الأشاوس، ومولد الفاتحین الأبطال، ومعقلاً منیعاً من معاقل الإسلام، وحصناً حصیناً من حصون الإیمان. وحین تحدّث أمیر البیان الأمیر شكیب أرسلان رحمه الله عن هذا البلاد أخذته نشوة الحماس الإسلامي، وتمثّل له تاریخ هذا البلد الأبي المناضل، فأطلق عنان قلمه السیال عن قریحته العذبة فقال:
«ولعمري لو لم یبق للإسلام في الدنیا عرقٌ ینبض لرأیت عرقه بین سكان جبال الهملایا والهندكوش نابضاً، وعزمه هنالك ناهضاً». (1)
وفي هذه العجالة نرید أن نتعایش مع سیرة أحد أبطال هذه الأرض المباركة الذي خلق فوق ربی وطننا الحبیب أروع الأمثلة في البطولة والإباء، حتی أجبر التاریخ بأن لا یذكره الا كقائد مغوار وفارس عبقري فذ.
قرائنا الأفاضل: إن الرسول الله «صلی الله علیه وسلم» قال: {إنّ الله یبعث لهذه الأمة علی رأس كل مئة سنة من یجدّد لها دینها». (2)
وممّا لاشك فیه أنّ هذا الحدیث یشمل الفرد والجماعة، كما یشمل الزمان والمكان، وذلك لأنّ الله سبحانه وتعالی قد هیّأ في كل عصر من العصور رجالاً فضلاء نبلاء أتقیاء أوفیاء، یبذلون الغالي والرخیص، والنفس والنفیس لصیانة هذا الدین، وللدرء عنه إعتداء المعتدین، وصولة الماكرین، وحقد الحاقدین، وكیلهم بكیلین وصاعهم بصاعین.
فلعل القائد المجاهد سماحة الفقید الشیخ محمود رحمه الله – ولا نزكي علی الله أحداً- هو من هؤلاء النّاس الذین وجدوا في هذا العصر وفي قوم لم یكن له حظ للجهاد منذ أمد بعید؛ ألا وهو قوم البلوش.
وكما تعلمون بأنّ البلوش لا یمتلكون دولة خاصة بل یسكنون في ثلاث حكومات متجاورة مختلفة ومعظمهم أهل القری والبوادي.
وممّا أزعج الشیخ وكابده، الجهل الذي طالما استولی علی بني جلدته، فكم تناحروا من الجهل للعصبیة الذمیمة والنخوة الأثیمة، والأثرة القبلیة والطائفیة والنسبیة التي كان الشیخ علی یقین بأنها أشدّ خطراً علی المصلحة الإجتماعیة، وأشدّ معارضة للروح الإسلامیة من الأثرة الفردیة، ولربما عادت هذه العصبیات الی نشاطها ونفوذها، وتبلورت فضیلةً علی أعین الذین أخذ الله منهم البصیرة في هذه الحیاة ومفخرةً من مفاخر الإنسان بعد ما كانت رذیلةً من رذائل الجاهلیة، وسُبّة علی الرجل المؤمن.
أو لا یجدر بهم أن ینشئوا في طاعة الله ورسوله، ویهدفوا عدوّهم وعدوّ رسولهم بدل أن یتناحروا ویقمعوا أنفسهم؟
أو لا یلیق بهم بدل القاتل والمقتول الذین كلاهما في النار لم یدرا فیما قَتلوا وقُتلوا، أن یقاتلوا في سبیل الله سبحانه وتعالی كی یثیبهم الفردوس الأعلی وجنةً عرضعا كعرض السموات والأرض؟؟
وأدهی وأمر من هذا وذاك معدل الأمیة في المناطق التي تعیش فیها البلوش من الإقلیم بست مرات عن المتوسط الوطني، فیما یبلغ معدل البطالة نحو 40 في المائة.
ویتمتع الإقلیم بربع في المائة فقط من الإستثمارات العامة، وكما أنهم ضحایا القمع الثقافي والدیني و..
ویهاجر كثیر منهم الی بلدان أخری في المنطقة أو الی أمیركا الشمالیة.
فهذا غیض من فیض عما یعاني – حتی الآن- هذا القوم.
فنرى الشيخ القائد كمجدّدٍ للجهاد في هذا القوم حیث وفق بفضل الله سبحانه وتعالی وكرمه أن یجمع الشباب من قوم البلوش الموزعين على القبائل والعصبيات المختلفة تحت رأیة اسلامیة واحدة، وتحت قیادة أمیر المؤمنین الملا محمد عمر مجاهد حفظه الله، یجاهدون في سبیل الله، تاركین العصبیة العمیاء وراء هم.
فلله درّه و علی الله أجره.
وقبل أن أدخل في البحث عن حیاة الشیخ ونشاطاته أری بأن ألقي نظرة سريعةعلى قبیلة الشیخ وبلدته بلوشستان.
بلوشستان
یطلق اسم بلوشستان بمعناه الواسع علی الإقلیم الذي ینتشر فیه الجنس البلوشي، بغضّ النظر عن الحدود السیاسیة الحدیثة، وهذا الإقلیم بین خطّي طول 58 و70 شرقاً وخطّي عرض 25 و 32 شمالاً وینقسم من الوجهة السیاسیة القدیمة الی ما یأتي:
خانه كلات ویطلق علیها عادة اسم بلوشستان.
بلوشستان الفارسیة (الإیرانیة).
بلوشستان البریطانیة (الهندیة).
المنطقة التي تسكنها القبائل البلوشیة في ولایتي البنجاب والسند.
القسم الشمالي من بلوشستان الذي یعتبر من الناحیة الجنسیة جزءً من أفغانستان.
وأما إقلیم بلوشستان الواسعة الحدیثة تمتد من مدینة جیرفت (كرمان) في إیران غرباً الی سیبي (الحدود الغربیة للسند والبنجاب) في باكستان شرقاً، ومن سیستان الإیرانیة والأفغانستانیة شمالاً الی خلیج عمان جنوباً، حیث تمتد علی ساحل الخلیج من صحراء لس بلا (في باكستان) الی غرب میناء الجاسك (في إیران) 965 كیلومتراً، وتشتمل بلوشستان علی عقدة جبلیة فیها أعلی قممها هي تفتان 3941متراً، وذرعان 3578 متراً، وخلیفت 3487 متراً، وبزمان 3503 متراً.(3)
وأما بلاد مكران فهي قسم من بلاد بلوشستان واقعة علی ساحل خلیج عمان.
والبلوش لیس لهم التاریخ المسجّل المشتمل علی جمیع وقائعهم عبر القرون السالفة إلا بعض الروایات المستندة الی صدور الرجال، ولم یعثر أحد من المؤرخین علی دیانتهم قبل الإسلام علی الصحیح، إلا أن هناك من المكتوبات والأشعار التي تشهد بأنهم من الأقوام الإیرانیة، وقد خدموا خدمات كثیرة للملوك الإیرانیین قبل الإسلام، ولعل السبب لعدم تسجیل تاریخهم أن البلوش كانت عیشتهم عیشة قبائلیة في الصحاري والمفاوز بعیدة عن الثقافة المدنیة.
فتح بلوشستان:
إنّ غزوة نهاوند كانت باباً للفتوحات الإسلامیة في أرض
فارس، حیث سار الصحابي الجلیل نعیم بن مقرن رضي الله عنه الی الري، ففتح الله له الري، وسار سیدنا أبو موسی الأشعري رضي الله عنه من بصرة الی اصبهان وفتحها، وسار سراقة بن عمرو رضي الله عنه الی أذربیجان، وسار الأحنف بن قیس رضي الله عنه الی خراسان، وسهیل بن عدي الخزرجي رضي الله عنه ساریة بن زنیم رضي الله عنه الی كرمان، وسار عاصم بن عمرو رضي الله عنه الی سجستان، وسار الحكم بن عمرو الثعلبي رضي الله عنه الی مكران ( بلوشستان) سنة ثلاث وعشرین بعد الهجرة في عهد أمیر المؤمنین عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد ذكر ابن جریر عن طریق سیف عن شیوخه أنّ الحكم بن عمرو الثعلبي رضي الله عنه قصد مكران (بلوشستان) حتی انتهی الیها، ولحق به شهاب ابن المخارق رضي الله عنه وسهل بن عدي الخزرجي رضي الله عنه وعبد الله بن عبد الله بن عتبان رضي الله عنه فانتهوا الی دوین نهر السند، وقد انقض أهل مكران الیه حتی نزلوا علی شاطئه فعسكروا هنالك، فاستمدّ ملكهم ملك السند، فأمدّه بجیش كثیف، فاقتتلوا مع المسلمین بمكان من مكران من النّهر علی أیام، بعدما كان قد انتهى الیه أوائلهم، وعسكروا به لتلتحق أخراهم، فهزم الله جنود مكران والسند، وأباح المسلمون عسكرهم، وقُتل منهم في المعركة مقتلة عظیمة، وأتبعهم المسلمون أیاماً حتی انتهوا الی النهر، ثم رجع المسلمون فأقاموا بمكران، وكتب الحكم الی عمر رضي الله عنه بالفتح، وبعث الیه بالأخماس مع صحار العبدي رضي الله عنه، واستأمره في الفیلة، فلمّا قدم المدینة بالخبر والغنائم، سأله عمر رضي الله عنه عن مكران – وكان لا یأتیه أحدٌ إلا سأله
عن الوجه الذي یجئ منه-
فقال: یا أمیر المؤمنین؛ هي أرضٌ سهلها جبلٌ، وماءها وشلٌ، وتمرها دقلٌ، وعدوّها بطلٌ، وخیرها قلیلٌ، وشرّها طویلٌ، والكثیر بها قلیلٌ، والقلیل بها ضائعٌ، وما وراءها شرٌ منها.
فقال عمر رضي الله عنه أسجّاع أنت أم مخبرٌ؟
فقال: لا، بل مخبرٌ.
فقال عمر رضي الله عنه: لا، والله لا یغزوها جیشٌ لي ما أطعتُ. فكتب أمیر المؤمنین الی الحكم بن عمرو رضي الله عنه أن لایغزو بعد ذلك مكران، وأن لایجوزنّ أحدٌ من جنودكم، ولیقتصروا علی ما دون النهر. (4)
ولكنّ الحموي یقول: كان الذي فتح مكران حكیم بن عمرو الجُدیدي الأزدي..
الی أن یقول: وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه أمر عبد الله بن عامر أن یوجّه رجلاً الی ثغر السند یعلم له علمه فوجّه حكیم بن جبلة، فلمّا رجع أوفده الی عثمان فسأله عن حال البلاد، فقال یا أمیر المؤمنین قد عرفتها وخبرتها، فقال: صفها لي، فقال: ماءها وشلٌ، وتمرها دقلٌ، ولصها بطلٌ، إن قلّ الجیش فیها ضاعوا وإن كثروا جاعوا، فقال عثمان: أخابرٌ أم ساجع؟
فقال: بل خابرٌ، فلم یغزها أحدٌ في أیامه و أول ما غزیت في أیام أمیر المؤمنین علي ابن ابی طالب رضي الله عنه، كما ذكرنا.(5)
والان لمحة من حياة القائد الشهيد الشيخ مولوي محمود البلوشي رحمه الله.
نشأته
ولد الشهيد القائد محمود (سيف الله) رحمه الله تعالى عام/1392هـ = 1972م في قرية ” نادعلی” من قری زرنج مركز ولاية “نِيْمرُوْز” والتي تقع في الجنوب الغربي المتاخم للحدود الأفغانية الإيرانية.
نسـبه:
كان الشهيد محمود بن الملا عبد الحمید رحمه الله تعالى ينتمي إلى بيت شريف في قبيلة شاهوزای (بلوش) وهى من القبائل البلوشیة الأفغانية المشهورة تقطن في المناطق الجنوبية الغربية من البلاد، وقد ساهمت تلك القبيلة سهما بارزا في الجهاد المقدس في العصور الثلاثة ولا سيما الجهاد ضد الصليبيين الأمريكان وأذنابهم.
خلقه
كان رجلاً سمحاً سهلاً، حسن الوجه، بهي المنظر، عذب المنطق، حلو الحدیث. وكان یستمع الی أي شخص عادي صغیراً كان أم كبیراً، شیخاً كان أم شاباً، وما كان یقاطع أحداً في كلامه؛ بل كان یسمح له أن یعرب عما في ضمیره ومشاعره وآرائه.
تعلیماته وجهاده:
إن الشهيد المولوي محمود (سيف الله) رحمه الله تعالى نشأ في بيت بدوي شريف، وجو مفعم بالحب والطمانينة، وبدأ في صغره يتعلم العلوم الشرعية، فينتقل بين المدارس والمساجد من عالم إلى آخر، حتی وفقه الله سبحانه وتعالی للهجرة الی دار الهجرة لتحصیل العلوم الشرعیة.
فدخل مدرسة تجوید القرآن، ثم ذهب الی بنجاب ینهل من معین العلوم العذبة.
یقول الشیخ المولوي عبد الرشید والي نیمروز: قد عرفت الشیخ عندما كنا صغاراً نقرأ “إرشاد الصرف” فمكثنا نحو ثلاث سنوات في مدرسة توحید آباد.
یقول الشیخ عبد العزیز جهاد یار – من السابقین في الجهاد الأفغاني – عندما كنا نقرأ إرشاد الصرف في توحید آباد حرضنا الشیخ الفقید عبد العزیز رحمه الله تعالی (الذي كان استشهد في مدیریة “جاربرجك” في عهد الإمارة الإسلامیة للجهاد، ویبین لنا بأنّ هناك قتال عنیف بین عباد الرحمن وجنود الشیطان من الشیوعیین بزعامة المرتد نجیب، وذلك قبل عام أو عامین من سقوط دولته.
فذهب الشیخ رحمه الله تعالی في معسكر الشیخ منصور لنگدیال في قندهار وتدرب تدریبات عسكریة ممتازة.
وبعدما أخذ حظاً وافراً من التدریب والتعلیم العسكري رجع الی المدارس والعلوم، فذهب الی “مستونگ”
للإتقان في الصرف وقرأ هذا العلم حتی برع فیه جداً.
وعندما أتت حكومة مجاهدین لم یلعب الشیخ أي دور في هذا العهد بل أخذ یتعلم العلوم فحسب ولا یعمل شیئاً آخر.
ثم لما جاءت الإمارة الإسلامیة كان الشیخ من السابقین في هذا الدرب، وأذكر بأننا كنا ندرس وسمعنا بأن المجاهدین بحاجة ماسّة الی الأفراد، فكان الشیخ من السابقین في هذا الدرب وأوصل نفسه لنصرة إخوانه المجاهدین.
ویسرد الشیخ “جهادیار”: وبعد شهور ذهب الشیخ الی “چهار آسیاب” – كابول في خضم المعارك الشدیدة، وكان في جماعة الفاتح المقدام، حبّ المجاهدین، أسد التقوی والجهاد والنّضال، القائد الشهيد الملا داد الله رحمه الله تعالی، فكان تلمیذاً للشهید – كما نحسبه والله حسیبه – یكسب الفنون القتالیة منه عن كثب.
ثم رجع الی المدارس یكسب العلوم وبعد شهور سمعنا بأنّ المجاهدین یستعدّون لفتح “جلال آباد”، فقال لي الشیخ رحمه الله هیأ نذهب الی جلال آباد، وقد كان لي بعض التجارب في هذا المضمار فقلت: یاسیدي حتی یستعد المجاهدون هنالك ویأخذوا أهبتهم للعملیة قد یطول فلنسنح الفرصة ونتعلم، وفي الموعد نوصل أنفسنا الیهم.
فقال: لا، أما أنا فسوف أذهب الی قندهار او الی هلمند أتدرب المهارات العسكرية من الرماية وسواقة الدّبابات وغيرها من الوسائل الحربية فذهب رحمه الله وتعلم الدبابة بكل إتقان؛ لأنه كان مرهف الذهن، یقظ الفؤاد.
ثم أتی الی “چهار اسیاب”، وكان رحمه الله یمضي، في دربه ثابتا صابراً حتی فتح الله سبحانه وتعالی العاصمة – كابول بید مجاهدي الإمارة الإسلامیة. {انتهی قوله}.
فكم كان الإخوة فرحین من هذا النصر المبین، وكانت
هذه الأبیات فحوی كلام كل مجاهد فاتح:
تبسّم أیها القلب الكلیــــــــم وغادر أیها اللیـــــل البهـــیم
وغرّد یا حمام الدّوح فینـــا وزُل یا أیها الجـــــرح الألیم
وودع یا فؤادي كل حـــــزن فقد غابت عن الوطن الهموم
ففتح قد أتی إثر فتـــــــــــــح
فعمّ الخیرُ، وازداد النعیــــــم
ففي “كابول” أفراحٌ تــوالت
وفیها قد سما الفتح العظیـــــم
وفي ودیانها قد حلّ بِشـــــــر
وفوق جبالهــــــا طاب النسیم
تُحلّق في السماء نسور عـــزّ
تحیّیه الكواكب والنــــــجوم
وتفدي تربها أجناد بـــــــــأس
ویرحل عن أراضینا اللئیــــــم
فأهلاً یا جنـــــــود الحق أهــلاً
ففي أكناف دولتكم أقیمــــــــــوا
یعمّ الأرض إسلامٌ و عـــدلٌ
ویرعی القوم رحمان رحـیم
أجل نهواك یا “كابول” صدقاً
ففي أمجاد فتحك كم نــــــهیم
فقومي شیّدي للدین صرحــــاً
ففوق رباك دولتنــــــــــا تقوم
وقولي للدنا قد ناء كیــــــــــــدٌ
وجاء الخیر والتأمت كــــــلوم
أ “كابول” كنت داراً للأعادي
شیوعیّون حقدهم قدیـــــــــــــم
فحطمت الشیوعي المعادي
فولت عن بوادینا الســـــــــموم (6)
وكانت غرفتهم في “كابول” في فندق آریانا.
ثم لما رأی الشیخ بأنّ جماعة البلوش تزداد یوماً بعد یوم، وكان یعرف طبیعة بني جلدته، فأراد أن یكون لهم نظم خاص. فجمع قادة البلوش واقترح لهم وقال لو عیّنا لنا أمیراً ثم نجاهد ونوسع دائرة عملنا. فوافقوه وقالوا إنا لا نرضی من دونك أمیراً، فأنت أمیرنا.
فاستاذنوا أمیر المؤمنین حفظه الله وأخبروه عن قصدهم، فوافقهم أمیر المؤمنین وجعل لهم جبهة خاصة للبلوش یجاهدون في سبیل الله، وكانوا علی رأس النفیضة حیث الملاحم والبطولات.
وبهذا النمط أراد الله سبحانه وتعالی أن یوفقه لخدمة جلیلة لم یسبقه أحد من البلوش قبله، فجمع حوله من
الشباب البلوش تحت رأیة واحدة.
فقد ساهموا في أشرس الحروب وأضرمها في شمال أفغانستان، وأهلكوا من الخونة ما نحن عاجزین عن إحصائه.
وفي السنة 1418 هـ.ق التحق بجامعة العلمیة كوه ون، وینهل من معین شیخ التفسیر والحدیث الشهید محمد عمر السربازي رحمه الله تعالی درجة السنة الأولی من الدرجة العالمیة.
ولقد سافرت الی هذه المدرسة فرأیت درجات الشیخ فكانت عالیة، وكان هو المجلي والنفر الأول في الإختبارات فائقاً عن أقرانه في الصف. ورأیت درجات كتبه في الإختبارات المرحلة الثانیة والنهائیة فكان هو المجلي.
ثم التحق بجامعة السعدية في “كوته سبزل” صادق آباد، وقد درس كتب الحدیث الشریف علی كبار تلك المدرسة، ثم وضع علی رأسه عمامة الشرف، وحصل علی سند الفراغ (الشهادة العالیة) عام/1419هـ الموافق/1998م ؛
وكان أساتذته یذكرونه بخیر ویقولون: إنه كان من النوابغ في العلم والجهاد والسلوك والإحسان.
یقول أستاذه سماحة الشیخ ابو یوسف: « جاء الشیخ محمود عام 1418 هـ.ق مع شخص آخر لتحصیل العلوم الشرعیة، وبما أنّهم كانوا قد تعلموا في العام الماضي في مدرسة غیر مدرستنا فقررنا بأن نختبر منهم. ونظرا الی أن الشیخ كان تلمیذاً نجیباً وطالباً رشیدا زكیاً نجح في الإختبارات دون صدیقه.
ولقد كان الشیخ یقرأ كتاب “مسند إمام أعظم” لدي ومن هذا المنطلق كانت بیني وبینه أواصر حارّة، فكان رحمه الله تعالی یقص لي بین الفینة والأخری قصص میادین الجهاد ومن أیامه الذي كان مع الفاتح الشهیر الملا داد الله رحمه الله و…، وهذه الأیام كانت تصادف الفتوحات إثر الفتوحات في أفغانستان، وكنا نذاكر هذه الفتوحات فكان الشیخ یقول: تاقت نفسي لأرض الجهاد ولا أقدر البقاء ههنا، فكنت أوصیه بأن لا تترك الدراسة كاملاً،
فقال طیب وسأتعلم العلوم بعد الفتح إن شاءالله تعالی.
خلقه
كان الشهید المولوي محمود رحمه الله تعالی حسن السیرة والسریرة وذا همة عالیة تنطح السحاب.
وبما أنّ المدرسة كانت في قریة نائیة عن البلد، وبعض الأوقات نحتاج الی العمال ولا نجد، فكان الشیخ رحمه الله تعالی یعمل خالصاً لله سبحانه وتعالی بدون أجر دنیوي.
وكان رحمه الله تعالی صنع بیدیه غرفة لنفسه من الطین والصخرة، وبعد رحیله كان الطلاب یسكنون في هذه الغرفة برهة من الزمن. رحمه الله تعالی رحمة واسعة وأدخله في جنانه الفردوس آمین یارب العالمین».
بعد الغزوالامريكي لأفغانستان
وبعد الغزو الصليبي لأفغانستان وانسحاب القوات الإمارة من العاصمة كابول والولايات الشمالية استشهد معظم قادات الشیخ ووقع عناصر من مجموعته الذین كانوا في الخط النار الأول، اسراء بید الخائنین كدوستم في مزار شريف وبعضهم في كابول العاصمة.
وكذلك قصفت الأمریكان معسكر الشیخ الذي كان بجنب
الجبل الشهیر جبل ملك، واشتبكت قواتها مع المجاهدین فسقط الإخوة نهایة المطاف شهداء وكان الشهداء ثلاثین ونیفاً.
فكانت الشجون والآلام تمطر علی الشیخ، فجاء الشیخ رحمه الله لتنقل جثمان الشهداء حزیناً كئیباً، الا أنه كان قد رضي بما قدر الله سبحانه وتعالی واستسلم نفسه الی قضاء الله سبحانه وتعالی.
القائد محمود رحمه الله تعالی أول من أخرج إخوانه من السجون
إنّ الشیخ رحمه الله تعالی قد كان اول من بادر بإخراج
إخوانه من السجن، حیث جاء بأحد القادات وحلق لحیته وزوده بمال كثیر وقال امش علی بركة الله و بادر لإخراج إخوانك من السجن؛ لأنه كان مستیقناً أنّ الخونة عبید الدرهم والدّینار وقال له لا تفكر في المال أو شئ آخر بل إنما علي دفع الأموال.
فذهب الأخ الی مزار شریف لأن أكثر الإخوة كانوا سجناء في سجن شبرغان وكان عدد الإخوة اكثر من مائة وعشرین نفرا في السجون.
واجتهد الأخ في إخراجهم من جانب ومن جانب آخر كان الشیخ یجمع الأموال ویذهب الی الأثریاء فرداً فرداً ویطرق الأبواب باباً باباً ویجمع الأموال بالعناء والتعب ثم یرسلها الیه حتی أخرج كلهم بما فیهم أشهر القادات كالشیخ الحافظ غلام الله و القائد محی الدین وغيرهم…
یقول الشیخ عبد الرشید حفظه الله: « إن من أبرز میزات الشیخ هو أنه كان أول من أخرج جنوده الذین وقعوا في الأسر من أیدي العملاء والخونة».
نشاطات الشیخ رحمه الله بعد الإنسحاب
(الشیخ محمود رحمه الله ثاني من بدأ الجهاد بعد الإنسحاب بمجموعته المتواضعة)
یقول الشیخ عبد العزیز جهاد یار: لقد جمعنا الشیخ وعقد جلسة استشاریة فسئل الإخوة وقال: لقد كانت لنا حكومة إسلامیة وكانت لنا قدرة وشوكة فأخرجها الله
من أیدینا والآن نحن ماذا نفعل؟ نجاهد أم ماذا ؟؟
فقال الإخوة: نحن لا ننكر الجهاد لكن یا شیخ الآن القدرة بید الأمریكان وهي تملك الجوّ والأرض، إذا أرادت أن تهجم الی مكان فلا تبقي ولا تذر..
فقال الشیخ رحمه الله: إذاً إبحثوا دلیلاً ومبرراً في القرآن والسنة یعذرنا لدی الله عن الجهاد فنرجع إذا الی مدارسنا وبیوتنا؟
فأفحم الجمیع وأسكتهم، ثم لما رأی بأنهم ساكتون
لایجدون دلیلاً أسرد قائلاً: أراكم ما تجدون مبرراً یعذرنا عن الجهاد إذاً فلنجاهد ونبدأ هذه المهمة العظیمة وإذا بدأنا الجهاد ولكن قتلَنا العدو أوقطَعَ أیدینا وأبتر أرجلنا فنعتذر في يوم القیامة الی الله سبحانه وتعالی ونقول یا الله إننا قد بدأنا أمر جهادك لكننا كنا ضعفاء وفعل ما فعل بنا.
یقول الشیخ محمد رفیق _ الذي عیّنه الشیخ كمسئول مالي له في حیاته- : جمعنا الشیخ كي یبدأ الأمر وكنا سبعة عشر نفر، فذهب بنا الی إحدی الشعاب. فمكثنا هنالك نحو أربعین یوماً. وطیلة هذه الأیام كابدنا معانات شدیدة. وإن أكبر المعضلات هنالك هي أنّ البرد كان قارساً. وما كان هناك ماء وطیلة هذه الأیام كنا نتیمّم للوضوء ولغسل الجنابة و… حتی شكی الإخوة الی الشیخ وقالوا لو یمكن عملیة فلنعمل و..
فما كنا نمتلك الا بعض الأسلحة من الرشاش فاستعار الشیخ من الناس بعض أسلحتهم وكانت لنا سیارة واستعار الشیخ سیارة أخری من الناس ثم ذهبنا الی أول عملیة لنا وهي عملیة “چوتو” الشهیرة، وكانت تقریباً مصادفة بیوم عرفة عام 1423هـ.ق – 2002م أي بعد سنة من إنسحاب مجاهدي الإمارة عن أفغانستان.
یقول الشیخ محمد أمین: لقد كان توكل الشیخ في ذات الله سبحانه وتعالی في قمم الذروة؛ لأنه ثاني من بدأ حرب العصابات بعد إنسحاب المجاهدین من أفغانستان بعدد ضئیل ونفر قلیل، في حین سیطر الیأس والقنوط الجمیع ولم یكد أحد یجترأ بأن یجري إسم مجاهد علی لسانه.
ویسرد الشیخ قائلا: جاء الشیخ یوماً الی بیتي وقال: لقد بدأنا الجهاد مرة أخری – وكانوا قد نفذوا فعلاً عملیتین، كما أنه قصّ لي عن تفاصیلهما. ثم طلب مني بأن أخفي أسلحتهم وذخائرهم وسیاراتهم.
ولقد كانت الأوضاع حرجة؛ لأنّ العدوّ كان علی سطوة كاملة وبإمكانه أسر أي أحد، فامتنعت عن الإحتفاظ بالسیارة بدء الأمر، وقلت لسماحته: إنه لا یمكن لي أن أخفي السیارة مخافة أن یقبضوا عليّ ولكن من المیسور أن أشترك معك في أي عملیة أیان وحیثما كانت.
ولكنه قال لي: لا تزعج؛ أنا متعجب منك إنك الیوم لا تقدر بأن تخبئ سیارة فكیف بك اذا صارت سیاراتنا ثلاثین أو أربعین؟! یا شیخ! توكل علی الله.
إنّ الله سبحانه وتعالی یرید بأن ینصر المستضعفین من المجاهدین، ویمكن لهم دینهم الذي ارتضی لهم، ویذل العملاق العالم ویهزمه. هذا أمر الله سبحانه وتعالی حیث أمرنا بأن نجاهد، فعملت بهذا الأمر واستیقن نصراً مبینا منه سبحانه وتعالی لنا، فعلیك بأن تحفظ أشیائنا.
وقد كان الشیخ محمود رحمه الله تعالی یقصّ لنا ویقول: قد أتیت مع مجموعتي في الشعاب ومكثنا هنالك أربعین یوماً، الا أننا خططنا مع القائد الهمام الشهید الملا داد الله رحمه الله كی نبدأ العملیات في وقت واحد في أماكن مختلفة.
فلما آن میعاد العملیة الذي قررناه اتصلت بالقائد الملا داد الله وسئلتهم عن الخطة؟ فقال: نحن لم نوفق حتی نتجهز لهذه الخطة.
ویقول الشیخ: أما أنا فقد نفذت عملیتي {عملیة چوتو}، ثم اتصلت بعد المهمة من نفس الشعب الذي اتصلت من قبل لهم، وأخبرتهم عن تفاصیل العملیة الناجحة.
فسئلني الملا داد الله رحمه الله كم أسرت وكم قتلت؟ فأجبته: أنا تلمیذك فقلت ما قتلت من الكفار والعملاء إلا أنني لم أأسر أحدا لأن الضروف لاتسمح بذلك.
وإنما أقصد من هذا الكلام بأن هذه الأیام كانت من أصعبها وأحرجها؛ لأن جواسيس الأمريكان قد انتشروا في كل مكان.
واضاف رحمه الله تعالی: عندما نفذنا هذه العملیة ورجعنا سالمين وغانمين یأتي الجمیع الي ویقولون كیف رتبت هذه العملیة…
لأنّ هذا العمل الجرئ الفدائي كان ضرباً من المحال في مثل هذا الوقت والظروف الحرجة. انتهی قوله
ثم كان رحمه الله تعالی یغار بمجموعته بعد حین وآخر حتی فتح الله سبحانه وتعالی بیده مدیریة “دیشو” و”خانشین”.
ومن ذلك الزمن – أي قبل ثماني سنوات- صارت برافشة مركزاً للمجاهدین ومنطقة مفتوحة لهم یرتبون من هنالك العملیات في مدیریات وحتی الولایات الأخری. لأن الشیخ كما أنه كان مسئولاً عن نیمروز لكنه یساعد مجاهدي هلمند وقندهار وفراه وهرات و…
وقد عمل رحمه الله تعالی كعضو نشیط في الهیئة العسكریة للإمارة الإسلامیة بأفغانستان، ولكي نتعرف عن نشاطات هذه الهیئة شیئاً، نطالع السطور الآتیة:
{الهیئة العسكریة عبارة عن مجموعة عسكریة تشمل القادة العسكریین للولایات (29) الأفغانیة.
وتقوم هذه الهیئة بإجراء الأمور التالیة:
تخطیط وتنفیذ البرنامج العسكري للعملیات الجهادیة.
تجهیز وتنظیم المجاهدین في داخل الولایات الأفغانیة.
إنشاء وتأسیس معسكرات لتدریب المجاهدین في المناطق المحررة}.(7)
اهتمامه بالامور التعليمية وانشاء المدارس
إن القائد محمود رحمه الله تعالی كلما فتح منطقة أنشأ هنالك مدارس للطلاب ؛ لأنّ شیخه أوصاه بذلك.
یقول الدكتور أبوریحان البلوشي : وقد كنا في جلسة مع
شیخ التفسیر والحدیث العلامة محمد عمر السربازي رحمه الله فأوصی الشیخ رحمه الله، القائد محمودَ وقال له: علیك بإنشاء المدارس والمكاتب في أي منطقة تفتحونها.
وفي عهد الإمارة الإسلامیة بنی الشیخ مدرسة كبیرة في
دیشو ولقد زرت هذه المدرسة قبل ست سنوات وكانت كبیرة جداً لكنها كانت مخروبة؛ لأن العملاء عندما سیطروا علی المنطقة جعلوا بجنبها مركزا لهم وأخرجوا أبواب الغرف وباعوها لهم كما سرقوا النوافذ وحديد السقوف وغير ذلك من الأشياء القيمة حتی جعلوها مأویً للكلاب.
ثم لما فتح الله بیدیه برافشة أسس الشیخ فیها ثلاث مدارس للطلاب كل مدرسة یدرس فیها نحو المئتین وثلاثمائة طالب.
مواهبه الذاخرة
یقول الشیخ محمد أمین حفظه الله تعالی: لقد كان الشیخ محمود رحمه الله ذا سمات مرموقة منها أنه كان لدیه مواهب ذاخرة في تعرف الناس.
وأسرد قائلاً: عندما كنا في الخط النار الأول في الشمال، وكان هناك شخص اشتهر بأنه مجنون فیما بین المجاهدین، فكان یخالط المجاهدین والمجاهدون یظنونه مجنوناً وقد كانوا تركوه وشأنه، حتی رآه الشیخ شك علیه و بعد مدّة قصفت طائرات العدوّ خندق المجاهدین البدخشانیین. وبعد القصف ذهبنا مع الشیخ كی نخرج الشهداء من تحت الأنقاض، فرأینا بأن الطائرات الحربیة من النفاثات تجول مرة أخری؛ فأمرني الشیخ وقال: إذهب واقبض المجنون وأت به ههنا.
فقلت: ما تفعل به إنه مجنون!
قال: لكن تجربتي ترشدني بأنه جاسوس.
كان ذلك المجنون یراقب الطائرات فعندما أرادت القصف أراد أن یفر، فقبضنا علیه، وبعد التحقیق عرفنا بأنه جاسوس؛ بل اعترف علی سبع آخرین من الجواسیس
من دونه الذین یحادون الله ورسوله.
خدماته الجهادية
یقول الشیخ المولوی محمد أمین: وأحد أبرز صفات
الشیخ الخدمة الی الآخرین، وكلما أراد أن یتكلم للمجاهدین، كان یشحذ هممهم للخدمة الخالصة.
وكان رحمه الله تعالی بنفسه یخیط ملابس المجاهدین وجُعَبهم! كما أنه كان یسخن الماء لأفراده من المجاهدین.
ویغسل خَبَثَ الرصاصات بالنفط، ویصلحها.
وكان إعتنائه البالغ للمجاهدین الجدد حتی لا یتعقبوا عن الآخرین في الحروب، فكان جل اهتمامه بهم ویبذل قصاری جهده في ترشیدهم.
فعندما سیطر المجاهدون علی هرات كان طعامنا البطاطس كل یوم، ثم بعد ذلك زادوا حلیب رائب ففرحنا جداً علی هذه النعمة الوافرة وطلبنا منه اللحم، فكان یواسینا ویقول إصبروا الآن لا یوجد.
نعم؛ نحن كنا طلبة انذاك وهو أیضا لمّا تخرج من العلوم الشرعیة الا أنه كان كالجبل الشامخ لدی كل هذه المشقات والمتاعب، وكان یوصینا بالصبر والمصابرة.
لقد كان البرد قارساً جداً ولم تكن البطانیات كافیة للجمیع، فكان یوصینا بالصبر.
شجاعته رحمه الله تعالی
یقول الشیخ محمد أمین: لقد صاحبت الشیخ في كثیر من العملیات فوجدته أسداً مقداماً لا یهاب المنایا والحتوف. ولقد رأیته في معركة ینادي المجاهدین بأعلی صوته ویرشدهم وكان العدوّ یركز الهجوم علیه ویهدفه بأنواع الأسلحة، لكن الشهید لم یكن یبالي؛ بل كان یأمر المجاهدین ویرشدهم ویوصیهم وكان في الساحة كالأسد المغوار یثخن في أعداء الله.
كان رحمه الله یتردد دون أن یخاف في منطقة برافشة بینما كانت هذه المنطقة في ذاك الحین بید المرتدین.
ورعه وتقواه
كان رحمه الله تعالی متواضعاً ورعاً حلیماً، وكان یكافح الشر بأنواعه ویوهیه، وینصر الحق ویقویه، ونذكر فیما یلي نماذج من تقواه عن فیه الشیخ محمد أمین حفظه الله:
كلما أراد الشیخ بأن ینزل في مدرسة یدفع قبل كل شئ ثمن طعامه.
وفي یوم من الأیام ذهبت مع الشیخ رحمه الله لزیارة أحد المتبرعین فأكلنا الطعام عنده ثم لما رجعنا من بیته الی مكاننا قاء الشیخ جمیع ما أكل، ثم نظر الي وقال لي اذهب وتفحص عن اللحم الذي أكلناه عنده من أین جاء به.
وبعد مدة ذهبت وسئلت ذاك الشخص عن اللحم، فقال: لقد جاء متبرع بإبل للطلاب ولكن في هذا الوقت لا یوجد طالب فوزعناه بیننا.
ثم أخبرت الشیخ عن القصة فقال لأجل هذا لم یبق في بطني.
بینما كان الأساتذة یوماً یشوون اللحم والكبد لأنفسهم، فرأی الشیخ هذا المنظر حزن شدیداً ونهاهم عن ذلك وقال إن هذا حق الطلاب لا یحل لكم دونهم.
وكان یقول: «إجعلوا التقوی شعاراً لكم وملاك أمركم وكونوا كالخدام للأكابر والأولیاء وإن لم تفعلوا ذلك فلن تكونوا كباراً ورجالاً أحراراً».
سخائه رحمه الله
لقد كان رحمه الله له یدٌ طولی قد سلّطه الله علی هلكة المال في سبیل الله وخدمة الأبرار وكان یقسم هدایاه بین المجاهدین ولم یكن یجعل له منها نصیباً الا قلیلاً.
یقول الشیخ محمد أمین: ذات مرّة كنت مع الشیخ محمود رحمه الله تعالی عند أمیر كبیر، فأهدی ذلك الأمیر الی الشیخ مالاً باهظاً، فسلّمه الشیخ منه ثم أهدانيه وقال إن هذا المجاهد بحاجة ماسّة مني لهذا المال لأنه لدیه مریض.
یقول الشیخ جهاد یار: ذات مرّة ذهب بنا الشیخ رحمه الله تعالی لزیارة أساتذته فلما ذهبنا وزرنا أستاذه ومدرسته أراد الشیخ أن یهدي الی شیخه بعض الأموال ولكنه لم یكن معه مال وكان مع أحد الإخوة مال كان یرید أن یذهب به الی الحج، فقال الشیخ رحمه الله أقرضني مبلغاً ثم أردّه إلیك فأعطاه الذي طلب ثم هو رحمه الله أهداه الی شیخه، فحزنت في نفسي ولكني ما قلت له شیئا، فقال شیخه علیكم إن ذهبتم الی فلان منطقة أن تزوروا تلمیذاً لي وادعوا له ولمدرسته، فلما ذهبنا الی تلك المدرسة، فكان زعیم الجامعة یتكلم عن مشكلات المدرسة وما كانون یعانون من الفقر، فاستقرض الشیخ من ذلك الأخ مبلغاً وأهداه الیه، ثم لما ذهبنا من عنده غضبت علی الشیخ وقلت لسماحته ما بالك لا تجد درهما في جیبك ولكنك تستقرض وتدفع الی الآخرین؟ فنظر الي ثم قال: أنا متیقن بأن الله سبحانه وتعالی سیرده الي، الی أن رجعنا، فلما وصلنا الی منطقتنا، جاء أحد من المتبرعین وأتی بمائة ألف روبیة وقال هذا لبیت المال، ثم أخرج أربعین ألفاً وقال هذا لنفسك.
یقول الشیخ جهادیار: كانت الأموال بیده ثم قال لي: أنظر؛ أو لم أقل لك بأن الله سیبدلني بما أعطیت، ثم وزعها بیننا، وقال لا تظنوا هذا لي؛ بل إنما هذه الأموال في الحقیقة أموالكم.
إنني لایوجد فيّ میزة خاصة منكم الا أنني كأمیر لكم والناس إنما یریدون بأن یقتربوا من الأمراء، فیقدمون له الهدایا.
رؤياه الأخیر و استشهاده رحمه الله
یقول الشیخ محمد أمین: ولقد رأی الشیخ في المنام قبیل إستشهاده أنّ خیط مسبحته قد خرقت ونثرت فرزاتها، فسعی الشیخ أن یجمعها لكنه لم یقدر ثم عبر هو بنفسه عن منامه فقال : إنّ قاداتي سیستشهدون.
فكان الأمر كذلك حیث استشهد بدء الأمر القائد المیداني الكبیر الشهید أحمد الذي رثاه الشاعر الكبیر فقیر محمد درویش في شریط خاص له، والقائد المولوي محي الدین، والقائد المفتي نصر الله رحمهم الله جمیعاً.
وبعدما كابد الشیخ سيدنا المولوي محمود (سيف الله) رحمه الله تعالى المعاناة المضنیة في سبیل الله، وقضی معظم عمره في الجهاد والنضال والدعوة في سبیل الله، وجدّد الجهاد في قوم لم یكن لهم حظ في الجهاد إلا النزر الیسیر، جاد بروحه الی بارئها بأمن وأمانٍ وسلمٍ وسلام بمعية (16) شخصا آخرين، وفازوا جميعا بأمنياتهم يوم الجمعة (23-جمادى الأولى-1428هـ =/08-06-2007م)، وذلك بقصف جوي أمريكي غاشم مكثف على منطقة (تاغز) من توابع مديرية (خانشين-هلمند)، لتلقی ربها عزوجلّ راضیاً عنها، غیر ساخط ولا غضبان. { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30).(8)
إنا لله وإنا إليه راجعون، فالآن وإن حرمونا الاعداء من وجود الشيخ بقتله لكنهم لایقدرون بأن ینزعوه من صدورنا، وإن رحل رحمه الله عن العیون ولكن ما رحل بل طیفُ سَناه نقشٌ في الفؤاد، و ثنائه العاطر جارٍ علی ألسنة الألوف من تلامذته وأبنائه الذین ما برحوا یكملون مشواره ویواصلون طریقه الذي مهّده المغفور له بإذن الله لهم وعلی الأجیال اللاحقة.
فرحم الله شیخنا محمود رحمه الله وجمیع الشهداء ورضي الله عنهم وأرضاهم، وأدخلهم فسیح جناته مع الذین أنعم الله علیهم من النبیین والصدیقین والشهداء والصالحین وحسن أولئك رفیقاً.
………………….
حواشي حاضرالعالم الإسلامي للأمیر شكیب أرسلان، المجلد الثاني ص 197.
رواه أبو داود:4291
أنظر: دائرة المعارف الإسلامیة، 4/122، دارالمعرفة، دائرة المعارف معارف القرن العشرین محمد فرید وجدي، 9/318، مطبعة دارالفكر؛ معجم البلدان، یاقوت الحموي.
الكامل في التاریخ، لإبن الأثیر، 3/45، مطبعة دار صادر.
أنظر: معجم البلدان ج 5 ص 179- 180.
مجلة الجهاد، العدد (89)، ص42، صفر 1413هـ.ق اغسطس 1992م.
مجلة الصمود، السنة الثانیة، العدد 21، ص 15
سورة الفجر.