مقالات الأعداد السابقة

الصلح خير، ولكن …

تورجان مبارز

لاشك أن الصلح كلمة رنانة، أخّاذة، أثیرة. یحبها الجمیع ویمیل إلیها القاصي والداني. لا یوجد في العالم إنسان سلیم الفطرة لا يحب الصلح، أو یألو جهداً في سبیل تحقیقه. فكم من الدماء البریئة أریقت في سبیله، وكم من الأموال الباهظة اُنفقت لنيله. الصلح غایة مرموقة وهدف سامٍ. ومدار العیش السعید والمجتمع الآمن علی الصلح. فلا یمكن إنكار أهمیة الصلح في حیاة البشر. قال الله تعالی: “والصلح خیر”، وقد صدق الله تعالی. فلا نشك في خیریة الصلح، ولكن علینا أن نحدد مع من نعقد الصلح؟

في الأشهر المنصرمة تابعنا أخبار الصلح الذي عُقد بین حكومة كابل و”الحزب الإسلامي” بقیادة “گلبدین حكمتیار”. وصار الصلح حينها حدیث المحافل والنوادي.

وقد قام بعض المحللین السذج علی شاشة التلفاز بالاستدلال على أن حكومة كابل حكومة مسلمة؛ لمجرد تصالح حزب يدّعي أنه إسلامي معها، ولهذا يجب علی الجمیع التصالح معها. لا نرید إلقاء الضوء علی هذا الجانب، ولا ینبغي لنا أن نقوم بنقد مبادرة “الحزب الإسلامي” في الصلح مع حكومة العملاء. لكن الذي نريد أن نقوله هو أن الصلح مع العملاء لیست قضیة جدیدة، فإنه بعد احتلال البلاد الإسلامیة من جانب الغربیین في القرن الثامن عشر، هبّت ریاح الجهاد في جمیع أنحاء البلاد، فضحی المسلمون بالنفس والنفیس لإعلاء كلمة الله وتحریر البلاد. وبعد مدة واجه المحتلون هزیمتهم النكراء في تلك المعارك العصیبة، فانسحبوا من البلاد الإسلامیة في بدایة القرن العشرین، بعد أن كوّنوا حكومات عمیلة تخلفهم في تلك البلاد. ورغّبوا المجاهدین بالصلح مع تلك الحكومات العمیلة مقابل امتیازات عدیدة، ووعدوهم بالمشاركة الكاملة في الانتخابات وفي الحكومة. فرحّب بعض من لم یذق مرارة خیانة الغرب بهذه الخطوة، وألقوا السلاح، وشمروا عن ساعد الجد للمشاركة في العملیة السیاسية القائمة في عرض البلد وطولها.

لن ینسی التاریخ ذلك النشاط والحیویة والأمل الذي أبداه الإسلامیون بعد إلقاء السلاح. ولكن سرعان ما تغیر كل شئ. حيث قامت الانتخابات ولم یحصل أي إسلامي علی العدد اللازم للدخول في البرلمان، وبعد مدة قلیلة بدأ رجال الحكومة العمیلة بتضییق الخناق علی جمیع الحركات الإسلامیة وعلى النشطاء في مجال أسلمة البلد. فاعتُقِلت صفوة طیبة من العلماء والدعاة والمجاهدین والعاملین في حقل الدعوة الإسلامیة، وأُلقِي بهم وراء القضبان. هنا أفاق الجمیع من غفلتهم، ولكن فات الأوان! فقد استشهد كثیر من الشباب والقادة الإسلاميين، وأُریقت دماؤهم على مرأی من العالم، دون أي اعتراض علی هذه الجریمة النكراء. والمثل الحي على هذه القضیة هي طاجیكستان. إذ قام المجاهدون بتطهیر البلاد من جنود الروس الخبثاء، ولكن بعد أن انسحب الروس، قاموا بتشكیل حكومة عمیلة ثم رغّبوا المجاهدین بالصلح معها. وعندما تصالح المجاهدون مع الدولة العمیلة، ضُیقت أرض طاجیكستان علی المجاهدین بما رحبت. والیوم نشاهد آثار هذه الغفلة في ذلك البلد العریق في العلم والجهاد، فالقوانین الظالمة التي فُرِضت علی المواطنین الطاجیك، من نتائج هذا الخداع التاریخي المریر.

لذلك لا ینبغي لأي حركة جهادیة أن تغتر بوعود الغرب وعملائه، وأن لا تعتمد علی شعاراته ودعایاته. إن بعضهم من بعض. والمؤمن لا یلدغ من جحر واحد مرتین. ومع ذلك، هاهي التجربة التاریخیة -المصالحة مع حكومة العملاء- تعيد نفسها، وهذه المرة في أفغانستان. ألم یقاتل هؤلاء السوفییت بحجة حربهم على الدین والحجاب ونشر الإباحیة في البلد؟ فإن الأمريكان أيضاً  يفعلون ما فعله السوفييت. لماذا لا يتجرّأون على الاعتراض على نشر المسلسلات والأفلام الماجنة التي يبثها الإعلام الغربي!؟ لأنهم لم یعتبروا بما جری في بلاد ماوراء النهر، وتصالحوا مع المحتلین.

السكوت على جرائم المحتلین والعملاء، مرض یُصاب به كل من جنح للمحتلین والعملاء. وهذا الصلح المبرم بین حكومة كابل و”الحزب الإسلامي” سوف یكون نموذجاً آخر من جنوح إحدى الحركات الجهادیة إلی المحتلین، ثم خیانة المحتلین والعملاء.

الحقیقة التي لاریب فیها أن أمن البلاد، وتنمیة جوانب الحیاة، وتحقيق الصلح؛ نتیجة طبیعیة لخروج المحتلین والعملاء من البلاد الإسلامیة. والیوم يدّعي الأمریكان الخروج من البلد، لكن عملاءهم متواجدین في عرض البلاد وطولها، ليحققوا جمیع أهدافهم ومخططاتهم، والتي منها إبادة الإسلامیین والمجاهدین، وتطمیع المجاهدین بالصلح، ثم منعهم من أي نشاط إسلامي.

لذلك نقول: الصلح خیر، ولكن مع من یتصف بشروط الإسلام، لا مع العملاء الذین لا إرادة لهم في هذا المجال، والذين هدفهم قمع المجاهدین.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى